مختارات من:

(دورة العدواني) أعادت للشعر عذوبته وللشعراء أحلامهم

أنور الياسين

عندما اختار " الشعر العربي" مدينة أبوظبي، لتحتضن قوافيه، في تظاهرة احتفالية كبيرة استمرت أربعة أيام، كان يدعو في وضوح أحياناً، وتلميحاً في أحاييين كثيرة، إلى إعادة دفق الحيوية إلى شرايين "صحيفة العرب الأولى" وسجل أمجادهم، بعد أن كادت الأحداث المتواترة والحاملة لقسوة واستكانة، أن تنسيهم أجمل أحلامهم ومصدر فخارهم.

في هذه المدينة العربية الجميلة, كان ثمة موعد مع ذلك الحلم العربي, حين اجتمع مايزيد عن 400 مثقف وشاعر وناقد ومفكر من مختلف أرجاء بلاد العرب لإحياء ذكرى شاعر ومفكر عربي كبير أنجبته الكويت وأهدت فكره إلى وطنه الممتد من المحيط إلى الخليج.

كان المشهد مفعماً بالبهجة, حين انسابت المودة جامعة بين مثقفي العرب, بعد أن فرقتهم الحوادث غير السعيدة وخلافات السياسة وابتعاد المسافات, فانطلقت مشاعرهم لتؤكد وحدة الصلات وشراكة الهموم والمصائر والأحلام.

وخلال الفترة من 28 إلى 31 أكتوبر 1996 شهد المجمع الثقافي في أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة وفندق شيراتون فعاليات الدورة الخامسة لمؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري, والتي رعاها صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.

الاحتفال الذي بدأ حميمياً والذي أعاد إشعال جذوة الشعر من جديد, انطلق حاملاً شعار "الشعر والتنوير" لتكريم ذكرى أحد شعراء العربية المرحوم الأستاذ أحمد مشاري العدواني, وتوزيع جوائز المؤسسة المهتمة بالشعر والشعراء وافتتحه وزير الإعلام والثقافة في دولة الإمارات خلفان الرومي بكلمة ألقاها نيابة عن راعي المهرجان سمو رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.

انتماء الشعر ووظيفته

في الكلمة الافتتاحية اعتبر الرومي تنظيم تلك الدورة بمنزلة "بادرة طيبة تعزز الوجه العربي", مؤكداً في الوقت ذاته أن بلاده "تضم بحنان ومحبة تلك الدورة, محتفية بالشعر والشعراء" ومشيراً إلى أنه "لا توجد أمة من الأمم جديرة بالاحتفاء بالشعر والشعراء كالأمة العربية, فالشعر ديوانها منذ أقدم الأزمان, وهو لسانها وفنها ومستودع روحها" وانطلق من سرد هذه الحقيقة إلى التساؤل "هل تخلى الشعر في زمننا عن دربه, وذهب هائماً في أنفاق العتمة, والذات المنغلقة والخصوصية المنعزلة? أم أنه مازال يلبس ملابسه العربية العريقة: انتماء ووظيفة?".

ورد رئيس مجلس الأمناء عبد العزيز البابطين على هذا التساؤل مؤكدا أن "هذا اللقاء العربي وهذه التظاهرة الثقافية تصب في نهر الشعر الرقراق, ديوان آبائنا وأجدادنا الذي نحن أحوج مانكون للاجتماع من أجله, والالتفاف حوله, بعدما طوحت بنا تصاريف الزمان, وفرقتنا, ولم يعد لنا مانعتز به إلا ثقافتنا العربية التي هي المرتكز لأية تنمية اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية".

دور متميز

ولكن لماذا اختيار أبوظبي مكانا لعقد دورة عن الشاعر أحمد العدواني? ذلك ماأجاب عنه صاحب المؤسسة التي تقف شامخة في مجال الاحتفاء بالشعر والشعراء, مؤكداً أن اختيار "القاهرة" مقراً للجائزة جاء تقديراً لكون "مصر" قلب العروبة النابض ومركز الإشعاع الثقافي العربي, ولمساهماتها في مجال التربية والتعليم في دولة الكويت.

