تسير في حواري مدينتك التي ولدت فيها وتعيش وتعمل، وتتملكك الحيرة في نقطة البداية:
هل باستعادة التاريخ؟
أم بالاستغراق في تداعيات المكان؟ فجهات جنين الأربع، تتنافس كلها على مقدمة الوصف؛
كيف لا وهي المدينة المصنوعة من التاريخ!
أصعد إلى الجبال المطلة عليها، لأصورها بالكاميرا والكلمات، فللارتفاع فضل في تأمل مشهد المكان، حتى لمن يعيش فيه. من هنا تستلقي جنين، المدينة والمخيم والضواحي والبلدات كلوحة تدمج بين الجبل والسهل والوادي.
وجنين هذه مدينة ساحلية..كيف! رغم أنها لا تقع على بحر، والسبب أن سهلها العظيم مرج بن عامر يبدو كالبحر لولا اخضراره في الربيع، حيث تحاط جنين بسجادة طبيعة من المزروعات والمحاصيل في المرج الموصوف بسلة غذاء فلسطين.
ترتفع المدينة بين مائتين إلى مائتين وخمسين مترًا عن سطح البحر. وتُشكل خطاً لالتقاء بيئات ثلاث: الجبلية المتفرعة عن سلسلة جبال نابلس، والسهلية المنبثقة عن مرج ابن عامر وسهول أخرى، والغورية المنتمية إلى غور الأردن. وبهذا كانت مركزاً لتجمع طرق المواصلات القادمة من نابلس والعفولة وبيسان. وصارت تربط الطرق المتجهة من حيفا والناصرة شمالا إلى نابلس والقدس جنوباً.
أهبط من جبل أبو ظهير الأعلى في المدينة كلها، وأشاهد أجزاء من جبال الناصرة والكرمل وأم الفحم، وكلها أراض احتلت العام 1948.
جنين مدينة أسسها الكنعانيون كقرية تحمل اسم «عين جانيم»، في موقع المدينة الحالي. وترك هذا المكان بصمات واضحة على مدار التاريخ، إذ كان عرضة للقوات الغازية المتجهة جنوبا أو شمالا، وكثيراً ما يطاله التدمير والخراب أثناء الغزو.
وقد عرفت جنين في الحقبة الرومانية باسم «جينا»، ولما ورث البيزنطيون حكم البلاد أقاموا فيها كنيسة حملت الاسم نفسه. وقد عثر المنقبون الأثريون على بقاياها بالقرب من المسجد الكبير،ويعود تاريخ تأسيسها إلى القرن السادس الميلادي.
الحاج مخلص.. موسوعة المدينة
في يوم ربيعي ينذر بصيف ساخن التقينا بابن المدينة والمؤرخ مخلص الحاج حسن، بملامح وجهه المنهك ونبرات صوته المتثاقلة نقلع في رحلة عبر التاريخ، يسرد عليّ تاريخ المكان كأنه يقرأ في كتاب، ويقف عند عدة مراحل، فيذكر أنه خلال القرن السابع الميلادي نجح العرب المسلمون في طرد البيزنطيين منها، واستوطنتها بعض القبائل العربية، وعُرِفت البلاد لديهم باسم «حينين» الذي حُرّف فيما بعد إلى جنين، وقد أطلق العرب عليها هذا الاسم بسبب كثرة الجنائن التي تحيط بها.
وجنين مدينه قديمة ورد اسمها بالمخطوطات البابلية والآشورية والمصرية القديمة، وفي التوراة والإنجيل. وورد ذكرها بأسماء مختلفة منها «جانيم وعين جانيم وجيرين وجنين». وعرفت جنين عبر تاريخها بكثرة الجنائن والبساتين. وهي واحدة من المدن العتيقة، ولا يضاهيها بالقدم إلا أريحا ونابلس والقدس ودمشق وصيدا في لبنان. تأسست المدينة عام 4250 قبل الميلاد، وبها عدد من المكتشفات الأثرية، وتعرضت المدينة لسلسلة من الغزوات التي دمرتها.
بدأ الحاج حسن ابن السبعين عاما، مهمة التعرف على تاريخ مدينته بعد حصوله على شهادة «المترك الثانوي»، حيث راح يبحث باختيار عن كل ما يتعلق بها كأنها وطن, وليست مجرد مدينة.
دمرها (تحتمس الثالث) أثناء توجهه إلى مجدو عام 1479 ق.م. حيث اشتبك هناك مع حكام سورية القدماء الذين يسمون بـ«الهكسوس». وهاجمها (رعمسيس الثاني) صاحب معبد أبو سمبل، أثناء توجهه لمحاربة الحيثيين في قادش. في عام 1189 ق م عقب دخول العبرانيين إلى أرض كنعان بقيادة يوشع بن نون، كان من أبرز الأحداث التي شهدتها جنين التحالف والالتحام بين الكنعانيين والعماليق والفلسطينيين ضد شاءول بن قيس أول ملوك العبرانيين الذي هُزم على مقربة من جلبون «شمال شرق جنين» في عام 1030 ق.م. وتعرضت للتخريب على يد (سنحاريب بن سرجون) الثاني الأشوري عام 701 ق.م. ووقعت تحت الاحتلال الفارسي على يد (كوريش) والد قمبيز، بأواسط القرن السادس ق.م. وعاشت تسعة وتسعين سنة تحت الاحتلال الصليبي، إذ احتلت عام1103 بزعامة (تنكريد دوق نورمانديا) و(ريموند دوق تولوز)، استعادت المدينة حريتها في معركة حطين عام 1187 م، وأثناء عودته إلى دمشق ، مر بمدينة جنين وبات فيها يوماً واحداً، يوم الأحد الثاني من أكتوبر 1192 م، لكنها خضعت للاحتلال الصليبي مرة ثانية، بعد تنازل الملك الكامل الأيوبي عنها وعن باقي المدن الفلسطينية في الحملة الصليبية السادسة. وظلت جنين تحت حكم الصليبيين إلى أن حررها الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 1244 م.
ثم استردت جنين حريتها، في العهدين الأيوبي والمملوكي وانتعشت اقتصاديًا وعمرانيًا وتأسست فيها محطة للحمام الزاجل لتربط مصر بالشام، وكانت تابعة لنيابة صفد. وصارت ممراً لمحطات القوافل والبريد من مصر إلى الناقورة وصولاً إلى دمشق. وشهدت جنين تطورا ملحوظا في عهد المنصور قلاوون الهكاري 1281م. وشيّد طاجار الداوادار الخان التجاري المشهور الذي وصفه المقريزي في كتبه. وأصابها العام 1347 م زلزال كبير دمّر جنين عن بكرة أبيها.
نتابع ما يقول الحاج حسن مندهشا من حافظته للسنين والأسماء، قائلا في نفسي ربما أن الرجل لا يعرف من الدنيا والعالم غير جنين!
