تقدم هذه الرواية شهادة مهمة عن فترة من التاريخ الصيني امتزج فيها الإنجاز بالقمع وترك أثره على نفوس البشر.
يحمل الأدب في طياته فلسفة وحكمة وقسطاً من الحقيقة، كما أنه يعبّر عن ذاتية الأديب، وتراثه وحضارته ومجتمعه والبيئة والظروف التاريخية التي يعاصرها. هذه من بديهيات العلوم الاجتماعية ولكنها أكثر انطباقاً على رواية الأديب الصيني الكبير جانج شيان ليانج (نصف الرجل امرأة). وهي رواية بالغة الأهمية والخطورة، ونظراً لذلك، فقد ترجمت إلى 27 لغة من مختلف لغات العالم، ومع الأسف ليس من بينها اللغة العربية، وإن كان العزاء أن من بينها اللغة العبرية! والعرب واليهود أبناء عمومة وبينهما صلة رحم، فإذا قصر أبناء لغة الضاد، فإن أبناء اللغة العبرية لن يقصروا أبداً، بل العكس يسارعون!
ولقد تصادف أن التقيت، وعددا من السفراء المعتمدين في الصين، مع الكاتب الصيني جانج شيان ليانج، وقام بدوره كمرشد لوفد السفراء في زيارتنا لمدينة الإنتاج السينمائي في إقليم ننشيا وهو رئيس اتحاد الكتّاب في الإقليم الذي يبلغ تعداده حوالي 6 ملايين نسمة وأكبر الأقليات المسلمة من قومية الخوى، ولذلك يطلق عليه إقليم حكم ذاتي لقومية الخوى المسلمة الذين يمثلون حوالي ثلث السكان، وقد أبدى الكاتب الصيني الكبير اهتماماً خاصاً بالعالم العربي وحضارته وتراثه، وأعرب عن تأثره لعدم ترجمة روايته للغة العربية، فوعدته بتعويض ذلك بكتابة مقال ثم السعي لترجمته للغة العربية. والتي أحاول بهذا المقال أن أوفي بشطر من وعدي له.
بقايا السجن
ونعود لخلاصة رواية (نصف الرجل امرأة) تدور أحداث الرواية حول شخص هو السيد (جانج يونج لين) اتهم بالاتجاهات اليمينية إبان الثورة الثقافية في الصين وتم إدخاله السجن حيث تعرض للتعذيب بشتى ألوانه وصنوفه، وأثناء وجوده بالسجن، كان يتخيّل ممارسة العلاقات الجنسية، وبعد خروجه، تعرف على فتاة وتزوجها، ولكنه عجز عن القيام بواجب الزوجية، واكتشف أن التعذيب ترك أثره على قواه الجنسية، وأثناء عمله في المزرعة، بحثت زوجته عن متعتها فوقعت في أحضان المسئول الحزبي في المنطقة، وعندما اكتشف ذلك عرض عليها الطلاق، ولكنها رفضت وتمسكت بالزواج منه، والقيام على خدمته ومساعدته بشتى الطرق. وتستمر أحداث الرواية ليحدث تغيير في الصين وتنتهي الثورة الثقافية، ويرد الاعتبار لبطل الرواية بواسطة رئيس الوزراء شو ان لاي الذي تقدم إليه بطلب لرد اعتباره. ولكن شو ان لاي توفى بعد ذلك، فقرر بطل الرواية طلاق زوجته، والسفر إلى بكين للتفرغ للنضال ضد عصابة الأربعة المشهورة، والتي كانت تقودها زوجة الزعيم الصيني ماو تسي تونج، وقد تم القضاء عليها خلال شهور من وفاة ماو، وتطهير الصين من شرورها، وقبل سفره، أكّدت له زوجته حبّها له رغم طلاقهما، وأكدت له أنه هو الرجل الوحيد في قلبها، حتى وإن تم اتصال جنسي بينها وبين رجال آخرين. ونجح نضال بطل الرواية وتولى (دنج شياو بنج) السلطة، واكتشف بطل الرواية أنه قد عادت له قواه الجنسية فجأة، وأن زوجته أو بالأحرى مطلقته بوقوفها إلى جانبه وتضحياتها نجحت في تحويله من رجل عاجز إلى رجل مكتمل الأهلية، وتذكر مقولة (أن المرأة محبوبة للغاية ولكن مع هذا فقد لا تتمكن من الحصول على الرجل الذي تتطلع إليه) وتنتهي الرواية بالقول (لقد جاء الربيع، فهل يعود جانج - بطل الرواية - إلى حضن زوجته السابقة (هوانج).