وكان اختيار الإمارات مكانا لهذه الدورة, عائداً إلى دورها الثقافي المتميز خليجيا وعربيا, إضافة إلى العلاقات التعليمية والتربوية الوثيقة التي تربطها مع الكويت منذ عشرات السنين, إلى جانب ما قام به "العدواني" في مجال التربية والتعليم في منطقة الخليج عموما, وفي الإمارات على وجه الخصوص.

وفي مؤتمره الصحفي الذي سبق الفعاليات كان البابطين قد اعتبر أن علاقة المال بالثقافة "حميمية" وعضوية, ومن غير الطبيعي الفصل بينهما, مستشهداً على ذلك بازدهار الثقافة العربية قديماً بمساهمات من الأثرياء, وداعياً إلى عدم الاعتماد فقط على ماتقوم به وزارات الثقافة والحكومات العربية التي تتقيد بالقوانين مما يجعل حركة الأفراد ورجال الأعمال أسرع وأقوى, وذات انسيابية لمصلحة الثقافة.

"البابطين" الذي دعا رجال الأعمال إلى الإسهام في مجالات الثقافة, أكد أن تنقل الاحتفال بالجائزة في الوطن العربي والذي شمل حتى الآن ثلاثة بلدان عربية, كانت القاهرة أولها حيث احتضنت في العام 1990 الاحتفال بالدورة الأولى, مروراً بالدورة الثانية في العام 1991, ثم الدورة الثالثة التي أقيمت في العام 1992 وخصصت للشاعر محمود سامي البارودي, فيما اختيرت مدينة فاس مكانا للدورة الرابعة التي تم تخصيصها للشاعر "أبي القاسم الشابي" عام 1994, وكانت الدورة الأخيرة التي استضافتها أبوظبي هي الخامسة, فيما ستكون العاصمة السورية "دمشق" هي المقر المختار للدورة السادسة والتي أعلنت مؤسسة البابطين عن تخصيصها لتناول حياة وأعمال الشاعر "الأخطل الصغير" خلال شهر أكتوبر 1998.

البابطين أكد أن تنقل أماكن الاحتفالات ليس عائداً لاعتبارات سياسية مبيناً أن مؤسسة الجائزة, بعيدة تماما عن هذه الأمور, وأنها ثقافية محضة وليست إقليمية بل عربية المنشأ وتتوجه لكل الشعراء والمثقفين العرب, أما التنقل من بلد إلى بلد فهو لإثبات هذه الهوية العربية, مشيراً إلى أن تقسيم الجائزة للمنطقة العربية قد جاء وفق أربع مناطق هي دول المغرب العربي, ودول الخليج العربية, وبلاد الشام ثم مصر والسودان واليمن في منطقة واحدة.

طموح مستقبلي

وحين سألناه عن طموح المؤسسة, قال إن أركان التمويل قد اكتملت لهذه الجائزة, وأن الإعلان عن ذلك سوف يتم قريباً, أما التوسع في أعمال المؤسسة فإنه يتم وفقا لخطوات واسعة لكن متئدة, مؤكدا في هذا الصدد أن الجائزة قد خطت خطوات واسعة وثابتة منذ تأسيسها في إطار مساع جادة لإعادة الثقة بالنفس للشاعر والمثقف العربي.

البابطين أوضح أيضاً أن الهدف الأساسي للمؤسسة هو إثراء حركة الشعر العربي ونقده, وتشجيع التواصل بين الشعراء والمهتمين بالشعر العربي وتوثيق الروابط بينهم من خلال:

ـ إقامة مسابقات في الشعر العربي وفي نقد الشعر.

