قَدَرُ بعض الفلاسفة أن يكونوا رواداً لمجتمعاتهم، ونبراساً لمجايليهم. لا تعزلهم غرف البحث الصامتة عن مسالك الحياة الصاخبة، ولا تفصلهم أوراق وأحبار الأوراق عن معترك التنوير بما يتطلبه من جهد فذ.
حينما اخترتُ المفكر الكبير الدكتور فؤاد زكريا موضوعاً لملف هذا العدد من «العربي»، كانت حيرتي أشد في من سنستكبُ ليكتبَ عنه. فقد كان ثراء عطائه يربطه بأكثر من محور، مثلما يستدعي للحديث عنه أكثر من قلم. لذلك كانت النخبة المتحدثة في هذا الملف إشارة لافتة لقدر ذلك الراحل الكبير، في حياته العملية، وتراثه الفكري، على حد سواء.
وأزعم أنني مع جيلي كله كنا من زمرة تؤمن - ولاتزال - بما آمن به فؤاد زكريا، نُعلي من شأن العقل، ونُجلّ قيم المعرفة، وندرك أن الفلسفة خلقت لتجيب حينا وتتساءل أحيانا عن أسئلة الإنسان وأقداره.
كان ذلك هاجس الدكتور فؤاد زكريا في حياته، سواء كان عمله في نيويورك، أو مسيرته في الكويت أو معتركه بمصر. ولقد كان في خطابه، سواء كانت مقالة أم محاضرة أم كتاباً، كفيلا بأن يقدم لك صورة نفسه، التي ليست سوى مرآة للفلسفة التي عاش لها، وبها.
ظلت جرأة الدكتور فؤاد زكريا، في الرد على محاججيه، نموذجاً في الدرس العقلاني، فقد أورثته طبيعته الهادئة ودراساته المتعمقة خصالا في أدب الحوار، تستند إلى قوة منطقه، وسعة معرفته، في مقابل اللغو الذي يواجهه به خصومه. فقد آمن أن مشكلتنا الأساسية تكمن في شيوع نمط وحيد من أنماط التفكير اللاعقلاني يغيب فيه المنطق وتحضر به الخرافة، مما يكرس الأوضاع العسيرة التي تعانيها شعوبنا العربية، وهو الأمر الذي كان يغضب الكثيرين ممن يرون في أفكاره تمردا على نهجهم.
وكان يؤلمه أنه مازال لدينا أناس يدافعون عن الشعوذة ويروجون للسحر ويتبنون الدجل إحساسا وإيمانا باستحالة وجود مخرج من أزماتنا.
آمن فؤاد زكريا بقيمة الحرية، وخاصة حرية الإبداع، مثلما آمن بقسوة ما يكبل الكتاب والمفكرين والمبدعين من قيود تمنعهم من المساءلة النقدية الضرورية للحراك اللازم للتقدم.
في الإصدار الثالث من سلسلة كتاب (عالم المعرفة) المنشور بالكويت عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، يقول فؤاد زكريا في كتابه «التفكير العلمي»: «في اعتقادي أن موضوع التفكير العلمي هو موضوع الساعة في العالم العربي، ففي الوقت الذي أفلح فيه العالم المتقدم - بغض النظر عن أنظمته الاجتماعية - في تكوين تراث علمي راسخ امتد في العصر الحديث طوال أربعة قرون، وأصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاهاً ثابتاً، يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه، في هذا الوقت يخوض المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية في إقرار سبيل أبسط مبادئ التفكير العلمي، ويبدو حتى اليوم، ونحن نمضي قدماً إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين، أن نتيجة هذه المعركة مازالت على كفة الميزان. بل قد يخيل إلى المرء في ساعات تشاؤم معينة أن احتمال الانتظار فيها أضعف من احتمال الهزيمة».
هكذا يتنبأ فؤاد زكريا، قبل نحو ثلاثة عقود، بما وصلنا اليوم إليه، من ردّة وترد. ولا يسعنا ونحن نقدم هذا الملف الموجز إليه وإلى حوارييه، وأصدقائه، وتلاميذه، إلا أن نجدد الدعوة إلى ما دعا إليه، التفكير العلمي، سبيلا وحيدا لنهضتنا.
فإن كنا نريد أن نقف مزهوين أمام تراث علمي أنجزناه فسبقنا به العالم، فعلينا ألا نقف طويلا أمام الماضي، بل نأخذ منه القبس لإضاءة مشعل نحمله في درب طويل نحو المستقبل. وهو درب يصل غايته المفكرون والمجتهدون والعقلانيون والأحرار.
وإذ أتقدم، من على منبر مجلة «العربي»، بأحر التعازي لعائلة الفقيد وتلاميذه وأصدقائه في كل مكان، لا يسعني إلا أن أذكّر بأن الدكتور فؤاد زكريا، الذي ساهم في بناء جامعة الكويت، كأستاذ للفسلفة ثم رئيسا لقسم الفلسفة بها لسنوات طويلة، قد قدم الكثير للثقافة في الكويت، فبالإضافة لنشاطاته ومساهماته المتواصلة في الأنشطة الثقافية التي أقيمت في الكويت، قد ساهم بإنشاء أهم سلسلة كتب ثقافية عربية،بل هي موسوعة ثقافية، وهي «عالم المعرفة». فهو الذي وضع خطتها، وقاد مسيرتها كمستشار لها منذ تأسيسها حتى انتقاله إلى جوار ربه، وكان دائماً يردد بأن هذه السلسلة من أهم إنجازاته الثقافية في حياته، لا يترك صغيرة أو كبيرة إلا ويدقق بها، ويراجعها، ولا يسمح أن يتسرب إليها أي وهن أو ضعف فضمن بذلك مستواها واحترام القرّاء والكتّاب والمفكرين لها من كل مكان.
كانت «عالم المعرفة» بالنسبة لفؤاد زكريا مشروعاً ثقافياً يتحمل مسئولية كل ما ينشر بها، كفيلسوف وعالم. ولعلي الآن أذكر لأول مرة لأدلل على موقع د.فؤاد زكريا من سلسلة كتاب عالم المعرفة، ففي عام (1994م) بعد تحرير الكويت اتصلت به - وكان قد تقاعد عن التدريس بجامعة الكويت، وعاد إلى القاهرة - أطلب منه أن يستمر مستشاراً ومشرفاً علمياً للسلسلة، فوافق بعد اتفاقنا على صيغة يتمكن منها من المتابعة والإشراف وهو في القاهرة، على أن يحضر اجتماعات هيئة التحرير في الكويت، وقدمت له عقدا للتوقيع عليه، وعندما قرأ مبلغ المكافأة التي وضعتها له في العقد، وهو مبلغ ليس بالكبير، سحب قلما من يدي وشطب المبلغ ووضع بدلاً عنه نصفه، وحاولت الاعتراض - لقناعتي بأن مبلغ المكافأة أقل من مكانته والجهد الذي يبذله، قال: أنا لا أتعامل مع كتاب «عالم المعرفة» من موقع الحصول على أجر، بل أنا مشارك علمي ولي رسالة ثقافية وتنويرية أحقق الكثير منها من خلال كتب عالم المعرفة.
ولعلنا نقدم بهذا الملف للدكتور فؤاد زكريا بعضاً من تقديرنا وعرفاننا له لما قدمه لأبناء الكويت وأبناء العرب أجمعين من فكر وعلم وقيم نحن بحاجة ماسة لتمثلها والاقتداء بها.