الرواية مليئة بكثير من التفاصيل ذات الطابع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي كانت تعيشه الصين على مدى عشر سنوات في فترة الثورة الثقافية التي عبر من خلالها الكاتب عن معاناته الشخصية، إذ سجن أكثر من مرة، كما وضع في معسكرات العمل وتحت الحجز التحفظي مرات عدة، وعانى من التعذيب متنوع الأشكال، ومن ثم، فإنه يعبّر في روايته عن تجربة حقيقية، ولعل ذلك يعكس المصداقية ويترك التأثير. واتسم أسلوب الكاتب فيما يتعلق بالجنس بالوضوح والصراحة، مما أثار بعض المحافظين من الشعب الصيني وفضح الكاتب الممارسات الخاطئة لسياسات الثورة الثقافية وقادتها.
والرواية تقع في 417 صفحة من القطع المتوسط، وصدرت في أواخر الثمانينيات باللغة الصينية ثم تتابعت الترجمات الخاصة بها لمختلف اللغات.
تفاعل الأدب والسياسة
ولاشك أن الدول النامية وخاصة دول الحضارات العريقة مثل الصين عانت ردحاً من الزمن من الديكتاتورية بأشكال مختلفة، وتحت مسميات متنوعة، ومازال الأدب يتفاعل مع السياسة، والأدب الصيني الحديث وثيق الصلة بالتطورات السياسية، وكان ذلك واضحاً منذ نشأة الحزب الشيوعي عام 1921، ومن أكبر قادته الأديب الصيني المشهور (تساي يوان بي) مدير جامعة بكين عام 1916 و (هوشيه) الذي دعا لتطوير أسلوب الكتابة الصينية و (تشون تو هسيو) عميد كلية الآداب، والذي كان أول سكرتير عام للحزب الشيوعي عند إنشائه عام 1921. وكذلك عندما أطلق ماو تسي تونج حملته (دع مائة زهرة تتفتح) لتكون مصيدة للعناصر المناهضة له أو بتعبير البعض لتكون طعماً لإخراج الفئران والثعابين من جحورها، ثم الانقضاض عليها، وهو ما حدث بعد ذلك على مدى عشر سنوات في الثورة الثقافية. ولقد كان من حظي أن أقوم بتحليل ودراسة للأدب الصيني، وارتباطه بالسياسة في رسالتي للماجستير بجامعة القاهرة والتي نشر جزء منها في كتاب بعنوان (السياسة والثقافة في الصين)، وصدر عام 1980 من مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام تحت رقم 42 من سلسلة المركز آنذاك. وقد استخدم الأدب في الصين كأداة رمزية للهجوم على الممارسات السياسية، ولجأ الأدباء إلى التاريخ لاستنطاق شخصياته منذ العصور القديمة، ولكن الواقع والحاضر كان هو الماثل في الذهن، والدعوة للتغيير كانت هي الشعار.
وكاتبنا السيد (جانج تشيان ليانج) ومعاناته في هذه الرواية الرائعة يعد نموذجاً فريداً، ولكن هناك كتابا أكثر حداثة برزوا في أواخر التسعينيات وبخاصة في مدينة شنغهاي بعد عصر الانفتاح الصيني تناولوا أثر سياسة الانفتاح على تطور القيم وظهور بنات الهوى واتساع الهوّة بين الفقراء والأغنياء وغير ذلك.
وهذا كله دلالة على حيوية الأدب الصيني وفعاليته ودوره في المجتمع، كما أنه دليل على أن النخبة المثقفة تحرص على القيام بدورها باستمرار في تنبيه المجتمع وإيقاظه للمثالب التي تظهر من جرّاء السياسات المتنوعة.