ـ طبع بحوث الندوات التي تنظمها المؤسسة ووقائعها وبعض الكتب الأخرى المتصلة بالشعر والشعراء.

ـ تكريم المبدعين العربي في مجال الشعر ونقده, والدراسات والأبحاث الحديثة حوله.

ـ إصدار المعاجم المتخصصة للشعراء العرب أينما وجدوا, والتعريف بإنتاجهم.

ـ إنشاء مكتبة مركزية للشعر العربي والدراسات الأدبية والنقدية والتاريخية المتصلة بالشعر والشعراء.

وحول المشاريع المستقبلية أوضح رجل الأعمال عبد العزيز البابطين أن مجلس أمناء المؤسسة قرر إصدار الطبعة الثانية من معجم "البابطين" للشعراء العرب المعاصرين, لتضم أكبر قدر ممكن من الشعراء العرب الذين فاتهم المشاركة في الطبعة, خاصة هؤلاء الذين لم يتمكنوا من إرسال استثماراتهم للمؤسسة, أو ممن كانت استثماراتهم غير مكتملة, أو لتعديل بعض المعلومات الخاصة بأي منهم, والتي طرأت بعد صدور الطبعة الأولى.

وأشار أيضا إلى نية المؤسسة لإصدار معجم آخر يتم تخصيصه للشعراء العرب "المحدثين" بعد النجاح الذي لقيه المعجم الأول عن الشعراء العرب المعاصرين, وقد أقر مجلس الأمناء الخطوة الجديدة خلال اجتماعه في شهر يونيو 1996 والتي سيتم من خلالها تغطية الفترة من 1840 ـ 1990 على أن يضم تراجم مناسبة للشعراء العرب الذين توفاهم الله في هذه الفترة ومختارات من أشعارهم, إضافة إلى مدخل مناسب للحركة الشعرية العربية في مرحلة التحولات.

ثلاثة محاور

وفي الدورة الخامسة والتي شهدت فعالياتها مدينة أبوظبي ارتكزت مناقشات الندوات على محاور ثلاثة:

المحور الأول حول شعر العدواني, والمحور الثاني خصص لتناول رؤية النقد والتغيير والتجريب في شعر منطقة الخليج والجزيرة العربية, أما المحور الثالث فقد كان حول مرجعية القصيدة العربية المعاصرة.

وخلال تلك الدورة وزعت المؤسسة جوائزها على الفائزين الذين تم اختيارهم من بين 337 متقدما لأفرع الجائزة الأربعة, ففي مجال "أفضل قصيدة" تلقت اللجنة التحضيرية للجائزة 205 قصائد استبعدت منها 59 وقبلت 146, وفي مجال "أفضل ديوان" تلقت 96 ديواناً استبعدت منها 16 ووافقت على إدخال 80 ديوانا ضمن المسابقة, أما في مجال "نقد الشعر" فقد تلقت 28 دراسة لم تستبعد منها واحدة, وفي المجال الأخير للجائزة والمخصص "للإبداع الشعري" فقد تلقت 8 إبداعات استبعدت واحدة منها ووافقت على قبول 7 منها في إطار التنافس حول الجائزة.

جائزة الإبداع الشعري

وفيما تم حجب جائزة "أفضل ديوان", فإن جائزة الإبداع في مجال الشعر قد فازت بها الشاعرة "نازك الملائكة" التي تعد من أوائل المجددين للشعر العربي الحديث بقصيدتها "الكوليرا" 1947 مع بدر شاكر السياب الذي كان هو الآخر قد نشر قصيدته "هل كان حباً" في العام نفسه, وقد اعتبرت القصيدتان بداية حركة التجديد في الشعر العربي المعاصر أو ماسمي بالشعر الحر.

وقد أصدرت نازك الملائكة المولودة في عام 1923 في بغداد العديد من الدواوين الشعرية ومنها: عاشقة الليل "1947" وشظايا ورماد "1949" وقرارة الموجة "1957", وشجرة القمر "1965", ومأساة الحياة أغنية الإنسان "1977", وللصلاة والنورة "1978", ويغير ألوانه البحر "عدة طبعات", والأعمال الكاملة "مجلدان".

