المؤلف: سلفادور دالي
ترجمة: كتاب الهلال
ترى (السريالية) في الغيب والخرافة والطاقات الخفية مصادر أساسية للإبداع الأدبي والفني, وقد جمعت أطراف خيوط الأزمة الغربية في ممارسة عملية مادية وروحية وعقلية, ولاعقلية وعدمية وخرافية, نسجت هذه الخيوط كلوحة جوبلان تعبر عن أزمة الغرب, لكنها لم تنسج منها فلسفة متكاملة متزنة, أو وضعت للأزمة حلا.. والفنان العالمي (سلفادور فيليب دالي) سيريالي بهذا المعنى فقط, يمارس المتناقضات ويعبر عن أزمة حضارية, ولكن لا يُطبق مبادىء السريالية أو يأخذ بحلولها.. فمبادئها وحلولها باختصار لا يمكن تطبيقها في عالم غير سريالي.
والسيريالية كمذهب للإبداع الأدبي بالدرجة الأولى, ثم الفن التشكيلي, ضمت قائمتها أسماء لم تعرف السريالية, ولم تسمع عنها.. فلاسفة وأدباء وفنانون نهجوا المنهج الباطن في السلوك والإنتاج, ولكن السريالية في مرحلتها الجديدة لم تعد ما كانت عليه من قبل مجرد حركة أدبية من بين الحركات الأدبية الأخرى, ولكنها أصبحت الآن مذهبا مفتوحا له تأثيره الفعال على المجتمع والفكر والفن في هذا العصر.
ولعل تلك المذكرات المهمة للفنان التشكيلي العالمي (سلفادور دالي) التي دونها بالإنجليزية منذ أكثر من ثلاثين عاما, وأمكن ترجمتها أخيرا ونشرها تحت عنوان (يوميات عبقري) إصدار دار الهلال في سلسلة (كتاب الهلال), ليست بمثابة المذكرات اليومية بالمعنى الدقيق, فأحيانا يُسهب في الكتابة, وأحيانا أخرى يكتب في اقتضاب شديد, ومرات ثالثة لا يكتب على الإطلاق, فقد استنفدت كتاباته اليومية عامي 1952, 1953 أكثر من نصف صفحات الكتاب, أما الأعوام من 1954 إلى 1959 فلم يكتب فيها شيئا في حين حجب يومياته التي كتبها عام 1961 وكتب عليها (سري جدا).
صدر هذا الكتاب في 235 صفحة من القطع الصغير وزود ببعض أعمال (دالي) الملونة, ويعتبر إضافة حقيقية للمكتبة العربية, فضلا عن كشفه للسيرة الذاتية والحياة اليومية والتصرفات الصغيرة لفنان اتخذ من السريالية حياته الفنية والدعائية معا. وقد فكر (دالي) لسنوات طويلة قبل أن يقرر نشر يومياته التي أطلق عليها في البداية (حياتي السرية) لتكون تابعة لكتابه الذي سبق له أن أصدره (حياة سلفادور دالي السرية), لكنه اختار أن يسميها (يوميات عبقري) أحد العناوين الأكثر ملاءمة, التي زيّن بها أولى كراساته التي استخدمها لكتابة هذه اليوميات.
أمراض دالي
وطوال حياة (دالي) ومنذ مطلع شبابه وهو مصاب بمرض التقلص المعوي حتى أنه في 28 أغسطس عام 1953 قال:
(أحمدك يا ربي أنك أصبتني بذلك الاضطراب المعوي, فذلك ما كان ينقص توازني.. سبتمبر على وشك أن يمارس صلاحياته, فيه يزداد الناس وزنا, بينما يجنون وينتحرون في يوليو, هكذا تقول الإحصاءات)
وعلى الرغم من انفلات العواطف الجياشة لدالي في أغلب الأحيان, فإنه مارس على نفسه ضغوطا خاصة بأنظمة الطعام لتجنب تلك التقلصات الناتجة عنه, فضلا عن أنه كان يفضل دائما أن يكون نحيفا, بعيدا عن البدانة حتى يبدو أمام محبي فنه, أنه يتمتع بالشباب في الصحة والأفكار والفن.
وفي يوليو عام 1952 قال في يومياته:
(حين استيقظت في السادسة صباحا, كانت أول حركة عملتها, أن لمست بطرف لساني البثرة الصغيرة على جانب فمي, كانت ساخنة ومبهجة على غير العادة, لكنها جفت خلال الليل, ودهشت لأنها نشفت بسرعة, وبدت من لمسة لساني كشيء صلب يمكن نزع قشرته, قلت لنفسي (ستكون هذه لعبة ممتعة, لن أنزع القشرة فورا, فذلك سيكون تطبيقا أحمق لمباهج يوم عمل طويل, ألعب خلاله بقشرة البثرة الجافة)).