تاريخ حديث
حلت السيادة العثمانية على جنين عام 1561 م وظلت جنين تابعة للأتراك العثمانيين حتى عهد السلطان محمد وحيد الدين السادس. وساعد القائد الفرنسي (فال) - نائب كليبر - نابليون في محاصرة المدينة، وبعد أن فشل باحتلالها، عمل على إحراقها حيث قصفت جنين بالمدفعية، في أبريل 1799 ميلادية وتم تدميرها. وكانت حمله إبراهيم باشا على فلسطين (1831-1840)، طفرة عمرانية، إذ اصطحب في جيشه طواقم مختصين، وبالرغم من الزلزال الذي كان قد ضربها وهدّم أبنيتها عام 1837، فإنه أسس فيها سوقاً قديمة ورصف شوارعها وأزقتها القديمة، ولربما أن ذلك البلاط الموجود حتى الآن في البلدة القديمة يعود إليها.
احتل الإنجليز جنين في عهد السلطان العثماني محمد وحيد الدين السادس في 20 سبتمبر 1918م، وعيّن الميجر ماك كرين حاكما عسكريا للمدينة ، وكان ذلك في مرحلة متأخرة عن احتلال القدس، واختيرت جنين مقرًا لمحطة الشرق الأدنى التي أنشأها الإنجليز عام 1941م. وخلال الحرب العالمية الأولى اتخذها الألمان مقرا لسلاحهم الجوي حيث أقاموا فيها مطاراً عسكرياً ضخمًا، مازال السكان يطلقون عليه الاسم نفسه.
معارك مع الصهاينة
وقعت معركة جنين الأولى في يونيو عام 1948م، فقد بدأت المعركة بين الأهالي وفئة من «جيش الإنقاذ»، تدعمه قوة من الجيش العراقي. في مقابل قوة يهودية مؤلفة من أربعة آلاف جندي يهودي. وتم تحرير المدينة بشكل كامل في 11 يونيو 1948، لكن معركة جنين الثانية بدأت بعد أن قام اليهود بالمباغتة في أواخر الهدنة، فاحتلوا العديد من القرى، فجابههم الأهالي بدعم من الجيش العراقي، وعملوا على تحرير قراها. وعقدت اتفاقية الهدنة الثانية في 18 يوليو 1948. وبتعديل خط الهدنة خسرت جنين ما يقارب 19000 دونم، بالإضافة لفقدانها لأربع عشرة قرية. يبتسم الحاج السبعيني متسائلا عن مكان نشر المقابلة، فنقول له إننا سنرسلها لمجلة «العربي»، فيشرق وجهه، مخبرنا بأنه يحتفظ بأغلبية أعداد مجلة «العربي» منذ نصف قرن إلى اليوم.
حكايات سوق المدينة
نغادر ذاكرة المؤرخ الحاج حسن، لنسير في شوارع المدينة، نفتش عن وجوهها القديمة، نختار السوق بداية جديدة، فثمة حكايات هنا، خصوصا مع كبار السن مع مدينتهم.
نبدأ مع عطا محمود أبو لبدة وحكايته الطويلة مع البيع والشراء والسوق، فنعلم أنه كان تاجرًا في بلدته صبارين قبل نكبة العام 1948، يومها عمل في مهنة «المشمر» وهي بيع الحبوب والحنطة.
يقول أبو عدنان: بدأت العمل بالتجارة وأنا ابن 14 سنة، في حيفا وصبارين وعارة ثم هاجرنا إلى جنين، وبقيت أعمل في تجارة المواد التموينية.
وظل أبو عدنان يجلس منذ ستين سنة في متجره بمدينة جنين، يتأمل تطور المدينة وتغيرها، مقارنا بين أسواق أيام زمان واليوم فيقول: قديمًا لم تكن السلع مغلفة أو مصنوعة من مواد كيماوية، وكنا نبيع الكثير من المواد بالمفرق، مثل السمن والطحينة والدبس الذي اختفى.
يتغزل أبو عدنان بمدينته، فيقول: في جنين كل شيء له طعم خاص.
في قلب سوق السيباط القديم، مازال الحاج محمد صالح الحثناوي، يجلس في حانوته منذ العام 1950. يتعامل أبو بشار في تجارة العطورات والبهارات والمواد التموينية والسلع الآخذة بالانقراض مثل: وابور الكاز والقفف الجلدية وغيرها.
أما الحاج عطية القرعاوي أحد أقدم القصابين فيها، فيقول: قبل عدة عقود، كنا 12 لحّاماً، نذبح القليل من العجول، ولم تكن هناك ثلاجات لحفظ ما يتبقى من لحوم، إلى أن بدأنا نستخدم براداً نضع فيه قوالب ثلج.
يعتقد أن الذي تغير في سوق اللحامين منذ الستينيات وقبلها إلى اليوم، كان في السعر (الكيلو بثلاثين قرشاً) وحجم الاستهلاك(مرة في الأسبوع أو في الشهر لكل بيت)، أما الطعم والمواصفات فلم تتغير.
ويداعبنا: الناس في هذه الأيام يعتقدون أن اللحمة زمان أطيب، أما الحقيقة فلأنها كانت شبه معدومة، ولا يتذوقونها إلا قليلاً، بسبب الفقر.
يتذكر: كنا نشتري البرتقالة بالحبة من بيارات جنين، وكانت المدينة كلها بساتين ونخيلاً ومياهاً، أما اليوم فباطون وعمارات، ويتحسر الحاج عطية على سحر مدينته الغائب.
أما محمد خليل جرار، فشرع في العمل بمهنة «الإسكافي» منذ أن كان في الثالثة عشرة من عمره، بعد أن تعلم أصول المهنة في دكان الحاج علي أبو رمح.
عمل جرار عشر سنوات متتالية في المهنة في جنين، ثم انتقل إلى دولة الكويت بحثاً عن فرصة أخرى، وكانت في جعبته شهادة الصف السادس الابتدائي، ولم ينجح في العثور على عمل، فعاد أدراجه بعد عام واحد للمهنة نفسها، وللمكان ذاته. ولد في العام 1938، وتزوج وعمره 49 سنة. يقول: كنا أيام زمان نفصل الأحذية ونصنعها، ونرقعها أربع مرات وأكثر، أما اليوم فشغلنا خفيف جداً، والبضاعة الصينية «ذبحتنا ذبح»، لأنها رديئة وغير قابلة للتصليح وسعرها رخيص. يبدي جراراً قدراً من الحنين لأيام مدينته القديمة، حيث النخيل والحقول والمزروعات.
مرج ابن عامر..كلمة السر
يقول العجوز محمد الحاج يوسف: تمتد مدينتنا على مساحة (583) كيلو متراً مربعاً، وهي على أطراف(مرج ابن عامر)، أعظم سهل داخلي في فلسطين التاريخية. يعرف أبو أنور أن المرج يجمع بين مساحة عظيمة(360 كيلو مترًا)، وموقع حيوي، وقيمة اقتصادية عالية، وتربة ذات مقدرة هائلة على الاحتفاظ بالماء، عدا عن احتوائها على عناصر مهمة، فهو الذي عمل فيه أكثر من ستين سنة مزارعاً. يصف أبو أنور شعوره: كنا نعمل وننام ونتحدث ونصيف ونشتي في هذا المرج، أما اليوم فتغير كل شيء.