وفي حيثيات منح الجائزة رأت اللجنة أن "ريادة نازك الملائكة للشعر العربي الحديث تجعل من هذه الجائزة حقاً لها لامرية فيه, فهي التي شقت منذ الأربعينيات للشعر العربي مسارات جديدة مبتكرة, وفتحت للأجيال من بعدها بابا واسعاً للإبداع دفع بأجيال الشعراء جيلا بعد جيل إلى كتابة ديوان من الشعر جديد يضاف إلى ديوان العرب, وصارت فيه القصيدة العربية متنوعة الأشكال والأجناس, وأتاح للغة الشعرية أن تتنامى وتتطور وتتنوع, وتنطلق في المغامرة والتعرف على إمكانات اللغة وإعجاز بيانها, فعم الثراء الإبداعي ثقافتنا بفعل الشاعرة وزملائها من الرواد".

اللجنة أيضا رأت أن "نازك الملائكة استحقت الجائزة للريادة في الكتابة والتنظير والشجاعة في فتح مغاليق النص الشعري, كما أن أعمالها الشعرية والنقدية المتعددة, مدت الجسور بين التجربة الرومانسية العربية الثرية والإبداع الحديث, مما أخرج القصيدة من مأزق الذاتية والفردية إلى النص الجماعي الذي يأخذ بهموم الإنسان ويجسد آماله وطموحاته إلى التحرر والإبداع الخلاق, وكل الذين ساروا في أثرها وجدوا أنفسهم مبدعين لامتبعين مما يعني أنها كشفت الغطاء عن إمكانات مخبوءة في اللغة العربية لاتقع تحت ثقل الموروث العظيم, بل تجري مساوقة له ومضيفة إليه, ومغنية إياه".

نقد الشعر

أما جائزة الإبداع "في مجال نقد الشعر", فقد جاءت من نصيب الناقد الدكتور صلاح فضل الذي كتب العديد من المؤلفات النقدية ومنها "منهج الواقعية في الإبداع الأدبي", ونظرية البنائية في النقد الأدبي", و "إنتاج الدلالة الأدبية", و"مناهج النقد المعاصر" و"أساليب الشعر المعاصرة".

ورأت لجنة منح الجائزة في حيثياتها, "أن أعمال الدكتور صلاح فضل جديرة بالجائزة من حيث إنها أخذت أولا بالتعريف بالنظريات النقدية عبر التأليف والترجمة والتقديم العلمي الرصين".

وأشارت إلى أنه أتبع ذلك بدراسات تطبيقية تستكنه أصول الكتابة في النص الشعري العربي, وترصد النواميس التي تبني كيانه في أساليبه وأجناسه وتجلياته الإبداعية المعاصرة, مما فتح آفاق قراءة الشعر قراءة نقدية, إضافة إلى استقباله الذوقي التأثري, فأسهم بذلك في تطوير فعل القراءة, وتنويع أشكال التفاعل مع الإبداع الأدبي.

وجاءت جائزة "أفضل قصيدة" من نصيب الشاعر محمد محمد الشهاوي وله من الدواوين الشعرية "ثورة الشعر", و"قلت للشعر" و "مسافر في الطوفان" وقد رأت اللجنة "أن قصيدته "المرأة الاستثناء" تحقق شعريتها من خلال التقاطها للرموز المألوفة بتفريغها من مألوفيتها وإقصاء ذاكرتها ومعارضها القديمة, ومن ثم إعادة تشكيلها برسمها في جديد الكتابة, فتكثف المجاز واتسع مجال الإيحاء وتفتحت دلالات الرموز والمجازات".

