مختارات من:

الأبعاد الفكرية لكتابات د. فؤاد زكريا السياسية

عبدالله الجسمي

خاض المرحوم د. فؤاد حسن زكريا معارك فكرية وسياسية عديدة مع مختلف التوجهات الفكرية والسياسية في الوطن العربي، فقد مرت عليه فترات لم تكن تلك المعارك تهدأ ولو للحظة واحدة ومن جميع الاتجاهات، إذ اعتدنا أن نسمع منه عندما كنا طلبته، عند سؤاله مع بداية العام الدراسي الجديد، كيف قضى عطلته الصيفية، كان رده كلمة واحدة وهي «خناقات»، وهذا مؤشر على طابع الجدل والمعارك الفكرية التي لا تهدأ حتى في العطل. كان د. فؤاد من نمط الأكاديميين الذين لم تقف اهتماماتهم على الجانب الأكاديمي فقط، بل تجاوزها إلى الجانب الثقافي والشأن العام خصوصا الجانب السياسي منه، وبشكل عام يعد من المفكرين والمثقفين الموسوعيين الذين تميزت بهم الثقافة العربية خصوصا في النصف الأول من القرن العشرين، والذي أصبح نادراً في نصفه الثاني. ولا نبالغ إذ قلنا إن رحيل د.فؤاد يمثل رحيل آخر الموسوعيين العرب.

الكتابة عن آرائه السياسية تقتضي أولاً فهم طريقة تفكيره التي مارس من خلالها الكتابة السياسية، وكيف انعكس ذلك على تناوله للقضايا والمشكلات المثارة ومن ثم موقفه من القوى السياسية المؤثرة أو الفاعلة في الساحة السياسية العربية.

فقد حرص على توظيف الجانب الأكاديمي في كتاباته السياسية من عدة زوايا، أبرزها تقريب الفلسفة واستثمار العديد من أفكارها ومناهجها في الحياة العامة للمجتمع والرد على من يتهمها بألا يمكن الاستفادة منها في الواقع، وكون الفلاسفة يعيشون في أبراج عاجية ويبتعدون عن قضايا المواطن العادي، علاوة على محاولة إضفاء طابع عقلاني على المواقف والأحداث السياسية، ذلك الطابع الذي تفتقر له الساحة السياسية العربية، حيث يسود الانفعال والأيديولوجيا عليها. وله إشارة جميلة في هذا الصدد كتبها في تقديمه لكتابه «آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة» حيث يعزو أسلوبه في الكتابة إلى سمتين، فيقول: «أما السمة الأولى، وهي النظرة العقلية - أو العقلانية بمعنى أدق - فلست أعني من ورائها السير وراء العقل الجاف، والتعالي عن أمور الحياة ومشكلات الناس الواقعية، ذلك النوع من العقل الذي جمده الفلاسفة عصوراً طويلة، والذي ازدهرت فيه مذاهب فكرية شاملة كان معظمها يتطلع إلى عالم الإنسان بترفع وشموخ، إنما أعني العقل الذي يندمج في الحياة ويسخر نفسه لخدمتها ويحقق ذاته في أكمل نحو بالتغلغل في مشكلاتها».

ويضيف على ذلك السمة الثانية وهي المنهج النقدي الذي تميزت به كتاباته الفلسفية أو غيرها. هاتان السمتان لعبتا دوراً أساسياً في تغلغل فكره الفلسفي بكتاباته السياسية.

فعلى المستوى الشخصي تمتع د.فؤاد بشخصية وطريقة تفكير مستقلة، نأت بنفسها عن أي شكل من أشكال التبعية. فكان يشدد على مسألة الاستقلالية وعدم الخضوع للسلطة أيا كان نوعها سياسية أو فكرية، وهذا ما جسده بالفعل في مسلكه السياسي، إذ لم يقف في صف نظام ما ولا تملق أحدا من كان، على الرغم من المضايقات العديدة التي كان يلاقيها من بعض الأنظمة العربية ومثقفيها التابعين لها. لقد كان الاتساق في الفكر والممارسة سمة مهمة من سمات شخصيته، فهو مثلما اتبع منهجية دقيقة في كتاباته، كان مسلكه الشخصي لا يخرج عن ذلك النطاق أيضا.