يحاط المرج بثلاث كتل جبلية: طابور أو الطور شمالاً، والدحي شرقاً، فسلسلة جبال فقوعة. نبحث بدورنا عن سر تسمية هذا المكان؛ فنجد أن الاسم يعود إلى «بني عامر» من قبيلة كلب العربية، التي اتخذت من المرج مقراً لها مع بدء الفتوحات الإسلامية، ويستلقي المرج بين جبال الجليل شمالاً وجبال نابلس في الجنوب والجنوب الغربي، وتداعبه في الشمال جبال الناصرة، فيما يرقد من شرقه وادي الجالود المنتمي لنهر الأردن.
مدينة جهاد القسّام واستشهاده
يستذكر أهالي جنين، الشيخ الشهيد عز الدين القسام، ويكتفي أبو إبراهيم العجوز الذي شارف الوصول إلى العقد الثامن بالقول: «عندما نتحدث عن جنين نتحدث عن القسام، وحينما نمر على سيرة الشيخ القسام لا بد أن نذكر جنين».
تتفاخر الحاجة زريفة عبد الخطيب، أم زيدان، التي تسكن جنين بأنها ترتبط بذكرى عز الدين القسام، فتاريخ ولادتها ملتصق بذكرى استشهاده بأحراش يعبد في خريف العام 1936.
تروي: قالت لي أمي إنني يوم اغتالوا القسام كنت في اللفة، ابنة أربعين يوماً، وعندما كنت في السادسة من عمري علمتني ميمنة ابنة الشيخ القسام القراءة والكتابة.
كان سامي الأحمد ابن مدينة جنين سكرتيرا عسكريا لعز الدين القسام، وقد عاش حتى تقدم بالعمر، وظل محتفظا بذكرياته مع الشيخ الجليل، وقد كان يحس بالشباب وهو يروي عن تلك الأيام بالرغم من أنه رجل تسعيني، والذي يميز الأحمد هو أناقته وحيويته، واتصالاته مع كبار الشخصيات العربية.
لا نريدهم في بلادنا!
ولد الحاج صالح حسن شهاب، أبو حسن، في شتاء العام 1926 في جنين. واليوم يحمل ذاكرة ثرية وخصبة. له ستة أبناء وست بنات وستون حفيدًا وحفيدة، ويتقن بطلاقة اللغة الإنجليزية التي درسها قبل سبعين سنة، مثلما يلم بالجغرافيا والتاريخ والرياضيات. وتسكنه ذكريات الحرب العالمية الثانية والنكبة والنكسة والثوراث الفلسطينية المختلفة.
تخرّج أبو حسن من الصف السابع عام 1942، ولم تكن في جنين صفوف إضافية. وأخبره معلموه بأن عليه إما الانتقال لمدينة القدس أو نابلس ، لإكمال التعليم، أو التوجه لسوق العمل في مهنة التدريس وغيرها.
يقول: «كان غريبًا بالنسبة لنا، أن نتحول لزملاء لمعلمينا، بعد أن أنهينا الصف السابع».
يتذكر تفاصيل المدرسة، فيقول: الرسوم كانت عشرة قروش في العام الواحد، وكنا نتوجه إلى المدرسة مشياً على الأقدام، ومعنا زوّادة، أما الدوام فمن الصباح الباكر إلى ما بعد العصر. يُفصَل ما حصل عليه من تعليم، فيقول: مازلت أتذكر مناهج اللغة الإنجليزية التي درسناها، فالبداية جولة إعادة للصف الرابع ومناهج جديدة للغة الإنجليزية، تحتوي على كتاب قراءة وسلسلتين لكتاب «مورس»، ثم ثلاثة كتب للقراءة والمحادثة في الصف الخامس، وكتابين في الصف السادس، ومثلهما في الصف الذي يليه، إضافة لمناهج في الشعر والقواعد والقصص.
مارس أبو حسن اللغة الإنجليزية طوال 70 سنة، ومازال. فبدأ مشواره بإجراء نقاشات مع جنود الانتداب البريطاني الذين كانوا يحتلون فلسطين. كانت المناقشات تتم من وراء الأسلاك الشائكة لثكنة الجيش البريطاني في جنين(المقاطعة لاحقًا)، وهي لم تخرج عن إطار أطفال يريدون أن يتعلموا طرق المحادثة والاختلاط بأهلها الأصليين.
بدأ يفتش عن فرصة للعمل باللغة التي صار يتقنها، فعمل سنة 1941 مترجمًا لضابط إنجليزي اسمه إدوارد، كان يشرف على شق الطرق وتأهيلها، استعدادًا للحرب العالمية الثانية، وكان يحصل على 12 قرشًا كأجر يومي. (يوضّح: كان القرش الواحد يشتري 12 قلمًا، وعشر بيضات، ودونم الأرض بخمسة جنيهات ومهر العروس خمسين جنيهًا).
يقول: انتقلت العام 1942 إلى مدينة حيفا، وتوجهت إلى مكتب (P.L.O) (مكتب عمال فلسطين) وليس (منظمة التحرير الفلسطينية)، أخبرتهم بأنني أبحث عن عمل، كنت ولداً، فأرسلوني إلى القاعدة الثالثة بمنطقة العاجزية بحيفا، وصرت مسئولاً عن مخزن الملابس، مقابل أجر شهري (20 جنيهًا)، وصرت أبيع بعد الدوام الشوكولاتة والمسليات على باب السينما، وخالطت جنود الاحتلال البريطاني في الفترة التي زامنت اندلاع الحرب العالمية، إلى أن سقطت حيفا في الثلاثين من أبريل العام 1948.
يضيف: سألت ضابطاً اسمه مارت عن سبب قدومهم من بريطانيا لوطننا، ودعمهم لليهود؟ وهل يقبلون بغريب يأتي لاحتلال بلدهم؟ فرد علّي: جئنا باليهود إلى بلدكم، لأننا لا نريدهم في بلدنا!
تغيرات ديموغرافية:
يروي الباحث والصحافي محمود خلوف: لم يكن نمو السكان في مدينتنا بمعدل كبير في الفترة من 1922-1931، بسبب هجرة العديد من سكانها إلى مدن السهل الساحلي، إلا أن هذا النمو بدأ يرتفع فيما بعد ليتضاعف عام 1947م؛ بسبب عودة من سكان المدينة إليها، وبفعل الركود الاقتصادي الذي أصاب المناطق الساحلية، وبحكم الحرب العالمية الثانية والأحداث الجارية في المنطقة. يستأنف خلوف حديثه: في عام 1952 سجل سكان جنين ارتفاعاً كبيراً بعد تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبة العام 1948، وعاد لينخفض انخفاضاً حاداً عام 1967، بسبب نزوح أعداد كبيرة من سكان المدينة إلى شرق الأردن ودول الخليج في أعقاب نكسة عام 1967. وفي سنة 1980 عاد عدد السكان للارتفاع بسبب عودة سكان المدينة إليها ومازال يواصل ارتفاعه حتى الآن. وتشير إحصاءات العام 2006 إلى أن العدد أصبح اليوم 254,218 نسمة.