إقبال جماهيري كبير

وكان برنامج ندوة "الشعر والتنوير" التي صاحبت فعاليته أعمال الدورة الخامسة, قد حظي بإقبال كبير من الجماهير المحبة للشعر, وشارك الحضور إلى جانب الحشد الضخم من الكتاب والشعراء والمثقفين, عدد من وزراء الثقافة العرب من مصر والأردن وتونس والمغرب وموريتانيا إضافة إلى وكيل وزارة الإعلام بدولة الكويت فيصل الحجي.

وتضمن البرنامج الذي امتد لأربعة أيام, ست جلسات تم من خلالها تغطية المحاور الثلاثة, إضافة إلى أمسيتين شعريتين لنخبة من شعراء العربية.

وقد شهد اليوم الأول بحثين حول الشاعر الراحل أحمد مشاري العدواني, إضافة إلى شهادتين واحدة لشاعر والأخرى لناقد.

في البحث الأول تناول د. مرسل فالح العجمي "بنية الشكل في شعر العدواني" مشيراً إلى أن الشاعر أحمد العدواني, كان واحداً من أولئك الرجال الذين يكرهون الضوضاء اليومية, والصخب الإعلامي والنجومية الاجتماعية, ولهذا فهو يفضل على هذه الأمور, الارتداد إلى الذات, والغوص في النفس, في بحث عميق عن معنى الحياة في هذا الوجود, ويضيف الباحث, أنه من أجل تحقيق ذلك, انصرف "العدواني" يرقب ويرصد ويحلل المجتمع والإنسان, ثم تنقل في البحث إلى تأمل ذاته, في محاولة أخيرة جاهد فيها أن يلملم شتاته النفسي الذي بعثره ظرفه التاريخي.

وهنا يؤكد البحث, أن من يعرف أحمد العدواني, ثم يقرأ شعره, يحس كأنه أمام رجلين مختلفين, فبينما يعرف رجلاً هادئاً فكهاً حاضراَ في مجتمعه على المستوى الإداري والثقافي, يقرأ لرجل ثائر متجهم, ينأى بنفسه عن مجتمعه إلى حد القطيعة التامة.

ويوضح د. العجمي ذلك, عندما يشير إلى ديوان (أجنحة العاصفة) للشاعر الراحل, والذي يبدو فيه أن موقفين متمايزين قد شكلا تجربة الشاعر في العالم, والموقف الأول هو موقف الساخط, والثاني هو موقف المتوحد.


ولم أر في طعام أو شراب
ولا في ملبس إلا تعلة

كأني سابح في غمر بحر
ذائبه الزعازع مستقلة

المضمون في شعر العدواني

البحث الثاني تناول فيه الدكتور عبدالله المهنا "بنية المضمون في شعر العدواني", مؤكداً أن الشاعر الراحل ينتمي إلى مرحلة التنوير العربية, وكانت تجربته التي بدأت منذ أواخر الأربعينيات هي خياره الأول في معركة التنوير.

يضيف الباحث أن البنية الفكرية لدى العدواني تتمثل في عدد من المضامين الشعرية التي دافع عنها ومن أهمها جدلية الرؤية الذاتية للأنا عن طريق استكشاف عناصر الوعي في الذات المبدعة من خلال نقد الواقع وتحليله والتمرد عليه والدعوة إلى تغييره, فكانت الأنا قلقة حائرة عميقة الخلاف مع الواقع.

أشار الدكتور المهنا أيضا إلى أن من بين هذه المضامين التي اهتم بها الشاعر الراحل "جدلية الموت" الذي يأخذ بعداً جوهرياً في البنية المعمارية لعدد غير قليل من قصائد العدواني, وهذا الإحساس الطاغي بفكرة الموت والإلحاح عليها من خلال التكرار النصي أو التوازي المضموني ينبثق من واقع مواز لواقع الموت, تتجلى عناصره وفق مستويات التصنيف الاجتماعي التي تسم الخارجين عليها باللعنة والكفر, وتمنح المنافقين لها أرفع النياشين, فالموت مجاناً للفئة الأولى, والرفاهية للفئة الثانية.

