ثمة تيارات ثلاثة أساسية في الثقافة العربية، صاغتها جهود المفكرين العرب وانشغالاتهم بتجديد الفكر العربي منذ القرنين التاسع عشر والعشرين، يبقى لكل منها تصوره عن الزمن الثقافي العربي ومسارات تفاعله الممكنة مع الآخر الذي صار لديها جميعًا هو (الغرب) الأكثر تقدمًا في عالمنا المعاصر، وسفورًا على ساحة المنافسة الاستراتيجية السياسية والتاريخية الحضارية التي تخلق الاحتكاكات وترتب الانتصارات والانكسارات، كما تثير العقد والهواجس، ومنها بالقطع عقدة أو نظرية «المؤامرة» التي يختلف عمق حضورها ومستويات طرحها بين هذه التيارات المرجعية للثقافة العربية:
فثمة أولا تيار حداثوى يتجلى الغرب لديه مثاليا، ومن ثم فهو يقبل به ملهمًا لممارساتنا الكلية ويعطيه حق الرقابة على سلوكياتنا السياسية وينزع إلى تقويم واقعنا السياسي بمعاييره وقيمه التى ينظر إليها هذا التيار نظرة تبجيلية تكاد تكون تقديسية، تعمل خارج إطار الشروط التاريخية المتعينة. وينصرف ذلك التقديس كذلك إلى المثقف الغربي الذي صار دائما هو داعية الحرية والعقلانية، وهو أمر قد انطوى دائما على مفارقات تبدو مذهلة. فـ «فولتير» مثلًا أحد أنبياء الحرية ورواد التنوير الأوربي كما تقدمه استعارتنا النمطية للثقافة الغربية وتردد دومًا مقولته الشهيرة والرائجة عن استعداده لدفع حياته ثمنًا لحرية مخالفه في إبداء رأيه، هو نفسه صاحب كتاب «الملك الشمس» الذي يسكب فيه ولعه وتقديره لملك فرنسا لويس الرابع عشر أحد أبرز نماذج الاستبداد الأوربي في العصر الحديث وصاحب المقولة الأكثر شهرة «أنا الدولة» وما من شك في أن وصف الشمس هذا لدى فولتير يذكرنا بمديح الشاعر العربي الكبير والقديم أيضًا أبي الطيب المتنبي لرجل الدولة سيف الدولة الحمداني. لدى هذا التيار يصبح الغرب آلية تصحيح للأوضاع المختلة.. وهى آلية موجودة أحيانا بيننا، ومؤثرة دوما فينا، فهي حاضرة في الذهن قابعة في الخيال محسوب حسابها، ومدروسة احتمالات ردود فعلها من قبل القائم بالفعل ذاته وقبل أن يفعله. كما .. يتم غالبا خطابها لتقوم بتقديم نصائحها أو فرز ضغوطها غير المباشرة، أو على الأقل مكاشفتها لتكون حاضرة وشاهدة ولو باللوم أو العتاب. وكذلك يتصور استدعاؤها أحيانا للتصحيح على نحو مباشر لدى بعض أطراف هذا التيار، على منوال احتلال العراق الذي استحال حلا أمريكيا سحريا لتحقيق الديمقراطية كطريق للخلاص من المحنة وإن جاءت في ركاب الاحتلال الذي يبدو كالموت الرحيم خلاصا من ألم الاستبداد.
هذا التيار يثق في الغرب عميقًا وبشكل يتعالى على التاريخ ومن ثم فهو ينفى عنه أي شبهه للتآمر أو حتى للتحيز ضدنا، وفي عرفه فإن خطاب المؤامرة ليس إلا منتجا لذهنية مغلقة تستحضر الأوهام وتثير السخرية من إدراكها الأسطوري للعالم الذي لا يقبل إدراكه الموضوعي بمجرد التقسيمات النمطية لـ «العرب» و«الغرب» لأن الغرب «الثقافي» ليس إلا دولًا وطنية وكتلًا قومية لها مصالحها السياسية وصراعاتها الاستراتيجية ولذا فهو ليس موحدا سياسيًا وإن ظل متجانسًا ثقافيًا بل وكذلك أصبح العرب أنفسهم ومن ثم فلا معنى أصلًا لمثل هذه الصياغات «الشمولية» من قبيل «العرب»، و«الغرب» والتي تعمى عن الحسابات الاستراتيجية الوطنية والقومية التي تعدو لدى هذا التيار هي الحقيقة الكبرى في العالم السياسي.