مشهد الآثار.. نفق بلعمة الطويل!
نسير مستطلعين معالم المدينة التاريخية وما جاورها، نبدأ بخربة بلعمة الكنعانية المعروفة، فنعرف وفق الروايات التاريخية التي نحملها، وبما أورده لنا المؤرخ مخلص الحاج حسن، أنها أيضاً بخربة البرج أو (كفر ياروب) والتي قضى عليها زلزال 1927 م، وتضم مغارة قفقه أو النفق المائي.
يورد الدكتور حمدان طه، وكيل مساعد في وزارة السياحة والآثار لشئون الممتلكات الثقافية شيئا من تاريخ نفق بلعمة، الذي شرعت دائرة الآثار الفلسطينية بترميمه العام 1996.
يقع النفق المائي على المنحدر الشرقي لخربة بلعمة، وتعرف الخربة بموقع ابلعيام المذكور في المصادر التاريخية المصرية والتوراتية، وذكر الموقع باسم «بيلموت» في المصادر الرومانية، وقلعة «كاستيليوم بيلايزموم» في المصادر الفرنجية.
يتابع: أشارت بعض الروايات الشعبية للنفق، وتحدثت بعضها حول الملك بلعام، فيما قدم الباحث الفرنسي فكتور جورين، أول وصف للنفق العام 1874، فيما يعود تاريخه عموماً منذ بداية العصر البرونزي المبكر، حوالي ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد وحتى الفترة العثمانية.
ندخل النفق الذي يتشكل من ثلاثة أجزاء، بدءا من المدخل المقبب، والجزء المدرج الصاعد المقطوع في الصخر، فالممر الضيق المبني بالحجارة في نهاية القسم الثاني من النفق الصخري.
يشير مسئول الآثار في المدينة خالد ربايعة، إلى أن طول النفق المكتشف بلغ 115 متراً، منها 105 أمتار مقطوعة في الصخر الصلد، و57 درجة محفورة في الصخر ، فيما يبلغ معدل الانحدار 17 درجة، وينحدر السفح بنحو 30 درجة.
وتقول دراسة د. طه: إن ثمة ثلاثة مداخل أخرى للنفق المائي في منطقة المنحدر، والمكان مزود بنظام للإضاءة عبر فتحات من الصخر لوضع الأسرجة (المصابيح) عليها.
وتفيد الدراسة بأن مكونات النظام المائي في القسم السفلي من النفق، تتشكل من خزان كبير للمياه وقنوات وحوض مقطوع في الصخر، وأحواض لجمع الماء عند المدخل الرئيس.
يفيد ربايعة: ننتظر أن نشغل النفق أمام الزائرين والسائحين في الفترة القادمة، وقد صممنا مرافق لخدمة هذا الهدف.
ألقياه في الجب يلتقطه بعض السيارة
نتجول في تل تعنك المكتنز بالتاريخ، نذهب باتجاه معاكس إلى تل دوتان، الموقع الأثري مهم، الذي أظهرت الحفريات تتابعاً سكانياً فيه لحوالي تسع عشرة فترة تاريخية، أهمها البرونزية والكنعانية، وارتبط المكان بحادثة البئر (الجب)، التي أسقط فيها سيدنا يوسف، عليه السلام كما يظن الناس أن البئر كان هنا، متوارثين الرواية جيلا عن جيل.
نشاهد مقامات الشيخ منصور والشيخ صالح والشيخ سبع، التي تعود، وفق بعض الروايات، للعصر الأيوبي، وقد استخدمتا لأغراض الاتصال أثناء الحروب وإعلان المناسبات الدينية (شهر الصوم، والأعياد)، وهما جزء من سلسلة متتالية من المقامات، لإكمال دائرة الاتصال بواسطة شعلة نارية. نمنع من دخول محمية العَمرة، التي سرقها جدار الفصل العنصري، وهي التي استشهد على أرضها الشيخ عز الدين القسام. وهي ذات مساحات شاسعة، وتضم أشجاراً نادرة كالسنديان والغار والبلوط. نتجول قليلاً في بلدة عرابة حيث قصور آل عبد الهادي، والحرايق، والزاوية، وأبو عبيد، وخربة عامر.. ندخل مقبرة شهداء الجيش العراقي في مثلث الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن فلسطين العام 1948، ومقبرة مماثلة في مدخل طوباس الغربي، ومقبرة شهداء الجيش الأردني، نتفحص مدرسة فاطمة خاتون.
تذكارا للطيارين الألمان!
هو مكان صغير، لكنه يعدّ من معالم مدينة جنين، ويصعب أن تزور المدينة دون المرور عليه، إنه النُصب التذكاري الألماني لطيارين سقطا خلال الحرب العالمية الأولى.
يستلقي النصب التذكاري الألماني باسترخاء في مدخل المدينة الشمالي. هنا وقرب شارع حيفا تحفظ الحجارة البيضاء ذكرى أحد عشر جندياً ألمانيا قضوا العام 1917، في أعقاب المعارك الجوية بين الطائرات الفرنسية والبريطانية من جهة والألمان والعثمانيين في الطرف المقابل.
في الجهة الغربية من الضريح، تصمد عبارة بالخط الأسود، في مهمة تقديم تعريف بالمكان، فتروي: «النصب التذكاري الألماني للطيارين الألمان الذين استشهدوا أثناء قيامهم بالواجب بعيدين عن وطنهم في الحرب العالمية الأولى عامي 1917-1918». فيما تشير بقايا المروحية إلى القصة على طريقتها، فهي تدور كلما عبث بها الهواء، لتحرك عجلة التاريخ باتجاهات مختلفة، وقد كتبت أسماء الجنود بتفاصيل مكثفة.
تقول مصادر وزارة السياحة: تم بناء الضريح من قبل الحكومة الألمانية بالتعاون مع بلدية جنين، وأعيد ترميم المكان ثلاث مرات كان آخرها عام 2007.
