مختارات من:

ابن رشد

أنطوان سيف

رائداً للاتجاه العقلي


بعد ثلاثة أشهر من دفن ابن رشد في مراكش. نُقلت رفاته إلى مقبرة أجداده في قرطبة. وشهد الشيخ الصوفي محيي الدين بن عربي الحدث، وكان في الثالثة والثلاثين من عمره، فقال: ".. ولمَّا جُعل التابوت الذي فيه جسده على الدابَّة، جُعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر".

ولكن المشهد كان بالفعل أكثر مأساوية. لم يكن جنازة منعزلة لفيلسوف كهل وفرد، لقد كان على الحقيقة موكب الفلسفة العقلانية العربية المهزومة في ديارها وعلى يد بعض أهلها، بعدما ظلت تقدم إنجازات فكرية وعلمية جعلت بها الثقافة العربية منارة الثقافة العالمية ومركزها بلا منازع على مدى قرون. فالجثمان المتوجه غرباً الى البر الأوربي، العربي آنذاك، حمل معه معادله الوحيد "الكتاب" الذي يليق به، والذي سيبقي ذكرى صاحبه عصية أبداً" على الإمّحاء من تاريخ الحضارة. إلا أنه معادل ناقص أقصي عنه ما اختص بالفلسفة العامة، وأُبقي على كتب الطب والحساب التي يفيد منها عملياً الجهلة والعلماء على حد سواء!.

هذا "الموت" الذي أصاب الفلسفة العربية وحرية الفكر والنظر العقلي لقرون كانت له إرهاصات يشتد حبلها على الأعناق في فترات الهزائم العسكرية والضعف السياسي، ويرتخي ويغيب في فترات القوة والسيادة والثقة بالذات. قبل وفاته بسنوات ثلاث ـ وكان في السبعين من عمره ـ اتهم ابن رشد بالكفر والزندقة. فحوكم علناً أمام السلطان الموحدي يعقوب المنصور في جامع قرطبة الأعظم التي شغل فيها منصب قاضي القضاة لسنوات، وهو المنصب الذي شغله أيضاً جده الذي كان من كبار فقهاء المذهب المالكي، كما كان أبوه قاضياً أيضاً، فلعنه الحاضرون وأخرج مهاناً. وجُمعت كتبه في الفلسفة وأُحرقت. وحُرِّم اقتناؤها ومطالعتها، هي وأمثالها، تحت طائلة العقاب الصارم. ونفي إلى بلدة "أليسانة" في الأندلس لا يسمح له بأن يبرحها، وكانت آهلة بالمنفيين اليهود وغيرهم.

أسباب محنة ابن رشد لم تكن شخصية فحسب، إذ شملت غيره أيضاً من الذين اشتغلوا بالحكمة وعلوم الأوائل. وقد اقتضاها ابتغاء السلطان تملق الفقهاء المتزمتين والعامة في زمن اشتداد الصراع والحروب مع أمراء إسبانيا.

انتهت هذه المحنة بعد نيف وسنتين. فرضي عنه السلطان واستدعاه مع غيره من المبعدين إلى عاصمته "مراكش"، وقربه. إلا أنه توفي بعد ذاك بفترة وجيزة، وكذلك السلطان أيضاً. وكان الفارق بين الوفاتين شهورا قليلة. ولكن العفو لم يزل أسباب المحنة، ولا عدَّل آثارها السلبية على مجمل الحياة العربية حتى أيامنا. لقد كان ابن رشد آخر أعلام الفلسفة العربية العقلانية النقدية الكبار. وقد نُكب بسبب موقعه هذا. وأن تزامن هذه المحنة مع بدايات ما اصطلح على تسميته بـ "عصور الانحطاط" التي لم تضع حداً حاسماً لها "النهضات" العربية الحديثة، عزَّز الاقتناع بالترابط السببي ما بين ضرب التيار العقلاني النقدي، الذي مثله ابن رشد خير تمثيل، والتقهقر الحضاري والسياسي اللاحق له، هذا الترابط الذي يزيده توكيداً تقدم الغرب المطرَّد منذ ذاك الوقت الذي تلقف فيه أفكار ابن رشد ونظرياته وشروحاته، بعد أن وُضعت تحت الحظر في موطنها الأصلي.