الأفكار تلهمنا
وفي اعتقادنا أن هذا التيار إنما يسرف في التعالي على فكرة رائجة في ثقافتنا السياسية بقدر تستحق معه الاهتمام والمناقشة والتحليل بغض النظر عن مدى صدقها المعرفي، لأن الأفكار عندما تترسخ ويتراكم تأثيرها لدرجة أن تصبح ملهمة أو حاكمة وعلى نحو يصوغ بنية إدراكية للواقع لها جاذبيتها لدى قطاع واسع نسبيًا من الجماعة الإنسانية المعنية به إنما تكون قد جاوزت حدود النظرية، ولو بمعيار التأثير، إلى مستوى أعمق يفرض على المهتمين بقضايا وهموم هذا الواقع ، والمنشغلين ببنية هذا العقل التوقف عندها بغض النظر عن صحة أو خطأ التسمية ودونما تعال شكلي أو لفظي مجرد عليها.
كما أنه يتعامى عن تاريخ ثقافي وسياسي به الكثير من المواقف والتفاعلات التي تشى بـ«التحيز» الغربي ضد القضايا، بل والوجود العربي، نازعًا، أي هذا التيار، إلى محاولة فرض تصور مثالي على مسيرة ثقافية وتجربة إنسانية تحكمها إلى درجة كبيرة أنانية بعض منتجيها وتدفعها أحيانًا كثيرة إلى الخوض في أخطاء وخطايا تجاه الآخرين تجد فيها مصلحتها أولًا، وتجد لديها القدرة على ارتكابها ثانيًا. وهكذا تنحو واقعية هذا التيار إلى «البراجماتية» الواضحة التي تهدر القيم الثقافية والحس التاريخي وإلى الدرجة التي تبرر وصفنا العام له «بالواقعية البراجماتية».
وثمة ثانيا التيار السلفى حيث يتجلى الغرب شيطانا (متآمرا) ، ومن ثم يرفض هذا التيار تحويل الذات الغربية إلى ملهم للذات العربية وذلك لوجود تناقض أساسي في رؤية كل منهما للوجود، بقدر ما يرفض أن يكون الغرب رقيبًا على ممارساتنا السياسية أو حتى معيارًا لها تقاس به صحتها. هذا التيار يؤسس على مستوى الرؤية التاريخية لما يمكن تسميته «السلفية التاريخية» والتي تجسد رؤية للعالم تنحاز عميقًا إلى مكوناته الأولى وقوالبه التاريخية حتى لو بدت متناقضة مع قيم تاريخية حيوية، وأبنية فاعلة في العالم المعاصر.
هذه الرؤية السلفية ـ والتى لا تعترف أحيانا بالعلم الحديث حيث النصوص الدينية هى الأقدر على التفسير الصادق للوجود كله، أو التى تحاول التأسيس لهذا العلم في قلب هذه النصوص الدينية تحقيقًا لإسلامية المعرفة ـ إنما تقوم على فهم مختل لعلاقة الطبيعة بالوجود الشامل يرجع في اعتقادنا إلى غياب مفهوم «السببية» لدى هذا التيار الذي يظل أسيرا لبنية الثقافة الإسلامية التى تم صوغها في العصر الوسيط، حيث يؤدى غياب السببية إلى إلغاء العلاقة الديناميكية والمباشرة بين العلة والمعلول على صعيد الظواهر الطبيعية والإنسانية في آن حيث الأسباب الكامنة في هذه الظواهر نفسها ليست هي المحركة لتفاعلاتها ومن ثم يصعب اكتشاف منطق هذه التفاعلات وصياغتها على نحو موضوعي وعقلاني، وحسب قوانينها الذاتية، بينما ينفتح الباب على رؤى ميتافيزيقية أو أسطورية تخضع هذه التفاعلات وتنسبها إلى إرادة خارجية عنها وقوى خارقة للعادة وللطبيعة على السواء.