لذكرى فاطمة خاتون
ونعيد تأمل الجامع الكبير، وهو من المعالم التاريخية في جنين الذي أقامته فاطمة خاتون ابنة محمد بك بن السلطان الملك الأشرف قنصوه الغوري. وشُيّد في العام 974 هجري، 1566 ميلادي. نصلي الظهر في الجامع الصغير، الذي يقال إنه كان مضافة للأمير الحارثي، في حين يلحقه البعض إلى إبراهيم الجزار. نتجول في بقايا خربة عابه: في الجهة الشرقية من المدينة في أراض سهلية وتشمل هذه الخربة قرية متهدمة وصهاريج منحوتة في الصخر. ندخل خربة خروبة، التي تقع على مرتفع يبعد قرابة كيلو مترين من المدينة، فنرى الحال قد تغير. نمر من مقربة جسر نهر المقطع، الجسر القديم، الذي بناه العثمانيون في مرج ابن عامر، فوق نهر المقطع، قبل أن يجف، ويتحول إلى مجرى مياه عادمة. وهدمه الاحتلال الإسرائيلي العام 2002.
هل كان قطار يمرّ من هنا يوما؟
هذا لسان حال الجيل الجديد بالطبع، والذي عبثا رحنا نقنعهم بأن محطة للقطار كانت هنا!
ندخل محطة القطار، الذي كان يمر من جنين، إبان الحكم العثماني، ومازالت بعض آثارها إلى اليوم، تلك الآثار التي يسرت أمر إقناع آخرين وقفوا هنا يستمعون لحديثنا ونحن نستطلع عن جنين.
القطار وذاكرة الحديد، لكن لا ذاكرة هنا حديدية لنا.
كان مسئول وزارة السياحة والآثار في المدينة، خالد ربايعة، ينظر من نافذة مكتبه باتجاه مرج ابن عامر، فقال لنا إنه استناداً إلى مصادر تاريخية، فقد أسست الدولة العثمانية خط سكة حديد الحجاز، في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، حيث بدأ العمل فيه العام 1900. كان هذا الخط ينطلق من دمشق، حيث كان يتفرع جنوبها إلى خطين، أحدهما يكمل المسير إلى الجنوب نحو الأردن ، أما الثاني فيتجه غربا باتجاه فلسطين.
وتعد حيفا من أهم محطات الوقوف التي كانت هناك، ومنها يتفرع خط آخر من السكة يربط فلسطين بمصر وهذا فرع فلسطين.
فقد تعرض خط سكة حديد الحجاز إلى كثير من الأضرار والتخريب خلال الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين وفي عام 1917 انضم لورنس العرب إلى الثوار العرب فحرضهم على نسف الخط، وحين استجابوا له، تعرض مئات الجنود العثمانيين للقتل والأسر، حيث قطعت الأسباب بهم.. ومنذ ذلك الحين لم تفلح المحاولات لإعادة تشغيل الخط أو تحديثه.
يروي: مر الخط الحديدي من جنين، عبر مرج ابن عامر، نحو المدينة ثم باتجاه بلداتها الجنوبية، كجبع والرامه وعطارة ومنطقة «الخرق» وعرابة وصولاً إلى برقة المجاورة لنابلس.
ويذكر بمرارة كيف أنه قبل سنين تعرض موقع المحطة القديمة في بلدة جبع للنهب، إذ سرقت حجارته التاريخية، إلا محطة جنين فمازالت صامدة.
كنيسة السيد المسيح
تستضيف بلدة برقين، غرب المدينة، وعلى بعد حوالي أربعة كيلومترات منها، كنيسة مار جرجس، وهي خامس أقدم مكان مسيحي في العالم ورابع أقدم كنيسة في العالم كله.
خلت ساحات كنيسة برقين، القريبة من جنين، كالعادة من السياح، بالرغم من أهميتها الدينية والتاريخية. يقول وكيل الكنيسة، نايف قحّاز: فقط أعداد قليلة من الزائرين يأتون إليها، في كل عام، وهذا الأمر ليس صحياً، ولا نلمس أن هناك شيئاً غير عادي حتى في احتفالات أعياد الميلاد، وها نحن ننتظر.
يتابع: ساءت أوضاع الكنيسة بفعل الإغلاقات الإسرائيلية، وصار عدد الزائرين بعدد أصابع اليد الواحدة.
ووفق قحاز، لم تأخذ الكنيسة حقها منذ أمد، وأصبح الناس يهتمون بها منذ فترة العشرين سنة الماضية فقط، ويأتي إليها المسيحيون من القرى المجاورة في المناسبات الدينية المهمة. يضيف: إن بعدها عن المركز، جعلها كنيسة مهمشة بالرغم من أهميتها الكبيرة وارتباطها الوثيق برحلة السيد المسيح التاريخية.
تقع الكنيسة، غرب مدينة جنين، وعلى بعد حوالي أربعة كيلومترات منها، وهي مقامة على تلة صغيرة، تشرف على شارع رئيس يوصل إلى جنين ويربطها بالقرى المجاورة.
وجاء اسم البلدة، كما يروي الأستاذ صبحي الصايغ، من تحريف لكلمة «برصين»، التي أصبحت بمرور الأيام «برقين»، أما اسم البلدة قبل اكتشاف الكنيسة وفق المصادر التاريخية فكان «بيت فلوى».
تسمى الكنيسة ، وفق راعيها، بكنيسة «مار جرجس»، وهي تتبع طائفة الروم الأرثوذكس، وقد بني الجزء الأول من الكنيسة منذ ألفي سنة، أما الجزء الثاني فشيد في عصر الملك قسطنطين وأمه هيلانة قبل حوالي 1500 سنة.
مكان معجزة إشفاء المسيح للبرص
يقول قحاز: «تنبع أهمية الكنيسة من كونها خامس مكان مقدس في العالم بالنسبة للمسيحيين، وثالث أقدم كنيسة في العالم أيضا بعد كنيستي المهد والبشارةً، وورد ذكرها في الإنجيل، وفي كتاب «معجزات السيد المسيح»، في الصفحتين 2002 و2003، وهي الكنيسة التي أشفى في مغارتها السيد المسيح عشرة من البرص، أثناء رحلته من الناصرة باتجاه مدينة القدس.
يروي استنادا لإنجيل «لوقا» القصة بالتفصيل، ويشير إلى المكان، ويسهب في الحديث عن مصير البرص الذين لم يشكر أحد منهم السيد المسيح، إلا واحداً سامريا.
تقوم الكنيسة على مساحة تقدر بألف متر مربع، وهي مقسومة إلى ثلاثة أجزاء رئيسة، إضافة إلى ساحة وحديقة وبناء حديث العهد لتعليم الأطفال، وغرفة لإقامة الخوري.
الجزء الأول الأهم، وهو مغارة منحوتة في صخرة، بمساحة عشرين متراً تقريباً، تعلوها نافذة دائرة، وهي النافذة التي تقول الروايات التاريخية إنها كانت تستخدم لإنزال الطعام للمرضى العشرة الذين كانوا مصابين بالبرص، ووضعوا فيها بحجر صحي.
قاعة عمرها ألف وخمسمائة عام!