هذه "اللحظة الرشدية" التاريخية المنيرة والمتألقة هي التي يتمثلها الوعي العربي المعاصر، ويتحسَّر على افتقاده لها، ويعمل على استعادتها.

لقد اتخذ ابن رشد هذه الصورة الرمزية الاستقطابية "المنقذة" التي تجسَّدت بمسلكيات ومواقف ثقافية لا تخلو من العزم والتصميم والجدية. ولعل أبرز هذه المواقف هو المجلَّد الضخم "466 صفحة" الذي أصدرته "لجنة الفلسفة والاجتماع" التابعة "للمجلس الأعلى للثقافة" في مصر: بعنوان: "الفيلسوف ابن رشد: مفكراً عربياً ورائداً للاتجاه العقلي"، وفيه "بحوث ودراسات عن حياته وأفكاره ونظرياته الفلسفية"، شاركت فيه مجموعة من ثمانية عشر باحثاً واختصاصياً في الفلسفة العربية من المحاضرين في الجامعات المصرية ذوي اتجاهات فكرية ومنهجيات مختلفة.

وأشرف على إصدار هذا المجلد، الذي دام الأعداد له أكثر من خمس سنوات، الباحث المعروف وأستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة الدكتور عاطف العراقي، وهو من أبرز المختصين في فلسفة ابن رشد، وصاحب كتاب: "النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد" الذي وضعه منذ ربع قرن، وقدم له الباحث المرحوم الدكتور أحمد فؤاد الأهواني رئىس قسم الفلسفة آنذاك بكلية الآداب في جامعة القاهرة.

أيديولوجيات العنف

هذا المجهود لاستحضار الغائب الكبير "ابن رشد" لا يداور لحجب غايته: الوقوف بوجه حركات التطرف الديني المنتشرة في بعض دول العالم العربي اليوم وغيرها، التي تتوسل العنف المسلح كطريق أوحد للعمل السياسي وللتعبير عن مواقفها، وترفض الحوار العقلاني الحر والاعتراف بالآخر والحق في الاختلاف. وأن الخوف الواسع من هذه التوجهات وأمثالها، ينبع من كون ذاكرة الناس تعج بالعديد من الأمثلة التاريخية الحية المرعبة. فإن هذا النهج العنفي الذي تطبقه هذه الحركات والأحزاب، على اختلاف شعاراتها البراقة المعلنة، يبقى لاحقاً ودائماً نهجها الوحيد المفضل إذا ما تسنى لها الوصول إلى هذه السلطة!.

وتبدو هذه الحقائق، لا بل هذه المخاوف، في خلفية قرار المثقفين العرب، الملتزمين بتقدم أمتهم بخطى واثقة منفتحة من غير عقدة خوف على العالم، ومواجهة "أيديولوجيات العنف" بقوة من غير عنف وبشجاعة أخلاقية لافتة، وبالعمل الحثيث، في الوقت ذاته، على تغيير الشروط الموضوعية الملائمة لنشأتها واستفحالها.

تلك هي دلالة "استعادة" ابن رشد بعد غربة قسرية استمرت ثمانية قرون، واستمر بسببها الغياب العربي عن الصفوف الأولى لمسيرة الحضارة الإنسانية. ويختصرها المشرف على العمل بقوله:

"نحن العرب في أمس الحاجة إلى الاستفادة من فلسفة ابن رشد عميد الفكر العقلاني، إذا أردنا لأنفسنا طريق التقدم، طريق الزعامة الفكرية.. وسنجد في دروس ابن رشد أسس التنوير ومحور الصحوة الكبرى" "ص165".

هذا الرهان اللامحدود على عقلانية ابن رشد يفسر عمق القلق الذي يعتور الباحثين، ومن يمثلون في قطاعات شعبية واسعة، من مغبة التمادي بالانزلاق في مهاوي العنف اللاعقلاني، وإيمانهم بأن للعقلانيين تراثاً عريقاً في الثقافة العربية باعتراف عالمي، وكما تألقت مع أبن رشد بالذات. ويعتقد العديد من المؤرخين أن منهجيته العقلانية المميزة التي تعرّفها الغرب في القرون الوسطى عبر انتشار ترجمات مؤلفاته وشروحاته الفلسفية والعلمية إلى اللغة اللاتينية، وإلى اللغة العبرية أيضاً، كانت أحد أسس النهضة الأوربية الكبرى التي أعقبت "عصور الظلام"!.

