مختارات من:

نُظم الأسواق في المدينة الإسلامية

عبد الحكيم الكعبي

تعد الأسواق واحدة من أبرز عطاءات الحضارة العربية الإسلامية الأكثر تميزا، وكانت تشكل جزءا حيويا مهما من المدينة الإسلامية، ومركز الفعالية الاقتصادية والاجتماعية فيها، وغالبا ما كانت تعتمد معيارا على حجم المدينة وأهميتها لما كان لها من أدوار سياسية وثقافية واجتماعية كبيرة، فضلا عن وظائفها التجارية المباشرة. فما هي طبيعة النظم والمعاملات الداخلية في تلك الأسواق؟ وكيف نمت وتطورت نظمها في ظل نمو وتطور الحضارة العربية؟

مارس العرب التجارة على نطاق واسع منذ أقدم العصور، حتى قيل إن كل عربي تاجر. وقد تعّود أهل مكة قبل الإسلام على القيام برحلتين تجاريتين سنوياً، الأولى في الصيف، وتتجه شمالاً إلى بلاد الشام؛ والأخرى شتاء، وتتجه جنوباً إلى بلاد اليمن. وقد حدثنا القرآن الكريم عن هاتين الرحلتين في سورة قريش.

وكان قصي بن كلاب زعيم قريش وأولاده من بعده قد نظّموا هذه الرحلات وضمنوا انسياب التجارة المكية بأمان من خلال الاتفاقات (الحبال: بحسب تعبير الطبري) التي عقدوها مع ملوك الدول المجاورة في العراق والشام واليمن والحبشة، فضلاً عن الاتفاقات مع رؤساء القبائل التي تقع أراضيها على طرق التجارة بتأمين الحماية والخدمات للقوافل التجارية التي تمر بها، ومجمل هذه الاتفاقات المُنظِّمة للنشاط التجاري اُصطلح على تسميتها بـمنظومة (الإيلاف)، الذي ورد ذكره في القرآن الكريم.

من جانب آخر عرفت شبه جزيرة العرب نشاطاً اقتصادياً من نوع آخر هو الأسواق الموسمية التي كانت تنتقل على مدار العام في أنحاء مختلفة من شبه الجزيرة العربية، ولم يقتصر دور هذه الأسواق على التبادل السلعي والنشاط الاقتصادي فقط، بل كان لها أدوار ثقافية واجتماعية، ومن أشهر هذه الأسواق، سوق عدن وسوق عكاظ وذي المجاز وغيرها. وكان من نتائج هذا النشاط التجاري الواسع، التحاق أعداد كبيرة جدا من العرب للعمل في ميدان التجارة، سواء أكانوا تجارا أو عاملين في مهن ذات صلة بالتجارة، كالباعة والسماسرة والأدلاء في القوافل والحراس، والحمّالين، وسائسي حيوانات النقل، وغيرهم من العاملين في مجال الخدمات والحرف والأعمال المختلفة.

التمدن والاستقرار

احتلت المدن الجديدة التي نشأت بعد ظهور الإسلام مكانة ريادية متميزة في حضارة ذلك العصر، حتى صارت من أهم مراكز القوة والفاعلية فيها، وقد لا نكون مغالين إذا قلنا: إن نشوء شبكة من المدن الجديدة في تلك الحقبة هو الذي منح العالم الإسلامي الجديد هيكله الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وأن التاريخ العربي الإسلامي خلال قرونه الثلاثة الأولى كان تاريخ مدن وأمصار كالبصرة والكوفة والفسطاط والقيروان ودمشق وبغداد، فبين سمرقند وقرطبة كانت الحضارة الإسلامية حضارة مدن متماسكة بشكل مدهش، مع حركة واسعة من انتقال الناس والبضائع والأفكار، حضارة توفيقية أو تركيبية فرضت نفسها فوق أرضية إقليمية ريفية أو بدوية.

إن الفتوحات العربية الإسلامية ـ التي تحقق أول إنجازاتها وأهمها على الإطلاق، في زمن الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد صاحبها، وكان من أولى ثمارها، إنشاء مدن جديدة، كانت في بادئ أمرها معسكرات بدائية ثم سرعان ما تحولت إلى حواضر مزدهرة، مثل البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان.