أما الشطر الثاني، فهو قاعة الكنيسة المبنية منذ ألف وخمسمائة عام تقريباً، وبها كرسي المطران المنحوت من حجارة على شكل رأسين لأسدين، يجلس عليه الكاهن خلال مواعظه الدينية، وبجواره الهيكل، وهو قسم تفصل عنه القاعة حواجز في أعلاها اثنتا عشرة نافذة صغيرة، ترمز إلى عدد تلاميذ السيد المسيح، ولا يسمح للنساء بدخولها ولا حتى السائحات، وهو مخصص في الأصل للكاهن، حتى أن أرضيته لا تنظف إلا من قبل الرجال لقداسته، وعلى حجارته الخارجية كانت هناك كتابات قديمة، لكنها آخذة بالاندثار بفعل عوامل الطقس.
فيما تُشكل مغارة مفتوحة، في الركن الشرقي للكنيسة، القسم الثالث منها، وكانت تستخدم كمدرسة لتعليم الأطفال، وتعلوها قنطرة.
أما الأسوار الخارجية فقديمة، ويعود تاريخ تشييدها إلى ألف وخمسمائة سنة. وجرسها الحالي، ونافذتها الدائرية ما زالتا على حالتهما منذ ما قبل العام 1948.
وفق قحاز: رممت الكنيسة على ثلاث مراحل، الأولى في العام 1950، من قبل البطريركية، والثانية في الثمانينيات، والثالثة في العام 2003، وبإشراف من وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، لكن جزءاً من هذه الترميمات تغير، كموقف السيارات ومواقف الانتظار والأشجار والأرصفة، والجدران التي صارت تعج بشعارات سياسية ووطنية.
أم عماد تقود اوركسترا التراث الشعبي!
في أعماق جنين القديمة، تستقبل المرء بنايات ذات نكهة تاريخية، حجارة متلاصقة تتحدى التآكل، ذكريات لسينما «الهاشمي» القديمة تعشش في جدران ذاكرة بائع الحانوت الصغير أبو رائد ركام لمنازل لم تعف أو صفح عنها آليات الحرب الإسرائيلية التي تستذكر المكان في مواسم متقاربة، وكأنها لا تطيق فراق استباحتها.
نقف قليلاً بجانب السينما التي كانت ذات نهار مكانا ثقافياً يرتاده الصغار والكبار، واليوم بدأ الغبار يستقر في قلبها، وعلى بعد خطوات يتيمة تصمد يافطة حديثة تخبر بهوية المكان: «الجمعية النسائية الثقافية للتراث الشعبي»، وهو بناء تاريخي يعود لحفنة من العقود.
داخل المكان الذي عادت الحياة إليه بعد طول انقطاع تجلس عشرات النسوة في يوم الافتتاح الأول كخلية نحل: أم عماد كقائد «أوركسترا»، وخالدية عابد ساعدها الأيمن، ورحاب وأريج وآمنة وميسون. كل واحدة لها شأن يُغنيها و"الهدف واحد". تشرع هيام أبو زهرة أم عماد بزي يتشحه السواد في روي قصتها مع فكرة تطورت لتصبح حكاية فتقول: تبلورت الفكرة عن طريق ابني الشهيد الصحافي عماد، فعندما كان يشاهدني أمارس هواياتي في صناعة أشغال يدوية، كان يتوجه إليّ: إن هذه المهارات يجب أن تطور وتنقل إلى الآخرين.
بدأت أم عماد العام 1995 ومجموعة من سيدات جنين بالتأسيس لمقر جمعية تعنى بإعادة الحياة إلى التراث الفلسطيني وتعريف الجيل الجديد به، وبتشجيع من عماد الذي أطلق على المكان اسم: «من زمان»، ورحنا نقدم منتجات تراثية ونقيم نشاطات كثيرة إلى أن أجبرتنا الظروف القاهرة على إغلاق المكان وتأجيل مشاريعنا إلى إشعار آخر.
تكمل: في 22 أبريل 2003 حصلنا على ترخيص لتأسيس جمعية نسائية ثقافية تراثية، وعزمت على إكمال حلم عماد الذي استشهد في اجتياح الاحتلال للمدينة في يوليو عام 2002 أثناء قيامه بواجبه الصحافي.
وكأن أم عماد حاولت الإطاحة بالأحزان والآلام وزراعة شيء من الأمل عبر إحياء ما أحبه الشهيد الغائب الحاضر. ترحل قليلا إلى الماضي، وتستذكر شغف نجلها الأكبر في جنين، فهو الذي كان يطلق على نفسه اسم «أبو جنين»، وراح منذ طفولته المبكرة يلتقط صور المدينة ونخيلها ومسجدها القديم وحاراتها العتيقة، ويجمع كل شيء يمت للمدينة بصلة.
بعدها أسس جريدة أطلق عليها اسم «جنين» وراح في كل أسبوع يحاول البحث عن الماضي ويقدمه للجيل الجديد ويذكر الكبار به.
تولي أم عماد ورفيقاها التراث الشعبي عناية فائقة، وهنا يسرفون في التخطيط لتنفيذ جملة من الخطط التراثية، في المرحلة الأولى سنركز الجهود على نقل المعرفة في صناعة المطرزات والقشيات والأعمال التراثية وبعض الفنون اليدوية والمشغولات للشابات والسيدات اللاتي تنقصهن الخبرة فيها، حرصاً على تراثنا من الاندثار.
تفيد هيام أبو زهرة: سنطلق فكرة حضانة نموذجية، وسننقل جملة كبيرة من المعارف بالأشغال اليدوية وفنون التطريز والرسم على الزجاج وتصوير الفيديو، وكيفية استخدام الخيش كستائر.
في رواق داخلي أعيد ترميمه بإمكان المرء مشاهدة الأدوات القديمة: هنا يستقر غربال تراثي كان ومازال يستخدم في تنقية الحبوب والحنطة من الشوائب والبذور الطفيلية، في ركن آخر تجثم أوان وجرار لحفظ الماء واللبن، في باحة ثالثة ثمة أوان لمعالجة القهوة، فيما «وابور» الكاز يستقر في ناحية منفردة، وعلى جدارية مقابلة تحتلها لوحات ومطرزات وصور ألوان كثيرة، وهناك أيضاً ستائر صنعن من الخيش الذي أهمل في أيامنا، وفي محطة أخرى تستلقي أزياء شعبية فلسطينية في استراحة قصيرة تقطعها لمسات الجمهور الذي يتفحص لونها وتصميمها: هذا لبيت لحم وذاك لجنين وهناك زي رام الله والقدس.
تستعد أم عماد ومثيلاتها لإنشاء مطعم شعبي سيقدم أطباقاً يومية تراثية سيعلن عنها في وسائل الإعلام المحلية، كالمسخن الذي كان طبق الافتتاح واقتحم أنوفنا، والمفتول والكبة والشيش برك والمحاشي وغيرها، وكل ذلك بخبز طابون يجثم في ناحية بعيدة من المكان- المتحف.
ولأم عماد أن تزور صخرة كليب، ولأهله أيضا، لتجديد ذكرى اغتيال عماد الذي كان كل ما جناه هو تصوير الغزاة الذين عاثوا في جنين - بشكل خاص - دمارا وفسادا..
