صفحات مجهولة
من يبحث عن إسهام المرأة في الدعوة إلى اللغة العربية، والاستقلال، والتضامن القومي، يقف على صفحات مشرفة لها، مازالت مجهولة، وهي جديرة بالوقوف عندها وتوضيحها استناداً إلى وقائع ووثائق ذكرها المؤرخون. ينبغي أن نؤكد أن المرأة السورية في أوائل القرن العشرين، كانت محجبة، وقلما كانت متعلمة، ومع ذلك شاركت بني قومها بتدعيم أسس النهضة الأدبية والاجتماعية، وبالدفاع عن عروبتها، وبمناهضة مختلف أنواع الظلم والاستغلال التي أحاقت بسوريا في أواخر العهد العثماني، ولاسيما في حقبة طغيان ذلك العهد أيام ولاية جمال باشا الملقب بـ "السفاح" عليها.
كان أول صوت نسائي ارتفع لدعوة المجتمع إلى النهوض، وحث المرأة على الأخذ بالعلم والوعي لرسالتها القومية هو صوت الكاتبة ماريانا مراشي في أواخر القرن التاسع عشر. وقبل أن أخوض في موضوع إسهام المرأة في النضال الوطني، في الربع الأول من القرن العشرين خاصة، الذي يدل على حميتها الوطنية وإدراكها لدورها ورسالتها لابد لي من ذكر فضل الأديبة الشاعرة ماري عجمي، أول امرأة صحفية سورية، فمن ترى هي ماري عجمي? إنها أديبة رائدة، ومناضلة محترمة، ولدت بدمشق سنة 1888، وتعلمت في المدرسة الروسية أولاً، ومن ثم في المدرسة الإيرلندية وعملت بعد ذلك فيهما. أتقنت ماري عجمي اللغة العربية إذ عكفت على قراءة القرآن الكريم، ودراسة كتب التراث الأدبي ودواوين شعراء العربية المبدعين، وأنشدت الشعر الرصين منذ مطلع شبابها بلغة متينة، وأسلوب مشرق عذب، استجابة لموهبتها الشعرية، ولمشاعرها القومية والإنسانية ثم أنشأت أول مجلة نسوية في سنة 1910 تحت عنوان: "العروس" بعد أن راسلت صحيفة "المقتبس" بدمشق، وصحيفة "المهذب" بزحلة، فأقبل القراء على مجلتها آنذاك إذ وجدوا فيها مقالات وأبحاثاً قيمة تعالج المشكلات الاجتماعية والتربوية، وتدعو إلى الأخذ بالعلم والوعي القومي للنساء والرجال معاً، وتطالبهم بالذود عن الوطن والتمسك باللغة العربية. ظلت مجلة العروس تصدر مدة أربع سنوات ثم توقفت عن الصدور في سنة 1914 بسبب أزمة الورق عند اندلاع الحرب العالمية العظمى. عندئذ انصرفت إلى التعليم، وخطبها الشاب المناضل المثقف: "بترو باولي" الذي اعتقله جمال باشا في بلدة "عالية" سنة 1915 مع مجموعة من خيرة الشباب العرب المجاهدين الداعين للحرية والاستقلال، ولقد شنقه السفاح وعلق مشانق تلك المجموعة الأولى من غير أن يحاكمهم. ثارت ماري عجمي منذ أن تم اعتقاله، وواجهت جمال باشا وناشدته الإفراج عنهم غير أن محاولتها الجريئة تلك باءت بالفشل، فكانوا أول قافلة من الشهداء الأبرار في عهده. أما قافلة الشهداء الثانية فلقد ذهبت ضحية طغيانه الأثيم، وخسرت بلادنا نخبة من رجالنا المناوئين للظلم، والداعين للحرية والاستقلال. حزنت ماري عجمي على خطيبها وزملائه المناضلين البررة حزناً كبيراً عبرت عنه بمنشورات وزعتها بالخفاء عن أعين الجواسيس، ودعت فيها أبناء قومها إلى اليقظة من سباتهم العميق وإلى الأخذ بثأر الشهداء.
وعندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها في سنة 1918 استأنفت إصدار مجلتها "العروس" التي استقطبت خيرة أقلام كتاب عصرها، وعبرت عن ابتهاجها بانهزام الدولة العثمانية، وخروج آخر جندي تركي من بلادنا، بفضل الأحداث العالمية، والثورة العربية الكبرى ولم تتوقف مجلتها عن الصدور حتى سنة 1925 بسبب اندلاع الثورة السورية. لقد عاصرت ماري عجمي الأحداث المؤلمة التي شهدتها بلادنا فانفجر قلمها باكياً مثل قلبها في خلالها، وكرست حياتها للتدريس، كما أسهمت في تأسيس النادي النسائي الأدبي بدمشق في سنة 1922. ويوم أقام ذلك النادي احتفالاً كبيراً في 10/10/1922 بمناسبة زيارة الأديبة مي زيادة لدمشق، حضره وخطب فيه لفيف من صفوة الرجال والنساء أمثال الأديبة السيدة روز عطا الله شحفة رئيسة النادي، والأديبة الآنسة ماري عجمي، والسادة: الدكتور مرشد خاطر، والدكتور توفيق قندلفت، وفائز الخوري، وفارس الخوري وأنطون الأشقر، والشاعرين خليل مردم بك وشفيق معلوف الذي استهل قصيدته بهذا البيت المشهور:
بنت الجبال، ربيبة الهرم هيهات يجهل اسمها حي
بانتهاء الاحتفال وقفت مي وألقت كلمة بليغة في وصف دمشق، كما شكرت فيها المحتفين من غير أن تذكر شيئاً عن خطاب الأديبة ماري عجمي الترحيبي بها، مما دعا الزعيم الوطني فارس الخوري إلى ارتجال هذين البيتين من الشعر عقب مغادرة مي "قصر البللور" الذي جرى فيه الاحتفال:
يا أهـيل العبقريـة سجلوا هذي الشهادة
إن ماري العجمية هي مي وزيادة!
ومع ذلك صدرت مجلة العروس في 11/10/1922 وكرست عدداً كبيراً من صفحاتها لوصف الاحتفال، ونشر الخطب والقصائد التي ألقيت فيه، والإطناب بمزايا المحتفى بها مي وكتبت ماري عجمي تقول: لقد قمت بزيارتها في فندق فيكتوريا إثر وصولي إلى دمشق بصحبة الآنسة المثقفة أليس قندلفت، وصرفنا ما ينوف على الساعتين في محادثة مي، ثم ودعناها وفي النفس نزوع إلى البقاء معها.
إن لماري عجمي ديوان شعر واحدا جميلا، ومن أجمل قصائدها أنقل الأبيات المؤثرة التي كتبتها في إبان مرضها الأخير حيث ظلت قابعة في بيتها، وحيدة، لاشيء يسليها سوى جهاز الراديو:
أنام والأنغام في مسمعي
تدوي وحر الشوق في أضلعي
تردد الأصداء مخضوبة
بما نزل في كبد موجعِ
ياصلتي بالكون في وحدتي
إذا دجى ليل النوى الأروعِ
مدي بهذا الصوت يا طالما
حملت إلى الملأ الأرفعِ
أكل ما يبقيه دهر لنا
سلك من الفولاذ في المخدعِ?