ثم مضى يقول في يوم آخر:
(كالعادة, بعد ربع ساعة من الإفطار, وضعت زهرة ياسمين خلف أذني ودخلت التواليت, كانت حركة الأمعاء جيدة, بل أنقى ما حدث معي أخيرا, إذا كان هذا الوصف مناسبا في مثل هذه الظروف, أرجع سبب ذلك إلى تقشفي.. وأتذكر باشمئزاز ورعب تقريبا, حركة أمعائي في فترة الصعلكة في مدريد مع لوركا وبونويل, حين كنت في الحادية والعشرين من العمر, شيء لا يمكن التحدث عنه, هوان ساحق, ومتواصل, وتشنجي, وجهنمي, وانفعالي, ووجودي, ومبّرح ومدم إذا قورن بما عليه الأمر اليوم, حيث يسير كل شيء بيسر وسهولة يجعلني أفكر طوال اليوم في نحلة مشغولة بإفراز العسل).
و(دالي) يتميز بالوسوسة والنظام الدقيق, فله طقوس يومية لابد من المرور بها واحدة تلو الأخرى, وعندما ينتهي منها تماما ويطمئن إلى سلامة تلك الطقوس, يبدأ في ممارسة فنه منذ الصباح وحتى ساعة متأخرة من الليل, ذلك إذا كان معتدل المزاج ولديه الرغبة في الانتهاء من حلول مشاكل لوحاته, بالإضافة إلى أحلامه وخيالاته الواسعة التي تحول تلك الفرائض اليومية إلى خيالات عارمة على سطح لوحاته.
أحلام سلفادور
في العام الأول الذي كتب فيه (دالي) يومياته.. وفي 14 يوليو قال: (حلمت بفارسين, أحدهما عار تماما, والآخر كذلك, كانا على وشك الدخول إلى شارعين متماثلين, يرفع حصاناهما القدم ذاتها, ويدخلان الشارعين على التوالي, أحد الشارعين يفيض بنور شديد, بينما الآخر شفاف كما في لوحة رافائيل (زواج العذراء).. وعلى البعد يوجد كثير من البللورات, وفجأة امتلأ أحد الشارعين بضباب متحرك بدأ يتكاثف بالتدرج حتى كون لجة رصاصية لا يمكن اختراقها, كلا الفارسين كان سلفادور دالي, أحدهما حبيب (جالا) والآخر لا يعرفها).
ولأن (دالي) استلهم أغلب لوحاته من أحلامه, بالإضافة إلى قراءاته العديدة لسيجموند فرويد, فإن تلك اللوحات العظيمة, نبعت من هذه الأحلام بعد إضافة محصلة القراءات والتطبيقات العملية في حياته, الأمر الذي يجعل ليله ونهاره يعيش تلك الأحلام, وإن لم ترد له, فيستيقظ ليكوّنها بنفسه بالقلم الرصاص على الورق, فهذا الحلم الذي شاهده دالي والذي يزج فيه حبيبته (جالا), هو أحد أحلام اليقظة.. لذلك قال دالي في 7 سبتمبر عام 1952: (انغمست في حالة نشوة من أحلام اليقظة التي تمهد الطريق لاستعادة مشاهد الحفلة, وأنا أحس بالفعل بالتواصل (البروستي) بين بورت ليجاث وفينيسيا. في الساعة السادسة لاحظت ظهور ظل على الجبال, كان هناك برج, ويبدو لي أن الظل متوافق تماما مع الظل الذي يمتد على النوافذ الخلفية لكنيسة لاسالوت في فينيسيا.. كل شيء باللون القرنفلي نفسه, كما كان في يوم الحفلة في حوالي الساعة السادسة على مقربة من مبنى الجمارك).