من بين المضامين أيضا التي أوردتها الدراسة, ماوصفته بنقد الواقع ومراجعته, حيث أشارت إلى ماآلت إليه أوضاع الحياة في العصر الذي عايشه العدواني, حيث انقلبت المفاهيم والقيم والأعراف إلى نقائضها في نظام من التبادلية غير السوية في الأدوار والمواقع, مما كرس في نفس الإنسان الخنوع والنزوع إلى الطاعة العمياء والرضا بالمهانة والذل, وهو مفهوم يوازي مفهوم الموت عند العدواني, كما أنه يمثل في الوقت نفسه مشكلة الإنسان العربي المعاصر الذي يرتعد خوفاً من المطالبة بالحرية, لأنه يدرك ماتنطوي عليه من تبعات ووسائل قمعية, وهذا الأمر هو الذي جعل العدواني يعيد قراءة الواقع من جديد.

يشير الباحث أيضا إلى أن السخرية عند العدواني تمثل الثورة التمرد والصمت, كما تحمل موقفا أو قضية لأنها منهج حياة, لكنها لاتصل إلى حد الإسفاف.


تخطى النصر خواض المنايا
وصال السيف في كف الجبان

شهادتان نقدية وشعرية

وفي شهادته التي قدمها عن مشروع العدواني الشعري, تحدث الناقد الدكتور جابر عصفور عن الأديب الراحل, كشاعر رافض, ومثقف شارك في تأسيس حركة ثقافية مهمة في الكويت خلال الستينيات والسبعينيات, من خلال مساهمته في مجلة عالم "عالم الفكر" التي صدرت عام 1970, ثم بإنشائه معهد الدراسات المسرحية في الكويت, والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عام 1973 ليكون منارة الاستنارة التي انطلقت منها "عالم المعرفة" و "الثقافة العالمية" وغيرها من المطبوعات.

يضيف د. عصفور "إن المشروع الثقافي التنويري للعدواني يتحدد بالإيمان بقدرة الإنسان على التقدم, وبالإيمان بالحرية بوصفها السبيل إلى هذا التقدم, واحترام مبدأ الحوار, لأنه أسلم الطرق للوصول إلى الحقيقة بما تنطوي عليه الكلمة من إشراق ومسئولية والتزام لايحدده إلا ضمير الكاتب, إضافة إلى الدعوة لاستيعاب منجزات العالم المعاصر والانفتاح على روافده, ورفع الوصاية عن الفكر لتأييد القدرات الخلاقة للمفكر على الاختيار, والإلحاح على دور الطليعة التي تضيء طريق التحرر العربي".

ويشير د. جابر عصفور إلى أن "العدواني لم يكن في شهرة أدونيس أو عبدالصبور أو محمود درويش, ولم يفرغ للشعر أو يفرغ له الشعر, بما يحقق له كثافة إبداعهم الشعري, ولكنه كان مثلهم يؤمن بأن الشعر شعائر تستنبت الخصب من الأرض اليباب, ربيعية تبعث الحياة في الصحراء".

وقدم الشاعر فاروق شوشة هو الآخر شهادته حول الشاعر أحمد العدواني, امتزج فيها الحب والإعجاب بالموقف الشعري الذي حملته قصائد الشاعر الراحل.

قال شوشة "إنني أقدم هذه الشهادة من قارىء متذوق لشعر العدواني, ومن إنسان وقف على رؤى الشاعر, وأحاسيسه المتمردة الرافضة التي فاضت بها القصائد".

وقارن فاروق شوشة بإسهاب رافضة المواقف المصاحبة للشعر عند العدواني ومثيلتها عند فهد العسكر, مشيراً إلى أن قصائد الأول ذات شعرية رافضة تتطلع إلى المستقبل, وأن العسكر كان ذاتا رافضة ومرفوضة لأن شعره كان فيه اتجاه إلى الانغلاق حول الذات, وقد استفاد العدواني كثيراً مما واجه فهد العسكر.