والحقيقة لا تتوافر في المصادر المتاحة تفصيلات دقيقة أو واضحة عن طبيعة المعاملات والنظم الداخلية لأسواق المدن الإسلامية الأولى، خاصة في المرحلة المبكرة من تأسيسها، كما أن اللافت للنظر أن التخطيط الأول لبعض تلك المدن لم يعر اهتماما لمكان السوق، كما كان عليه الحال في مخطط أول مدينة تؤسس خارج شبه جزيرة العرب بعد الإسلام، وهي البصرة - على سبيل المثال - ويبدو أن هذه المدينة ظلت من دون أسواق، محددة ومعلومة المكان مدة من الزمن، أو ربما اقتصرت أسواقها على سوق المربد المعروف الذي يقع في أطراف المدينة من جهة الغرب، وكانت تجرى فيه عمليات تبادل البضائع والسلع. ومعلوم أن هذا السوق كان قد ظهر بشكل عفوي في المدينة لأنه كان في الأصل سوقا للإبل.

وعندما بدأت تلك المدن تشهد تحولا على طريق الاستقرار الحضري، وأعيد النظر في خططها مجددا، وجدت الأسواق في مناطق معلومة من المدن, إلا أنها على ما يبدو كانت شبه عفوية، ويعمها نوع من الفوضى وعدم التنظيم.

تطور الأسواق

إن حالة الفوضى هذه وانعدام التنظيم ـ في أسواق المدن الإسلامية آنذاك ـ لم تدم طويلا فقد اتخذ أهل الأسواق حوانيت خاصة بهم، ثم أخذ أصحاب كل مهنة يتجمعون معا في محل واحد مكونين سوقا فرعيا صغيرا (متخصصا) داخل السوق الكبير.

ومن اللافت للنظر أن الحوانيت عندما ظهرت في تلك الأسواق لم تكن لها أبواب أو حواجز تحمي البضاعة، وكان صاحب الحانوت يكتفي بتغطية بضاعته بالحصر فقط، مما شجع، في فترات ضعف السلطة في المدن، على انتشار عمليات السطو واللصوصية. ويذكر أنه عندما أصبح زياد بن أبيه واليا على البصرة سنة 45هـ، أمر أصحاب الدكاكين في السوق بوضع ألواح خشبية أو حواجز من القصب على أبواب محلاتهم. أما استعمال الأقفال فقد ظهر في وقت لاحق، بعد أن تطورت فكرة صناعة تلك الأقفال وقامت محلات خاصة بصناعتها وبيعها في أسواق المدن العربية.

الباعة والتجار وأصنافهم

عندما ظهر الإسلام شجع التجارة، وزكّى الحرف. إلا أنه في القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)، باعتباره عصر فتوح وحروب، ومرحلة تأسيس وبناء لدولة جديدة، لم تكن النظرة واضحة خلاله إلى التجارة والتجار، فقد انصرف معظم العرب في هذا القرن إلى الانخراط في حركة الفتوح الإسلامية التي انساحت شرقا وغربا، مما أتاح الفرصة للعناصر غير العربية، ولأهل الذمة ممارسة التجارة، والعمل في الأسواق في كنف الدولة الإسلامية، على نطاق واسع. وعندما تربع الأمويون على سدة الخلافة الإسلامية (40 - 132 هـ /660 - 749 م) لم تكن نظرتهم إلى التاجر تتسم بعين التقدير، ولم نجد لطبقة التجار شأنا كبيرا في تاريخهم، وهكذا كانت عليه الحال في بداية قيام الدولة العباسية. ومع أن المؤرخين العرب لم يتركوا لنا تصورا واضحا عن أحوال العامة من التجار وأصحاب الحرف والمهن في الأسواق وظروف معيشتهم وأحوالهم الاقتصادية والاجتماعية، ذلك أن جل اهتمامهم كان قد انصب - كما هو معروف ـ على تدوين شئون دار الخلافة، وحوادث السياسة والحروب، وأسهبوا في ذكر ترف الخلفاء والوزراء وكبار رجال الدولة والحاشية، إلا أنه من الممكن، ومن خلال عدد من الروايات والنصوص المتوافرة في المصادر، رسم الخطوط العريضة لطبيعة تلك المهن التي مارسها العامة في الأسواق العراقية، وطبيعة نشاطهم وأجورهم وظروف معيشتهم.