ولقد توفيت في عزلتها الموحشة في 25/12/1965، تغمدها الله بواسع رحمته، وأثابها عني وعن زميلاتي في معهد راهبات الفرنسيسكان بدمشق، اللواتي انتفعن بدروسها القيمة في منتصف الثلاثينيات، كل أجر وكل خير
نور الفيحاء
إذا انتقلنا إلى العهد الفيصلي في سوريا نجد أنه كانت للنساء فيه مشاركة في الاحتفال الكبير الذي أقامته دمشق في 4/10/1918، وذلك إثر خروج الأتراك من بلادنا. لقد ازدانت المدينة يومئذ بمتاجرها ودوائر الحكومة فيها وحاراتها بالعلم العربي ذي الألوان الأربعة: الأبيض والأسود والأخضر والأحمر، تلك الألوان المستوحاة من البيتين التاليين لصفي الدين الحلي:
إنا لقوم أبت أخلاقنا شرفاً
أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا
بيض صنائعنا، سود وقائعنا،
خضر مرابعنا، حمر مواضينا
لقد سمعت من جدتي لأمي، رحمها الله، حفيدة الشيخ بكري العطار العالم. التي شهدت ذلك اليوم التاريخي، أن سكان دمشق خرجوا من بيوتهم نساءً ورجالاً للتعبير عن ابتهاجهم بالحرية والاستقلال، وترحيبهم بمقدم الأمير فيصل مع جيشه إليها. قالت لي إن النساء المحجبات والقرويات اللواتي قدمن من ضواحي المدينة وكن سافرات الوجوه تجمعن في الشوارع الرئيسية، في ساحة الشهداء وكن يهتفن بالحرية والوحدة العربية، وبحياة قائد الثورة العربية الكبرى وأبنائه الميامين، صحيح أنهن لم يكن متعلمات كثيراً غير أن وعيهن القومي هو ما دفعهن للإعراب عن ابتهاجهن في ذلك اليوم الأغر. ولكن الآمال التي عقدها الشعب العربي بالحرية والاستقلال قد تبخرت بسرعة لأن الحلفاء الذين وعدوا الشريف حسين قائد تلك الثورة الكبرى ضد الحكم العثماني قد نكلوا بوعودهم، فتآمروا على بلادنا وقسموها ووضعوا سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، والعراق وشرقي الأردن وفلسطين تحت الانتداب الإنجليزي، كما هو معروف.
لقد استمر العهد الفيصلي في سوريا سنتين وتسعة أشهر في أجواء متوترة عربياً، وجرت أحداث خطيرة في المنطقة فسافر الأمير فيصل في خلالها إلى أوربا، عدة مرات يطالب الحلفاء في مؤتمر الصلح بإنجاز وعودهم لأبيه دون جدوى، فانعقد في دمشق المؤتمر السوري وبايع الأمير فيصل ملكاً على سوريا في الثامن من شهر مارس سنة 1920، ولكن ملكه لم يعش أكثر من بضعة أشهر إذ انتهى في معركة ميسلون في 24/7/1920 التي نجم عنها زحف الجيش الفرنسي على دمشق، ومقتل الشهيد البطل يوسف العظمة وعدد كبير من الجنود والمتطوعين، وعدد أكبر من الجرحى. إن ما أود ذكره وتسجيله بالوفاء والإعجاب في خلال العهد الفيصلي هو موقف الآنسة المناضلة نازك العابد وزميلاتها الدمشقيات من تلك الأحداث. لقد أسست الآنسة نازك العابد جمعية نسوية سنة 1919 تحت اسم: "نور الفيحاء"، كان هدفها لم شمل أخواتها الناهضات، ثم تطوعت معهن لإسعاف الجرحى عقب معركة ميسلون، وأسست مدرسة لبنات الشهداء تحت هذا الاسم بالذات، وقدمت مع زميلاتها خدمات إنسانية وتربوية واجتماعية جلىّ. من مدرسة "نور الفيحاء" انبثقت مجلة نسوية وجمعية للتمريض تحت اسم: "الهلال الأحمر"، شاركت فيها بنات دمشق المندفعات بحسهن الوطني وغيرتهن القومية لإغاثة المنكوبين، وتعهد بنات الشهداء بالرعاية والتعليم مجاناً. إن هزيمة الجيش السوري في ميسلون لم تطفىء جذوة الكرامة والوطنية في الشعب السوري ـ الذي لم يعترف بالانتداب الذي فرض عليه مطلقاً ـ رجالاً ونساءً، على حد سواء، بل على العكس تماماً، فقد زادت تلك الجذوة اشتعالاً وانتشاراً، كما أن مايثبت أهمية ماسبق ذكره عن دور المرأة السورية في النضال هو منشور تاريخي وثائقي وزعته جمعية "نور الفيحاء" على نطاق واسع في دمشق يدل على مناهضتها، وأعضاء جمعيتها، لمؤامرة الحلفاء قبيل معركة ميسلون هذا نصه، ولقد عثرت عليه بين أوراق أبي لطفي الحفار ومذكراته:
"يا رجال الوطن..