ما يجمع عماد وكليب أنهما قتلا مغدورين، عماد برصاص صهيوني جبان، وكليب برمح أو لعله سهم جساس الغدار!
ريم.. ذاكرة المخيم وتذكار لمن رحلوا
ماذا تفعل طفلة بذاكرتها؟
لكنها فعلت أفضل من الكبار الذين مروا بسرعة إزاء معركة مخيم جنين، تلك الأسطورة التي شهدت وشاهدت على خرافة الجيش الإسرائيلي الذي لا يهزم!
هنا كانت هزيمة الغزاة بالرغم مما خربوا وقتلوا وهدموا!
تشكل ريم جمال صالح، 19 عاما، والتي تسكن مخيم جنين، انعطافة ما في علاقة الطفولة باللجوء. فعمدت خلال مجزرة المخيم في إبريل 2002 على أرشفة يوميات الموت وتدوينها، إذ سجلت كل ما سمعته وشاهدته بدءا من الثالث من إبريل وحتى العاشر منه.
«في يوم الأربعاء الثالث من أبريل 2002، هطلت أمطار في الصباح ممزوجة بالرصاص والموت، دونت بلون أحمر في دفتر يومياتي: «اجتاحت قوات الاحتلال مدينة جنين، وحاصرتها بالكامل، وتمركزت في المناطق المشرفة على المخيم كالجابريات وحرش السعادة وشارع حيفا، وتصدى المقاومون للقوات الغازية، ودارت اشتباكات عنيفة جداً، وأحتل جنود الاحتلال أسطح المنازل ذات المواقع الإستراتيجية، وحولتها لثكنات عسكرية ونشرت القناصة عليها، أسفرت الاشتباكات عن سقوط ستة شهداء وإصابة العديد من المواطنين، وقتل جنديان إسرائيليان وضابط برتبة قائد لواء المنطقة، وأعطب الشبان ثلاث دبابات».
بهذه السطور الذي يظن المرء أنها من كتاب يوثق موسم القتل وإعادة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، شرعت ريم جمال قبل أكثر من ست سنوات من اليوم في توثيق حكاية الموت والدم الذي حلق في أفق وطنها ومخيمها. لم يكن عمرها في ذلك اليوم سوى خمسة عشر عاماً.
تقلب الصفحة وتصل لليوم التالي ( الخميس، الرابع من إبريل ) وتقرأ لنا ما كتبت: استمرت الاشتباكات بين المدافعين عن المخيم وقوات الاحتلال ودارت اشتباكات عنيفة جداً، وأفشلت المقاومة محاولة جديدة لاقتحامه.. أسفرت المواجهات عن سقوط ثلاثة شهداء، وقتل جنديين وجرح ثلاثة آخرين حسب مصادر المقاومة. تنتقل إلى الخامس من إبريل الذي مازال يطرق «جدران ذاكرتها»، ثم توثق ريم حكاية السادس منه: «استطاعت قوات الاحتلال بآلياتها ودباباتها وطائراتها وبعد مواجهات عنيفة استطاعوا الدخول إلى المخيم من جهته الشرقية، وهدمت الجرافات العديد من المنازل ووصلت إلى ساحة مسجد الأنصار، وتمركز الجنود فيه وحولوه لثكنة عسكرية ودارت اشتباكات عنيفة في تلك المنطقة، قتل خلالها رقيبان وعريف وجرح أربعة جنود بحسب المصادر الإسرائيلية».
روايات
تصل إلى السابع من إبريل لتروي ما حدث: «داهم الجيش المنازل في المنطقة الشرقية، وطرد بعض العائلات من بيوتها وهدمها، واحتجز المواطنين في غرف ضيقة واستخدموا دروعاً بشرية أيضاً تمركزت المواجهات في الحي الشرقي بين حارة الدمج والحواشين، وأصيب جندي إسرائيلي بجروح خطيرة. وطلبت قوات الاحتلال عبر مكبرات الصوت من المقاومين الاستسلام، إلا أنهم رفضوا ذلك، وطالبوا الرجال من سن 14إلى 60 بالخروج من منازلهم والتجمع في ساحة أمام المخيم،وقصفت طائرات الأباتشي المنازل عشوائياً، وكانوا يطلقون الصواريخ على أي مكان يشكون أن فيه مقاومين، واستطاعوا التوغل أكثر فأكثر في المخيم بواسطة الطائرات، وأحدثوا فتحات بين البيوت».
كانت ريم تكتب كل ما يصلها بعد التأكد من صحته عبر أكثر من مصدر، وراحت تستعين بضوء قنديل صغير بعد أن غرق المخيم في الظلام والدم، وتملكها الخوف على قلمها الذي قدمه لها خالها عز الدين.
في نظرة خاطفة على يومياتها، يمكن أيضاً قراءة سطور خطت باللون الأزرق تتحدث عن مدن الضفة ومجرياتها، وبخاصة مجازر نابلس وحصار كنيسة المهد وما عصف برام الله.
تسترسل: بعد نهاية المجزرة لم أوثق شيئاً، وصار الصحافيون الأجانب ينهالون عليَّ بأسئلتهم، سألها الياباني والفرنسي والإيطالي والأمريكي الأسئلة ذاتها تقريباً التي وجهتها لها صحفية إنجليزية من هيئة الإذاعة البريطانية.
دونت ريم أيضاً لحظات قتل ابنة خالها ماريا، وكيف دفنت في شارع مجاور.
شخصيات من المدينة
لا يقتصر حب المدينة على المؤرخ الشيخ مخلص الحاج حسن، بل انتقل الحب للجيل الجديد؛ فقد اهتمت صفاء إبراهيم، وهي طالبة جامعية كثيراً بمدينتها، فصارت تجمع كل ما يتصل بجنين من معلومات: في أوراقها تاريخ وصور وقصاصات من جرائد ومقاطع من كتب.
تحدثنا عن عشقها لمدينتها، ونختار ما قدمته من معطيات عن وجوه سكنوا جنين وسكنتهم. تبدأ ببرهان الدين العبوشي، الشاعر والمناضل والمفكر، الذي ولد في العام 1911، والتحق بالدراسة الجامعية ببيروت العام 1933، وشارك في ثورة العام 1936 بفلسطين، وفي ثورة رشيد عالي الكيلاني بالعراق العام 1941. تاركاً أربعة دواوين شعرية، ومثلها مسرحيات شعرية.
وتمر بسيرة الشيخ فرحان السعدي، المناضل الذي لاحقه المحتلون الإنجليز حتى ألقوا القبض عليه العام 1937 في قرية المزار قرب جنين، وقدِّم بعد يومين لمحكمة عسكرية، وحكمت عليه بالإعدام شنقا.