دراسات وبحوث

وقد شهدت أيام الدورة تناول العديد من الدراسات المتعلقة بالشعر العربي ففي اليوم الثاني تم عرض بحثين الأول قدمه الدكتور محمد حسن عبدالله واستعرض فيه شعر خالد الفرج وعبد الله الخليلي ومحمد محمود الزبيري وعبد الرحمن المعاودة. وقدم الدكتور عبدالله المعيقل دراسة في شعر إبراهيم العريض, ومحمد حسن عواد. فيما شهد اليوم الثالث دراسة قدمها الدكتور علوي الهاشمي عن شعر أحمد الصالح وخليفة الوقيان وسيف الرحبي, إضافة إلى دراسة أخرى عن شعر قاسم حداد وعارف الخاجة ومحمد الثبيتي, قدمها الدكتور منيف موسى.

أما الدكتور على عشري زايد فقد قدم دراسة حول "مرجعية القصيدة في مصر والسودان", فيما استعرض الدكتور فايز الداية في بحث منفصل "مرجعية القصيدة في المشرق العربي".

وفي اليوم الختامي للمهرجان قدم الدكتور محمد لطفي اليوسفي دراسة حول "مرجعية القصيدة في المغرب العربي", فيما تناول الدكتور سعد البازعي "مرجعية القصيدة في الخليج والجزيرة العربية".

وقبل أن يسدل الستار على فعاليات الدورة الخامسة لمؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري, انطلقت حناجر الشعراء في أمسية رائعة شهدها المجمع الثقافي في أبوظبي, تعانقت فيها قصائد عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف, إلى جانب مقطوعات شعرية من قصائد بدر شاكر السياب.

لقد كانت أياما رائعة قضيناها في أبوظبي, التي تحتل هذه الأيام موقعاً ثقافيا مميزاً, وعدنا من هناك محملين بحلاوة الشعر, وعذوبة الحلم العربي العائد.

أحمد مشاري العدواني في سطور

يعتبر الراحل أحمد مشاري العدواني من أوائل التربويين الذين وضعوا الثقافة نصب أعينهم وهم يتولون مهامهم في بداية النهضة التعليمية الحديثة في الكويت, فقد شارك في تحرير مجلة البعثة التي كانت تصدر في القاهرة عام 1947. وكان هو تلميذ البعثات الأولى للكويتيين إلى القاهرة حيث وصلها لكي يتعلم في الأزهر عام 1939.

وعندما ترك أحمد العدواني المجال التربوي, واتجه إلى المجال الإعلامي في وزارة الإعلام بالكويت كان وكيلاً مساعداً للشئون الفنية ويرعى مجلة "العربي" وأسس سلسلة "مسرحيات عالمية" كما أسس أيضا مجلة "عالم الفكر", وأسس المعهد العالي للفنون الموسيقية وهو أيضا من مؤسسي عدد من المراكز الثقافية المهمة في الكويت خلال هذه الفترة.

وعندما اتخذ قرار إنشاء المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب تم اختياره عام 1973 أمينا عاما لتأسيس هذا المجلس والذي مكث فيه خمسة عشر عاما متصلة استطاع أن يضع خلالها اللبنات الأساسية لهذا المشروع الحضاري المتميز, حيث تولى تأسيس ورئاسة تحرير سلسلة الكتاب الشهري "عالم المعرفة" عام 1978 وأسس أيضاً ورأس تحرير مجلة "الثقافة العالمية" عام 1981 كما أسس معرض الكويت للكتاب.

أصدر أحمد العدواني ديوان "أجنحة العاصفة" وهو ديوان متميز وترجم الكثير من قصائده إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والصينية والإسبانية.

أنور الياسين مجلة العربي ابريل 1997

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016