النساء تدعوكم يا حماة الوطن وأركان الشرف إلى التقدم إلى الأمام لتذودوا عن بيوت تأمن فيها بناتكم، ويرتكز فيها عزكم وشرفكم.
إلى التقدم، إلى الأمام، حيث العدو يريد طعنكم في مقتلكم، والقضاء على آخر أمل لكم في الحياة. لسنا نساءكم إذا لم تفدوا هذا الوطن المقدس بدمائكم كما فداه آباؤكم وأجدادكم، فالأمة كلها من ورائكم تمدكم بالمستطاع، وهذا ملككم الذي بقي السنين في حومة الوغى لإنقاذكم من أيدي الترك، يسير إلى الأمام لإنقاذكم من أيدي الفرنسيين الذين غدروا به وبحكومته وبكم، وبشرف الإنسانية جمعاء. وإن ما لاقاه ملك سوريا المعظم من عزم الأمة السورية الأكيد في دفاعها عن شرفها أيد ما يعتقده فيكم، فلا تخيبوا حسن ظنه، بل أيدوه وحافظوا على النظام ليقال عنكم إنكم أمة تستحق الإعجاب والاحترام.
وأنتم، يانساء الوطن، تدعوكم جمعية الهلال الأحمر النسائية للحضور إلى مدرسة بنات الشهداء لأمور وطنية مهمة.
التواقيع: رئيسة جمعية الهلال الأحمر النسائية: نازك العابد. الرئىسة الثانية: سعاد مردم بك. أمينة الصندوق: فطمة مردم بك، الكاتبة: إسعاف النابلسي، والأعضاء: رفيعة العابد، أديبة مردم بك، ليلا ترزي، شفيقة تحسين قدري، سلوى غزي، عقيلة علاء الدين الدروبي، عقيلة عبد اللطيف العسلي، عقيلة أمين الترزي، مزلان مردم بك، عقيلة الشريف جميل، عقيلة يوسف العظمة، منيرة البنا، عقيلة محمد علي التميمي، عقيلة جعفر باشا، وعقيلة فارس الخوري".
سبعون دمشقية
بعدما وقع الانتداب على سوريا عنوة بدأت حركات المناهضة له الرسمية والشعبية، ويوم اعتقلت السلطة الفرنسية عدداً من الرجال الوطنيين في شهر أبريل سنة 1922 لم تتوان نساء دمشق عن الاحتجاج على الظلم بالتظاهر، بل تجمعن وتنادين للخروج في أول مظاهرة نسوية منظمة، فلقد جاء في مذكرات المناضل حسن الحكيم عنها مايلي:
"كانت دمشق في هيجان عظيم تغلي كالمرجل، وكانت أخبارها تأتينا إلى السجن برغم ضرب الفرنسيين نطاقاً حاجزاً حولنا ولكن لم يظهر أثر ملموس لهذا الغليان إلا يوم الاثنين في العاشر من شهر أغسطس إذ جرى أعظم حدث اجتماعي في تاريخ دمشق، عاصمة العرب، وهذا الحدث هو أن سبعين آنسة وعقيلة من أشرف سيدات البلاد اجتمعن عصر ذلك اليوم في منزل عقيلة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر وخرجن بمظاهرة برغم أنف الشرطيين ومأموري التحري، ورحن يهتفن للحرية والاستقلال، ويحيين رجال الوطن ويلوحن بمناديلهن البيضاء. سارت تلك المظاهرة النسائية إلى القنصلية الأمريكية حيث احتججن على العمل الشائن الذي ارتكبه المستعمرون، ولكنهن لم يجتمعن بالقنصل فذهبن تواً إلى القنصلية الإيطالية وهتفن للاستقلال، واحتججن، ومنها إلى القنصلية البريطانية في حي "المناخ" وكن أثناء الطريق محاطات برجال الشرطة من كل جانب خشية إضرام نار الثورة في الرجال، وبما أن القنصل البريطاني لم يكن في داره سرن في طريق القلعة الذي يؤدي إلى سوق الحميدية، وهنا حالت السلطة دون مرورهن وأجبرتهن على الرجوع بالطريق الذي أتين منه. وعندما وصلن إلى المستشفى العسكري بأول طريق الصالحية قام رجال الشرطة بتفريقهن بالقوة. وهكذا انتهت هذه المظاهرة الفذة كما ابتدأت تنشر المناديل البيضاء في الهواء وتهتف للاستقلال والشباب الناهض. وما إن وصلت أخبار السيدات وما قمن به حتى دب الحماس في جميع الطبقات التي راحت تظهر عواطفها نحو الموقوفين، واحتجاجها على المستعمرين بإغلاق الحوانيت بحيث أصبحت المدينة مضربة إضرابا عاماً بأقل من لمح البصر".