وتصل صفاء للشيخ يوسف سعيد أبو درة، قائد فصيل الثوار في الجليل الأسفل وجبال الكرمل، ومن رفاق وتلامذة الشيخ القسام وشارك معه في معركة يعبد. وتنسب لمجموعة أبو درة القيام بأعمال مميزة من بينها أسر مستوطنين بعمليات جريئة، ومهاجمة سجن عتليت.
وتتطرق إلى الشيخ حسن الباير، الذي ولد في بلدة برقين القريبة من جنين، تعرف على القسام في مدينة حيفا حيث كان يعمل، حيث أعجب بشخصية القسّام حين كان يحضر دروسه في مسجد الاستقلال في المدينة فلازمه ونال ثقة الشيخ القسام وبدأ في العمل السريّ حتى عام 1935.
ولا تغفل صفاء عن الإشارة إلى الحاجة عدلات طوقان، التي ولدت في مدينة حماة سنة 1913م، إذ عملت مديرة لمدرسة بنات جنين الإعدادية ، وتفرغت في مجالات الخير المختلفة، وكانت مبادرة مع مجموعة من أهل الخير لتأسيس جمعية جنين الخيرية لمساعدة الطلاب الفقراء في التحصيل العلمي الجامعي والمعاهد العليا.
الجامعة الأمريكية
تعتبر الجامعة، كما يروي رئيسها د. عدلي صالح، أول جامعة خاصة في فلسطين، إذ تأسست عام 1996 برأس مال فلسطيني، وفتحت أبوابها لاستقبال الفوج الأول من الطلبة في الثامن والعشرين من شهر سبتمبر عام 2000، وهو اليوم الذي اندلعت فيه الانتفاضة الفلسطينية الثانية».
يتابع: « في الجامعة الآن 3500 طالب وطالبة موزعين على أربعة وعشرين تخصصاً أكاديمياً في ست كليات، ونحرص على توفير التخصصات النادرة والملائمة لسوق العمل الفلسطيني، مثلما ننظم فعاليات ومؤتمرات دولية، ونتفاعل معها».
يقول د. وليد الباشا، الأستاذ المساعد في كلية العلوم الطبية المساندة: صحيح أن تأسيس جامعة في جنين تأخر كثيراً، لكننا أثبتنا بسرعة أن مدينتنا تقدم نموذجاً لكل شيء: المقاومة والنضال والتعليم ، مثلما تعد ذات تاريخ ثري وجغرافيا غنية بالمناظر الطبيعية الخلابة، والأحراش والتنوعات بين سهول وجبال ووديان. عاد الشاب وليد الباشا قبل ثلاث سنوات من اليابان، وفي حوزته شهادة الدكتوراه في علم الفيروسات الجزئي، وهو تخصص نادر في فلسطين. كانت الأفكار الأولى التي بدأ بها وليد، تأسيس مختبر للأبحاث العلمية المتصلة بالعلوم الحياتية والجزيئية والبيئية، كونها الأحلام القديمة التي فكر فيها قبل مغادرة جنين، والتي تعني اختصار الطريق وتوفير الجهد والوقت والمال على المواطنين الذين يحتاجون إلى فحوصات معقدة وقائمة على أساس جيني ووراثي.
في مكان متواضع، في أحد أطراف مرج ابن عامر، يبدو مركز الباشا العلمي بالجسم الغريب، على الأقل بالنسبة لأطفال الحي، الذين يجهلون الجينات والوبائيات والحمض النووي، فيختزلون عمل المركز وصاحبه بأنه «يُربي الأفاعي»، فيما يقول صاحبه إنه يسعى لفعل شيء في بلده، لأنه لا يؤمن بالمنظمات غير الحكومية NGOS، وإنما بالأفراد غير الحكوميين NGI كما يختصر اصطلاحا استحدثه للدلالة عليهم.
يلخص وليد أهدافه من وراء مركز من هذا الطراز على هذا النحو: «سعينا لإعداد دراسات حول الأمراض الوراثية، فدراسة انتشار الأمراض الوبائية التي لا تشخص بالفحوصات الروتينية، ثم إلى تشكيل حلقة وصل بين الباحثين الفلسطينيين في الوطن والمهجر، عدا عن توفير فحوصات جينية للمواطنين والمزارعين ولفنيي المختبرات، إضافة إلى توفير عينات حية ومحفوظة للمراكز التعليمية لتنشيط البحث العلمي، إلى جانب توفير مصادر علمية ومكان لتدريب الباحثين، وتفعيل العمل البيئي، وحماية النباتات الطبية النادرة، إضافة إلى إصدار مجلة علمية لنشر الأبحاث العلمية المحلية».
طاقة
يقول: في جنين، استطعت إنتاج مشرحات علمية ثلاثية الأبعاد بكلفة أقل كثيراً من التي نستوردها، وها نحن نجري دراسة ميدانية على ذبابة أريحا وتأثيرها على الجروح، وسبل القضاء عليها.
يضيف: نقوم ببحث علمي على الدودة الشعرية من خلال دراسة 500 حالة من طلبة رياض الأطفال، وأخرى لدراسة الفطريات المنتشرة في شمال فلسطين بالتعاون مع أحد الأطباء المتخصصين بأمراض الجلد، مثلما أنتجنا أصنافًا نقية من أنواع الفطر المشروم لأغراض زراعية تجارية لمواطنين، وندرب ثلاثة طلبة دراسات عليا، كما استخلصت المادة الوراثية وفحصتها، وزرعت المادة الوراثية، وشخصت بعض الأمراض الوراثية .. يكمل: في اليابان والولايات المتحدة، نشرت أبحاثاً حول الفيروسات، وكانت شهادة الدكتوراه التي حصلت عليها حول اكتشافي لمادة تستطيع إيقاف نشاط الفيروس المسبب لمشكلات ما بعد زراعة الأعضاء. يتابع: توصلت هناك إلى طعومات لسرطان عنق الرحم، والفيروسات المسببة له.
وها أنا هنا لفعل شيء لبلدي، بالرغم من أنني أحمل وأولادي الثلاثة هادي وشادي وفادي إقامة دائمة في اليابان، ، غير أنني قررت الهجرة إلى وطني، بالرغم من الديون بسبب البحث الجيني، وتعدد الإغراءات بالسفر لكندا وغيرها.
والباشا من مواليد العام 1967، يفكر في تأسيس متحف للزواحف، ويسعى لاستحداث منتدى علمي في مدينته جنين. ويلقى الدعم من والديه وزوجته بالرغم من أنه يقضي أوقاتًا طويلة إما في مختبره المستأجر، القريب من بيته، أو في الجامعة العربية الأمريكية حيث يعمل. نغادر جنين ولا تغادرنا، فنحن نسكنها وهي تسكننا، ولو طرنا لجهات الأرض المتباعدة، لكن العبارة التي يحفرها أحد تجار المدينة فوق مكتبه والتي تقول: «سطا الغزاة على الماء والخضرة.. وظل الوجه الحسن» تترك فينا أثراً عميقاً.