ويعتبر د. عبدالفتاح أحمد فؤاد أن "الفلسفة الرشدية" مدخل إلى الثقافة الإسلامية"، ويقترح تدريسها للشباب كوقاية ضد التطرف الديني الذي يعتبره دعوة إلى الجهل، وإلا وجد طلابنا "ضالتهم المنشودة لدى تجار الشريعة وأدعياء الدين ودعاة الإرهاب". "ص116".

الخير والشر

وثمة، في المجلد، أبحاث جهد أصحابها لتفادي الانخراط في الإشكاليات السجالية المعروفة حول ابن رشد. فقاربت جوانب من فكره لم يسبق أن عولجت كمواضيع مستقلة، منها: "مشكلة الحرية في فلسفة ابن رشد" للدكتورة زينب عفيفي شاكر، أبرزت فيها نزعة ابن رشد إلى نظام الشورى ضد النظام الاستبدادي.. وتبقى الأشكالية المركزية في المجلد التي مثلت حلبة لمواقف متقابلة ومتنافرة بين الباحثين هي مسألة "أو فرضية!" "إزدواجية الحقيقة" عند ابن رشد، أي "التوفيق" بين الدين والفلسفة. فثمة من وقف من هذه المسألة الموقف التقليدي المعروف الذي يقبل تصريحات ابن رشد فيها "على ظاهرها" كمرجعية تأويلية نهائية!. فيقرر أن ثمة "توفيقاً" قائماً على إخضاع الشرع لأحكام العقل "القياس الأرسطي"، والمبالغة في هذا الإخضاع تأكيداً لفكرة مسبقة قال بها ابن رشد: "الحكمة حق، والشريعة حق، والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له". أو "أن الحكمة هي صاحبة الشريعة، والأخت الرضيعة.. وهما المصطحبتان بالجوهر والغريزة" "كتاب: فصل المقال...". ولكن، بالمقابل، ثمة أيضاً مقاربات جديدة لهذه المسألة، جديرة بالمناقشة: ففي بحث بعنوان: "هل أحكام الفلسفة برهانية"? يقدم د. أحمد محمود صبحي دراسة نقدية "في ضوء منطق أرسطو" وتقييميَّة "لموضوع التوفيق بين الفلسفة والشريعة عند ابن رشد". ويرى الباحث أن "براهين" أرسطو، التي استخدمها ابن رشد، غير قاطعة لأنها، برأيه، قائمة أساساً على النموذج الرياضي! لذا فإن "محاولة ابن رشد التوفيقية لم تحقق أغراضها.. لما فيها من استعلاء فكري أقامته لطبقة الفلاسفة "البرهانيين" على حساب الجدليين "رجال الدين" والخطابيين "عامة الناس". ويرد صبحي هذه المسألة إلى أن "فلاسفة الإسلام، ابتداء من الكندي وانتهاءً بابن رشد، اعتقدوا خطأً بوحدة الحقيقة الفلسفية، متجاهلين تباين مذاهبها"، لذا أخفقت كل محاولاتهم فيها: منها محاولة الفارابي الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو "ص69"، ومحاولة ابن رشد الجمع بين الحكمة والشريعة.

أما د. محمود حمدي زقزوق "أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين ـ جامعة الأزهر" فقدم بحثاً بعنوان "الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية لدى ابن رشد" بيَّن فيه أن فكرة "الحقيقة المزدوجة"، أي تعارض الحقيقتين الدينية والفلسفية، لم يقل بها ابن رشد البتة! ويرى أن هذا الخطأ يعود إلى أن العرب يخلطون بين ابن رشد و"الرشدية" اللاتينية. وأن خير من أنصف ابن رشد هما برأيه المستشرقان الفرنسي هنري كوربان، والألماني هيرشبرجر. ويخلص إلى أن "ابن رشد بريء من القول بالحقيقة المزدوجة، وبريء من دعوى الإلحاد، وبريء من دعوى رفع الفلسفة أعلى من منزلة الدين". "ص104".