هنالك تمجيد آخر لدور المرأة السورية في النضال الوطني حدثنا عنه الزعيم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في فصل من مذكراته عنوانه "اجتماع كراين بنساء الشهداء" وذلك يوم قدم المستر كراين إلى دمشق مرة ثانية في سنة 1922 موفداً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لمقابلة السياسيين ورجال الدين ورجال الأحياء بغية الوقوف على أوضاع سوريا، وبحث القضية العربية معهم، بوصفه رئيساً للجنة التي سبق أن زارت سوريا في سنة 1919 لإجراء استفتاء فيها. ولقد كلف الدكتور الشهبندر من قبل إخوانه الوطنيين لاستقبال المستر كراين فوصف لنا مادار في اليوم الأول من تلك الزيارة قائلاً:
"خرجنا من حي "الميدان" إلى حي "المهاجرين" حيث خرجت نساء الشهداء للاجتماع بالمستر كراين في بيت الشهيد المرحوم شكري العسلي فاجتمع بهن، وطيب خاطرهن، وسمع منهن تلك الرغائب الوطنية والآمال القومية التي بذل الشهداء أنفسهم على أعواد المشانق في سبيلها، فكان اجتماعاً مهماً تجلت فيه تلك النهضة المباركة في نسائنا. لقد تقدمت زوجة المرحوم رشدي بك الشمعة، شهيد القضية العربية، إلى الزائر الكريم بوجه وشفتين مرتجفتين من فرط التأثر وهي تقول: لم يمت رشدي بك إلا لأجل سلامة الوطن، وإن هذه المحن التي تئن منها بلادنا توجعه في جدثه، فإن لم تترفقوا بالأحياء، ياسيدي، ترفقوا ـ بالله ـ بالأموات ولا توجعوهم في مضاجعهم" تأثر المستر كراين من هذه الجمل جداً، وزاد في تأثره السكوت العميق الذي أعقب ذلك بحيث كان يقرأ على الوجوه الصامتة ماتعانيه الأنفس من الآلام. ومن قرأ أخبار الاستفتاء عام 1919، يوم سمع "كراين" نفسه ما جاءت به عواطف الأمة السورية يذكر، ولاشك، تلك الجلسة الرنانة التي عقدتها زوجات الشهداء يومئذ، وكان لعقيلتي الشرف أن تكون بينهن، فأبدين من الوطنية الصادقة ما يبقى مسجلاً بتاريخ سوريا بمداد الفخر. قالت له إحداهن يومئذ: لاتحرمونا من صوت الحرية وتلقونا في مهاوي الاستعباد، إن حياتنا تكون عبئاً ثقيلاً إذا كان رجالنا أرقاء لأن زوجة الرق لايحق لها أن تكون سيدة في بيتها".في نهاية هذا الفصل من مذكرات الدكتور الشهبندر أشار إلى أنه زار معه مصطفى باشا العابد، والد الرائدة الآنسة نازك العابد وسألها عما حل بمدرستها "نورالفيحاء". وأضاف الدكتور الشهبندر يقول إن المستر كراين اقترح أن توفد إلى أمريكا آنستان سوريتان للتعلم على حسابه، فتم انتقاء الآنستين نازك العابد وأليس قندلفت ولكن مصطفى باشا العابد لم يسمح لابنته بالسفر وحدها إلى أمريكا حفاظاً على التقاليد السائدة، فسافرت الآنسة قندلفت وحدها.