وبالنظر إلى طريقة التفكير التي اتخذها في كتاباته سنجد أنه يتميز بالجانب العقلاني المتجرد والمتسم بالموضوعية ويسترشد بالمنهج العلمي، ويتسم بالواقعية والاتساق المنطقي ويبتعد عن الأهواء الشخصية والجوانب الانفعالية، وأي شكل من أشكال الدوجماطيقية العقائدية الجامدة. لقد تخللت تلك العناصر كتاباته السياسية، وقادته للمعارك الفكرية التي خاضها من الجميع تقريباً.

نبذ الأيديولوجيات والشخصنة

اتخذ د. فؤاد موقفا مضادا من الأيديولوجيا والتفكير العقائدي لأن ذلك حسب رأيه، يفقد العقل استقلاليته ويجعله أسير مقولات معينة ومجردة، تتكرر في تناول المشكلات والمواقف السياسية وتجعل صاحبها يرى الأمور بعين واحدة ويرفض أي تحليلات أخرى لا تتفق مع أيديولوجيته أو فكره، وقد اتضح ذلك جلياً في موقفه من طرفين أساسيين في الساحة العربية وهما الحركات الأصولية الدينية، والقوى اليسارية التي اتخذت من الفهم الماركسي ذي الطابع العقائدي فكراً لها. فعلى الرغم من كونه مؤمناً بالديمقراطية كنظام سياسي وبالمجتمع المدني ومن المدافعين عن التحديث الثقافي والفكري للمجتمع العربي، فإنه اتخذ موقفا حتى من الأطراف صاحبة الأيديولوجيات الحديثة بالمقارنة مع الأفكار الأصولية التي ترفض واقع الحياة المعاصرة وتريد العودة للماضي. فقد وقف ضد أفكار ومواقف هذين التوجهين بسبب الطابع الأيديولوجي الجامد وما نتج عنه من تعصب فكري، ورفض للأفكار والآراء الأخرى. فالتعصب يعني إلغاء العقل واستقلاليته الفكرية، والنظرة للحقيقة من جانب واحد فقط أي احتكارها، ويعني في الوقت نفسه الانطلاق من مقدمات فكرية في تناول المشكلة لا من المشكلة نفسها، وبذلك تكون المقدمات خاطئة وسينتج عنها لاحقا نتائج خاطئة، ولن تخرج عن نطاق أيديولوجي أو فكري معين يمكن معرفة طبيعة الموقف من أي قضية أو مشكلة مسبقا.

ولم يقتصر الأمر على القوى الأصولية أو اليسارية بل أيضا وقف ضد الكثير من المثقفين والسياسيين القوميين وأطروحاتهم ومواقفهم السياسية. فقد وقف الكثير منهم في صف بعض الأنظمة التي رفعت شعار القومية ومن أبرزها نظام صدام الذي اشترى البعض منهم، والبعض الآخر من دافع عروبي ذاتي من دون رؤية أو تصور واضح لما يريده على الصعيد القومي. فقد انتقد الجانب القومي لدى الكثيرين الذي يقوم على أساس وجداني وانفعالي وعاطفي ذاتي وليس فكريا، إذ انعكس ذلك على مواقفهم في العديد من القضايا المصيرية، حيث يسود الطابع الانفعالي ذو الأسلوب الحدي في خطابهم السياسي ضد الآخرين، وخصوصا العالم الغربي. وقد أسهم الجانب الانفعالي والعاطفي في تحجيم الجانب العقلي أو إلغائه في النظر للقضايا والمشكلات في الساحة العربية، وأسهم ذلك في غياب الرؤية السليمة لما يجرد في الواقع واتخاذ مواقف انفعالية أدت إلى التخبط وتعقيد الأمور وغياب التعامل السليم مع القضايا والأحداث.

الأفكار الباقية

إن ما قدمه د. فؤاد في كتاباته السياسية بحاجة، وفي هذا الوقت بالذات، إلى قراءة من قبل جميع الأطراف التي كان يعارضها. فنحن نعيش الآن بوادر مرحلة جديدة حدثت فيها إخفاقات عدة لكل المشاريع التي طرحت على الساحة العربية منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن، وهي النماذج القومية واليسارية والأصولية الدينية، في مقابل تراجع المشروع التنويري الثقافي العربي. فسيجد هؤلاء في كتابات فؤاد زكريا تشخيصا دقيقا لأخطائهم السياسية وهفواتهم الفكرية ومدى صلاحية أفكارهم للواقع العصري في بدايات القرن الحادي والعشرين.