تفسيرات خرافية
وإذا كانت هذه القوة المفارقة يتم تفسيرها على مستوى الوعي الشعبي تفسيرًا سحريًا خرافيا تمامًا من قبيل الجان والعفاريت، فإنها تتحول على مستوى ثقافي أرقى نوعًا ما ـ يحوز أصحابه بدرجة أو بأخرى مؤهلات تعليمية أو تدريبات عملية أو مهارات إدارية أو خبرات مهنية ولكن دون تأسيس ذلك كله على منهجية علمية واضحة ـ باتجاه تفسير «واقعي» ينتمي للعالم السياسي لا الفوقي وهو تفسير يستدعي «آخر» لابد وأن يكون مناوئا لأهداف الجماعة الإنسانية على نحو يبرر اتهامه بالعداء وهو الأمر الذي يجعل دولة الاحتلال الاسرائيلي ثم الغرب يجسدان الصورة المثالية لهذا العدو المتآمر (الشيطان) استنادا إلى المشروعية التي توفرها أحيانًا وبأقدار مختلفة تلك التحيزات الغربية ضد القضايا العربية على الساحة الدولية وبالأخص الصراع العربي الإسرائيلي في القرن العشرين. بل ويمعن هذا التيار، لدى أكثر تجلياته تطرفًا، في تجاوز هذه الحسابات (التاريخية) إلى صياغة تناقض مبدئي/ وجودي مع الغرب الذي يلتبس لديه بصورة الشيطان التي أنتجتها المخيله الدينية للشر المحيط بقصة الخلق والوجود البشريين، ذلك الشيطان الذي يقضي العمر كله باذلًا الجهد كله في محاولة إغواء الإنسان وجره إلى حافة الهاوية. ومن ثم يعتقد هذا التيار في خطاب المؤامرة الذي يتحول لديه إلى نظرية بل إلى نموذج تفسيري كامل للعالم السياسي، حتى في مواجهة أكثر الحوادث تلقائية ومباشرة.
تيار توفيقي
وثمة ثالثا تيار ثالث توفيقى يرى الغرب عاديا «متوازنا»، ربما كان أحد روافد إلهامه الثقافي ولكنه يرفض وضعه كرقيب على ممارساته السياسية أو كحلقة وسطى في تفاعلاته الداخلية، ليس فقط لأنه يحوز هواجس إزاء الغرب كمنافس «استراتيجي» وليس كـ «شيطان تاريخي» على امتلاك زمام الحضارة الإنسانية تدفعه إلى عدم الثقة الكاملة به، وإنما أيضًا لأنه يدرك طبيعة الاختلاف بين كثير من إلهامات الثقافتين العربية والغربية عند الجذور أي على مستوى الرؤية الوجودية وإن بقيت إمكانية للتوفيق على الأصعدة العملية كأنماط الإنتاج الاقتصادى والتنظيم الاجتماعي والممارسة السياسية. فهو إذن يصوغ رؤية ثقافية متوازنة إزاء الغرب لا تنحرف به إلى الملائكية أو إلى الشيطانية بل تحتفظ له بصورته الإنسانية «العادية»، ففي مسعاه لصياغة تقاليده الكلاسيكية الأخلاقية والمعرفية، وعبر مسيرة تقدمه الطويلة التي وصلت إلى ذروتها في القرن العشرين، لم يكن الغرب بمنأى عن تناقضات عديدة، ربما تمكن من تجاوز أغلبها ولكنه وقع في أسر بعضها، ما يحول دون أن يقرن تقدمه هذا بمثالية أخلاقية / تطهرية.