وسام المجلس العربي
انتقل الآن إلى مشاركة المرأة في الثورة السورية ضد الفرنسيين التي اندلعت في كل مكان سنة 1925، وأترك الحديث للمؤرخ الكاتب الكبير الأستاذ ظافر القاسمي للاطلاع على تلك المشاركة من كتابه القيم: "وثائق جديدة عن الثورة السورية الكبرى 1925 ـ 1927"، فلولا اطلاعنا، بفضل هذا الكتاب، على الأحكام التي أصدرها المجلس العدلي بدمشق آنذاك، والوثائق التي نشرها فيها لما استطعنا أن نأتي بالدليل على مشاركة المرأة الفعالة في تلك الثورة المشرفة. لقد استهل الأستاذ القاسمي فصلاً من كتابه المشار إليه بعنوان: المرأة في المجلس العدلي بما يلي:
"أول ما أحب أن أبدأ به من هذه الأحكام على الثوار هو الحكم بالبراءة الذي صدر بحق السيدة عزيزة بنت محمد حسن حصرية، فلقد اتهمت هذه السيدة بالتجسس لحساب الثوار، وسيقت أمام المجلس العدلي لتحاكم، فلم يقتنع القضاة بأنها ارتكبت الجرم الذي أسند إليها لنقص الأدلة، فقضوا ببراءتها في شهر أبريل سنة 1926. إن اشتراك المرأة السورية في الثورة أمر معروف، لايحتاج إلى برهان، فلقد جاهدت بنفسها، وحملت السلاح، وحاربت مع الرجل جنباً إلى جنب، ولم ينس الناس المجاهدة رشيدة الزيبق، حرم المجاهد حسن الزيبق، التي صودرت بندقيتها بعدما كانت في جوار زوجها إبان معارك "الغوطة". كما أن النساء السوريات نقلن الرسائل للثوار، وطبخن الأطعمة لهم، وأوصلن السلاح تحت ملاءاتهن، مع أنهن كن في ذلك العهد قليلات الحظ من التعليم بشكل عام. وبالرغم من ذلك لم تحل الحواجز دون مشاركة المرأة في الواجب القومي فنهضت، وتركت بيتها وأولادها برعاية أهلها لكي تتطوع في سبيل الوطن، وإن هذا الوسام الذي قلدها إياه المجلس العدلي هو من دواعي فخرها، وأسباب زهوها".
إن صورة المجاهدة رشيدة الزيبق بلباس النضال المسلح منشورة في الصحفة 57 من كتاب الدكتور عبدالرحمن الشهبندر عن "الثورة السورية الوطنية"، ومنشورة كذلك في الصفحة 457 من الجزء الثالث من كتاب "الثورة العربية الكبرى" للمؤرخ الأستاذ أمين سعيد.بعد انتهاء الثورة السورية في إبان عهد الانتداب الفرنسي على سوريا أخذت المرأة فيها نصيباً كبيراً من العلم في مختلف المدارس والمعاهد، وحتى في كليتي الطب والحقوق في جامعة دمشق، ونزلت إلى الخدمة العامة عن طريق تأسيس الجمعيات الخيرية لمساعدة الفقراء، والعناية بالأطفال، وتعهد الأيتام، إلى جانب نجاحها في المسابقات التي جرت لدخول سلك التعليم العالي، وإدارات الدولة، وحتى وزارة الخارجية وسلك القضاء. ترى ألا تشتعل جذوة النخوة القومية والنضال الوطني إلا لدى اشتداد الملمات؟