وفي "قضية العلاقة بين الفلسفة والدين لدى ابن تومرت وابن رشد"، عالج د. حامد طاهر المسألة عينها معتمداً منهجية المقارنة. ورأى أن انتساب ابن رشد إلى دولة الموحدين "التي يعتبر ابن تومرت مؤسسها الروحي" لم يكن برأيه ولاءً فكرياً ومذهبياً تاماً، بدليل اختلاف ابن رشد عن ابن تومرت حول علاقة الفلسفة بالشريعة.

ولكن الملاحظ أن الباحث يجهل أن لابن رشد كتاباً بعنوان: "شرح عقيدة الإمام المهدي" "ابن تومرت"، وهو مفقود مع الأسف، ومجهول تاريخ التأليف. هذه الواقعة مهمة جداً للنظر في هذه المسألة!.

إلا أن هذا "التفسير"، الذي جهد د. طاهر لصياغته، لا توافق عليه الدكتورة زينب محمود الخضيري التي ترى أن "الموحدين، في أواخر أيام دولتهم، صاروا يختلفون مذهبياً عن إمامهم ابن تومرت لدرجة تشككهم في صحة مذهبه، بل لدرجة العدول عنه رسمياً، وأن ابن رشد أدرك ذلك"! "ص155".

ويبدو أن د. الخضيري استوحت هذا الرأي من د. محمد زنيبر "من المغرب" الذي طرحه في "ندوة ابن رشد" التي عقدت في المغرب عام 1978.

أما إشكالية "ازدواج الحقيقة" عند ابن رشد، فطرحتها د. زينب في هذا المجلد تحت عنوان: "مشروع ابن رشد الإسلامي والغرب المسيحي" أعلنت فيه، بصراحة مدهشة، رجوعها عن موقف فكري سابق اشتهرت به ضمّنته أحد كتبها المنشور عام 1987، وعنوانه: "أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى". وترى الباحثة في موقفها الجديد أن المسألة التي واجهها ابن رشد هي مسألة سياسية في أساسها. وما جانبها الميتافيزيقي سوى "غلافها" الخارجي.

مستويات متفاوتة

طروحات ابن رشد لا تزال تثير الإعجاب والخلاف. وهذه إحدى نقاط قوتها. لذا، "فاستدعاؤه" اليوم إلى معركة معاصرة، وإعطاؤه فيها دور القائد والنموذج والمتراس والملجأ، لا يخلو من الالتباس! ففي هذا الطموح الاسترجاعي شيء من التعالي على قدر من العقبات.. والوقائع.

وأن ما يلفت في هذا المجلد التذكاري، لا كونه يحوي مواقف من ابن رشد متباينة، بل كون بحوثه ذات مستويات متفاوتة يصعب أن تشارك جميعها بالتكافؤ في إنجاحه. حتى أن الرهان على هذا المشروع "الرشدي" والحماس له ـ الذي هو المسوّغ الأصلي لإصدار المجلد ـ لا يتردد بوتيرة التزام واحدة عند كل الباحثين: فثمة منهم من يكتب وكأنه في مواقع "صقيعية" فائقة!.

إلا أن الغالب اليوم على المثقفين العرب عموماً إضمارهم الحاجة الماسة لما يمثله ابن رشد في تاريخهم الفكري العريق، إن لم يكن إلى فلسفته برمتها، فأقله، حتماً، إلى منهجيته العقلانية النقدية التي لا تعني إعمال العقل فحسب، بل تعني الثقة المطلقة بقدرته وحده على بلوغ الحقيقة في مختلف الميادين من غير استثناء، وبأن لا أداة معرفية موثوق بها سواه، وبأنه واحد عند سائر بني البشر على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم وأصقاعهم، به يحققون وحدتهم الإنسانية، وبه يتعاونون معاً لبناء الحضارة البشرية الواحدة وإغنائها مستعيناً المتأخر منهم بالمتقدم "أكان مشاركاً أم غير مشارك له بالملة".

أنطوان سيف مجلة العربي يوليو 1997

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016