وعلى الرغم من توقف د.فؤاد عن الكتابة منذ منتصف التسعينيات تقريبا بسبب العارض الصحي الذي ألم به، فإن كتاباته ستبقى حية ولا يمكن الاستغناء عنها لكل من يريد نقد وتطوير الواقع العربي، وهذا ليس ادعاء وجدانيا أو عاطفيا بل له أسبابه الفكرية. فأفكاره وكتاباته لم تكن ذات طابع أيديولوجي تنتشر بانتشار أيديولوجية ما في وقت معين وتنحسر بانحسارها، ولم ترتبط بأحزاب أو قوى أو أنظمة سياسية لتزول بزوالها. فأفكاره وآراؤه اتسمت بالموضوعية والعقلانية المجردة من التحيز والانفعالات والعاطفة وتأثرت بالجوانب العلمية والواقعية، وهذه العناصر تمثل روح العصر وثقافته، لكنها مع الأسف ظهرت في بيئة غير عصرية لا تعرف قيمتها حتى هذه اللحظة. كما أن المنهجية التي كتبت بها يجعلها أنموذجاً يحتذى، بمعنى أنها تؤسس لطريقة من الكتابة الفكرية السياسية غير مألوفة في الواقع العربي، وهذا ما يؤهلها للاستمرارية والبقاء.

ومسألة التعامل مع النتائج وعدم الالتفات للأسباب تأتي من افتقار الكثير للواقعية والتفكير الواقعي وهي إحدى آفات الثقافة العربية السائدة، وطرق التفكير التي تنظر للواقع من الأعلى وبطريقة منطقية مجردة. ويعود ذلك بلا شك إلى الافتقار للتفكير العلمي ومناهجه وإمكان الاستفادة منه في تحليل ما يجري في الواقع، للاعتماد على الذات بشكل كبير في اتخاذ المواقف وتفسير الأحداث وغياب أي شكل من أشكال المنهجية.

والتفكير العلمي الذي تبناه د.فؤاد لا يتعلق بالجانب العلمي التجريبي الصرف، فكما قال في أول سطر من كتابه المشهور «التفكير العلمي» بأن «التفكير العلمي ليس تفكير العلماء بالضرورة»، حيث مكنه ذلك في رؤية القضايا والمشكلات بصورة واقعية وبنظرة موضوعية ناقدة جعلته قادراً على تشخيص الواقع وما يجري فيه بشكل دقيق واتخاذ المواقف ذات البعد العقلاني منه، ومن خلال تلك الطريقة استطاع أن يكشف مكامن الخلل في مواقف القوى السياسية الأخرى بل والخلل في طرق تفكيرها.

ومن الأمثلة الشائعة في كتابات د. فؤاد حول عدم واقعية خصومه السياسيين نجد أبرز نموذج وهو الحركات الأصولية. فهي ترفض بشكل واضح عالم اليوم ذا الثقافة والتفكير الواقعيين وتريد العودة إلى الماضي، وتغرق في عالم من الوهم حول إمكان تغيير العالم الحالي حسب طريقة تفكيرها غير الواقعية، فضلا عن الطبع عن التحليلات والتفسيرات للأحداث والقضايا العربية والعالمية التي لا صلة لها بالواقع. علماً بأن ذلك لا يقتصر على القوى الأصولية بل هناك أيضا أطراف من القومية واليسارية ينطبق عليها ذلك.

وطبق د. فؤاد في كتاباته السياسية المنهجية النقدية التحليلية في تناوله للقضايا المختلفة. فقد اتسمت كتاباته بالاتساق والترابط المنطقي بين أفكارها، واعتمد التحليل النقدي وسيلة في تناوله لأفكار ومواقف القوى السياسية الأخرى.