وعلى هذه الرؤية الثقافية المتوازنة يؤسس هذا التيار رؤية للتاريخ تتمتع بالتوازن نفسه يمكن تسميتها بـ «الواقعية التاريخية» تؤمن بأن العالم العربي الإسلامي الذي شهد ذروة تألقه في العصر الوسيط في نهاية المرحلة الأولى تقريبًا، قد بدأ رحلة تراجعه ضمن دورة التراجع التاريخي للحضارة الإسلامية بمطلع العصر الحديث، ثم شهد ذروة ضعفه مع تألق الحداثة الأوربية منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن حيث اتسم التقدم الأوربي بالاستمرارية، والتخلف العربي بالاستمرارية ذاتها ولم تحدث تحولات تذكر، فضلاً عن التحولات الانقلابية، في بنية القوة العالمية منذ قرنين على الأقل اللهم إلا داخل تجاويف الغرب نفسه. ولأن من طبيعة الأشياء وسنن الكون أن الأقوى في التاريخ هو الأقدر على صياغة قواعده الآمرة وقوانينه المنظمة فقد اطلع الغرب عبر بؤرة القائد بمهمة وضع هذه القواعد على نحو مستمر ومتعاقب في حقبة تاريخية أصبح العالم فيها أكثر اتصالًا على نحو مكن لهذه القواعد من أن تُرى وتُعاش، ومن ثم وجد العرب أنفسهم محكومين بقواعد من قبيل «الانتداب والوصاية والحماية» ومؤسسات على منوال «عصبة الأمم، الأمم المتحدة» واستراتيجيات من طراز «الحرب الباردة وتوازنات الرعب النووي، والنظام العالمي الجديد» وغيرها من ضوابط لم يشاركوا أبدًا في صنعها وأحيانًا لم يعلموا بها، وتحملت الجغرافيا العربية في هذين القرنين بالذات أعباء عجز تاريخها احتلالًا وتمزقًا أمام الغرب ودولة الاحتلال الاسرائيلي. يرفض هذا التيار إذن القول التبسيطي بالمؤامرة الغربية على العرب بالذات، لأن سعي الغرب إلى الهيمنة وهو حقيقة تاريخية مؤكدة - لم يكن لينجح وهناك قوة كبرى في العالم خارجه حتى وإن لم تكن في الجغرافيا العربية، ومن ثم فإنه لا يقبل بخطاب المؤامرة الزاعق الذي يحيلها نموذجًا تفسيريًا كاملًا للعالم السياسي حتى في أدق تفاصيله وأكثرها عملية ومباشرة. ولكنه، في المقابل، لا يتعالى تمامًا عليه لأنه يستشعر تحيزات الغرب ضد الوجود العربي في مواقف تاريخية عديدة على تباعدها، ولذا يؤمن بأن ثمة «تحيز» تاريخي يمارسه الغرب في مواجهتنا لا يعود، وعلى نحو مبسط، إلى مؤامرة مستمرة في التاريخ من الغرب المسيحي حيث يجلس قادته وزعماؤه ليحيكوها في ظلمة الليل لأجل تنفيذها في نهار اليوم التالي ضد العرب المسلمين بالذات، بل يعود إلى مركب شامل من دوافع ثقافية واستراتيجية تضغط باتجاه ضراوة الممارسات الغربية إزاء العالم كله في العموم، والعرب المسلمين في الخصوص، نظرا لتاريخهم الحضاري وموقعهم الاستراتيجي الذي جعلهم دوما منافسين حقيقيين للغرب، بل هم بالأحرى، القوة الوحيدة التى تمكنت من وضعه داخل حدوده، وإحكام السيطرة عليه لعدة قرون من الزمان. وعلى هذا النحو ربما استبطن هذا التيار ذهنية «التحيز» أحيانا، ولكن تغيب لديه نظرية «المؤامرة» كما تتبدى لدى التيار السلفي دائما.