كانت (جالا) تمثل الأفق البشري لسلفادور دالي, وكان لا يستغني عن وجودها معه بصفة دائمة, فهي تعرف نقاط ضعفه وتعالجها, وتتحدث معه في الوقت المناسب, ولا تقاطعه أثناء رسمه لأنها تعرف الضرر البالغ الذي سيلحق بها وبأعماله الفنية لذا قال عنها:
(في هذا اليوم رأيتها أجمل من أي يوم آخر, كان الصيادون على الشاطىء يتطلعون إلى الريف الملتهب, ركعت ثانية لأحمد الله إن (جالا) كتلك المخلوقات التي رسمها (رافائيل). أقسم أن هذا الجمال من الصعب إدراكه, ولا يمكن لأحد أن يراه بحيوية رؤيتي له, الشكر لنشواتي السابقة ولقرون خراتيتي) ثم يضيف:
(كأني أعيش في شهر عسل مع (جالا), علاقتنا أكثر غنائية من قبل, أحس باقتراب تلك الشجاعة التي أسعى إليها لتجعل من حياتي تحفة فنية, ولكي أحصل عليها يجب أن أكون بطلا في كل لحظة منها)
العبقري (دالي) أن يطبع الأشياء بطابعه الخاص وبألوانه المتميزة التي تروق له, فلا تتطابق الألفاظ مع ألوانه, فهو ذو تكوينات لونية لها انفرادها لذلك عندما سألوه قائلين: (لماذا رسمت الجحيم بألوان فاتحة براقة? أجاب بأن الرومانسية قد ارتكبت فضيحة حين جعلتنا نعتقد أن الجحيم أسود كمناجم فحم جوستاف دوريه, حيث لا يمكننا رؤية شيء, كل ذلك خطأ, فجحيم دانتي مضاء بشمس وعسل البحر المتوسط, وذلك هو سبب رعب رسوماتي المفصل والهلامي بلزوجة ملائكية. إن الجماليات الفائقة لعملية هضم اثنين يلتهم أحدهم الآخر, يمكن ملاحظتها للمرة الأولى في رسوماتي, معرضة للضوء تماما, ضوء محتدم بفرح صوفي نشادري, أردت أن تشبه رسوماتي للكوميديا الإلهية, الآثار الخفيفة للرطوبة في بعض أنواع الجبن الممتاز, وهذا يفسر البعد المبرقش كأجنحة الفراش فيها)
يقول (دالي) في مذكراته:
(النقد شيء رفيع وسام, ولا يستحقه إلا العباقرة, وبالتالي يمكنني الكتابة في النقد, فأنا مبتدع الأسلوب النقدي المبنى على الهلوسة, وقد كتبت كتابا حول ذلك بعنوان (قوادو النقد الأدبي الحديث القديم) ولكن هناك ما لم أقله, سواء في كتاب حياتي السرية أو في اليوميات, فقد كنت حريصا على أن أحتفظ ببعض الرمانات المتعفنة القابلة للانفجار, فلو سألتني مثلا, من هو الرسام العادي المتوسط وسط كل الرسامين, لقلت لك إنه زيرفوس Zervos ولو قالوا إن ألوان (ماتيس) متكاملة, لقلت إن ذلك حقيقي, فكل ما تقوم به ألوانه هو أن يقدم أحدهما الثناء للآخر, كما أكرر أنها فكرة جيدة أن نعطي بعض الاهتمام للرسم التجريدي, ولأنه تجريدي فإن قيمة نقده ستصبح تجريدية أيضا في وقت قريب).
لم يُشكل النقد بالنسبة لدالي أية عقبات, لأنه كعبقري ـ كما يزعم دائما ـ كان يرسم ويلون, ثم ينقد أعماله بنفسه ولا يعتد بنقد الآخرين حتى ولو كانوا نقادا معروفين وعلى مستوى جيد من الفهم ودراسة تاريخ الفن.
الخوف من الموت
برغم كل هذه الدعايات التي يطلقها دالي عن نفسه, سواء عندما يجلس في سيارة مكشوفة في نيويورك ليسقط المطر من خلال أنابيب صناعية على تمثال صنعه لكولمبس, أو يخرج من بيضة كبيرة في روما ليلفت إليه الأنظار ليقول: (هأنذا أولد من جديد).. أو يحلق نصف شاربه ويترك النصف الآخر, وفي متحفه تمثال له من الشمع في ملابس ملكية محمولا على محفة فاخرة مذهبة, وتمثال آخر بملابس سهرة عصرية أمام لوحته (أسطورة أرجوس), وما أكثر تلك القصص والنوادر الطريفة والغريبة والفاضحة, إلا أن قلبه كان ضعيفا للغاية تجاه فكرة الموت ففي اللحظة التي يموت فيها شخص مهم, أو شبه مهم, ينتابه إحساس فوري مكثف يقيني أن هذا الميت قد أصبح (داليا) مائة في المائة لأنه من الآن فصاعدا سيرعى عمله. يقول دالي: (هذا اليوم كرسته للتفكير بالموت وفي نفسي, يوم للتفكير بموت فدريكو جاثيا لوركا, الذي أطلق عليه الرصاص (في غرناطة) في انتحار في باريس, وجان مايكل فرانك في نيويورك, التفكير في موت السريالية, وموت الأمير مدفاني Mdivani بقطع رأسه بسيارته الرولز رويس, وموت سيجموند فرويد منفيا في لندن, والموت المزدوج لستيفان زفايج وزوجته, وموت الأميرة فاوسيني لوسينج, وموت كريستيان براود ولويس جوفيه على المسرح, وموت جرترود شتاين وجوزيه ماريا سيرث, ومسيا سيرث وليدي مندل, وموت روبرت دلسينو وأنتونين أرتو, وموت الوجودية, موت أبي وموت بول إلوار).
ثم يضيف:
(كنت أصغي إلى الراديو أثناء الكتابة هذا المساء, وكان ينقل أصوات طلقات البنادق التي تطلق تحية لبراك Braque في جنازته, براك الذي كان مشهورا لاكتشافه البعد الجمالي لقطع الصحف الملصقة, مع أشياء أخرى بالطبع وأنا أهدي له بكل إجلال وتقدير, أعظم تمثال نصفي, وأشهرها تلقائية لسقراط مصنوع من الذباب).