ولاشك بأن الكتابة المنهجية تضفي قدراً كبيراً من الموضوعية في الكتابة وتبين بسهولة التناقضات أو عدم الاتساق الذي يقع به الآخرون أحياناً، خصوصاً عندما ينطلقون من مقدمات غير واقعية أو يفتقرون لأبسط مبادئ المنهجية والاتساق المنطقي في الكتابة. وقد أسهمت منهجيته النقدية في تحليل المشكلات من الداخل، وطبيعة اللغة المستخدمة في التعبير عنها والترابط المنطقي في أفكارها، لا إلغاء الأفكار أو إزاحتها بطريقة إقصائية وطرح بدائل نقيضة لها. هذه المنهجية مكنته من تناول أفكار ومواقف الكثيرين من شتى الاتجاهات دون الوقوع في التناقض أو الإقصاء على العكس من معارضيه الذين كان الإقصاء وإلغاء الآخر منهجاً لهم.

فلو أخذنا الموقف من الغرب كمثال، سنجد موقف غالبية القوى السياسية العربية إقصائيا وينظرون للغرب ككتلة واحدة بنظرة تعميمية لا مجال فيها للتمييز بين السلبيات والإيجابيات.

بينما في المقابل نجد الرؤية النقدية تأخذ منحى موضوعياً، وتميز بين الغث والسمين وتعزز ما هو إيجابي وترفض ما هو سلبي وهذا ما اتبعه د.فؤاد في نظرته للغرب والآخرين.

وعليه فقد كان د.فؤاد على خصام فكري مع الغالبية الساحقة من الأطراف السياسية والثقافية في الساحة العربية، فقد افتقرت تلك الأطراف إلى الاحتكام للعقل والابتعاد عن الجوانب الذاتية التي أسهمت في شخصنة المواقف وعدم النظر للأمور في سياقها المنطقي السليم، فليس من المستغرب إذا أن يتخذ الكثير من المثقفين والسياسيين موقفا منه بسبب آرائه العقلانية ومواقفه الصريحة والنقدية لأفكارهم ومواقفهم، حيث اعتمد غالبيتهم على المديح والإطراء من قبل بعض السياسيين والدهماء.

الواقعية والمنهجية النقدية

كان الالتهاء بالنتائج، أي نتائج الأحداث التي تجري على الساحة السياسية العربية، ونسيان الأسباب هي السمة البارزة التي كان ينتقدها د.فؤاد في اتخاذ المواقف من الأحداث، والتي توقع الكثير في مواقف خاطئة يكون ثمنها باهظا في الكثير من الأحيان.

فعلى سبيل المثال، نجد موقف القوى السياسية المختلفة وبعض الجماهير في الدول العربية، من غزو نظام صدام للكويت، حيث تعامل هؤلاء مع ما نتج عن اجتياح دولة عربية كاملة واحتلالها وهو وجود قوات التحالف الدولية التي جاءت بقرار من الشرعية الدولية، ووقفوا ضدها وصوروها بكل الصور الشنيعة، على الرغم من مشاركة قوات عربية فيها، وتناسوا السبب الذي جاء بها وهو احتلال الكويت. وإذا كان هؤلاء حريصين على مصالح الأمة العربية فمن الأجدى الوقوف ضد الغزو والدعوة للانسحاب من الكويت بدلا من الدفع في تأزيم الأمور.

لم تحظ أفكار د.فؤاد في حياته باهتمامات واسعة في الوطن العربي لأسباب عديدة، وقد تخلق وفاته بداية اهتمام جدي لأفكاره تدفع بها طبيعة المرحلة الجديدة، فهو من النماذج الفكرية التي لم تعرف الناس قيمة أفكارها إلا بعد رحيلها عن العالم، فقد كان يكتب للمستقبل في واقع يريد العودة للماضي وبأي شكل كان، وأعطى رؤية متقدمة للواقع ومشكلاته وكيفية الخروج منه في ظل بيئة ثقافية أعمتها الأيديولوجيا ومظاهر التعصب وضلت طريقها للخلاص من أزماتها، وإذا كان هناك بداية للتقدم أو التطور في الساحة الثقافية والفكرية فلن تستطيع الدخول إليها إلا من خلال بوابة الفيلسوف فؤاد زكريا.

عبدالله الجسمي مجلة العربي يوليو 2010

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016