وتجدر الإشارة إلى أن كلمة «تاجر» - في أول أمرها - كانت تدل على معنى محدود، وهو «بائع الخمر»، ثم اتسع مدلول هذه الكلمة شيئا فشيئا، فشمل كل من يزاول بيع وشراء أدوات الترف الغالية الثمن كالمجوهرات والرياش والثياب الفاخرة والرقيق، وكان اعتمادهم في رواج تلك السلع، بالدرجة الأولى على قصر الخلافة، وحاشية الخليفة وكبار رجال الدولة والأغنياء؛ وهم بذلك يخـــتلفون عن " الباعة " من حيث نوع البضاعة، ومن حيث نوعية الناس الذين يجري عليهم تصريف البضاعة، فالباعة يتعاملون ببيع وشراء السلع الاستهلاكية (الرخيصة الثمن) الضرورية لحياة الناس اليومية. من جانب آخر، تختلف فئة التجار عن فئة أخرى ذات صلة بالنشاط التجاري، وهم الدلاّلون أو «السماسرة» الذين يدلّون المشتري على السلع، ويدلّون البائع على الأثمان.

ويصنف التجار بحسب طبيعة تخصصهم، أو طريقة ممارستهم لهذه المهنة في السوق إلى ثلاثة أصناف هي :

- التاجر الخزان: وهو تاجر الجملة الذي يحاول استغلال الفرص الملائمة فيشتري البضائع وقت توافرها وكثرة عرضها ورخصها، ويعمد إلى خزنها انتظارا لتغير أحوال السوق فتنعدم هذه البضاعة أو تصبح نادرة بسبب انقطاع توريدها أو تأخرها لصعوبة نقلها من منشئها الأصلي، أو ترتفع أسعارها لشدة الطلب عليها في الأسواق، وعند ذلك يطرحها للبيع فتكون أرباحه كبيرة ومضمونة.

- التاجر الركاض: هذا الصنف من التجار ينتقل من بلد إلى آخر وهو في سفر دائم يتحمل المصاعب ومخاطر الطرق، وكان عليه أولا أن يعرف نوع التجارة التي يجب جلبها، وأن يحتاط فيما يشتري، وأن يصطحب معه دائما قائمة بأسعار البضائع التي ينوي شراءها ويقارن عند الشراء بين سعر السلعة وبين سعرها عنده في القائمة ثم يضيف إليها التكاليف التي ستترتب على البضاعة لحين وصولها إلى السوق، بما في ذلك المكوس وأجور النقل والمدة التي يقضيها في الطريق ليحسب أرباحه بدقة. وعلى التاجر الركاض إذا دخل بلدة لا يعرفها جيدا أن يفتش عن الوكيل المأمون وأن يتفهم أحوال السوق لئلا يورط نفسه، ويكون في ذلك قد أخذ بقول التجار «التبصر نصف عطية» أو «التدبير نصف التجارة».

- التاجر المجهز: وهو التاجر المستقر في بلده، ويعتمد في المتاجرة على وكلاء له في بلدان مختلفة ممن لهم الخبرة في ميدان التجارة ويتحلون بالصدق والأمانة، ولهم حصة متفق عليها من الأرباح. ويقوم هذا التاجر بإرسال البضائع إلى هؤلاء الوكلاء، فهم يقومون بما تقوم به فروع الشركات التجارية في الوقت الحاضر.

السوق في قصص ألف ليلة

زودتنا حكايات ألف ليلة وليلة بصور طريفة ومفيدة عن الحياة والنظم التي كانت عليها الأسواق التجارية في بعض المدن الإسلامية آنذاك. فتحدثت عن السوق أو الأسواق بشكل مطلق أحيانا وفي أحيان أخرى كان يذكر اسم السوق، فقد ذكـر اسم سوق العلافين في البصرة ورئيسـه الملقب بالشريف، وكذلك سوق الجواهـر ورئيسه المعروف بالمعلم عبيد، وقد أشارت هذه القصص إلى أسواق البصرة التي كانت تباع فيها الجواري بواسطة النخـاسين كما كان لمثل هؤلاء النخاسين بيوت خاصة يبيعون فيها العبيد ويذهب إليها من يريد الشراء. ويوجد في السوق أيضا موقف للعمال الذين يشتغلون بأجور يومية، وتوجد في الأسواق أفران الخبز ومحلات الزيت ودكاكين الشراب ومحلات القهوة، كما توجد محلات تبيع الأقمشة المستوردة بواسطة التجار، منها الهندية والرومية والخراسانية. وأشارت تلك القصص إلى محلات الخياطة التي كان بعضها كبيرا ويتكون من مجموعة غرف، وهناك الخياط الخاص لكبار القوم في المدينة، كما وجدت في هذه الأسواق محلات الحلاقة ومحلات صنع الحلوى, التي كثيرا ما كانت ترتبط بتدبير محاولات التآمر والاغتيال للشخصيات المهمة، وذكرت أيضا محلات صناعة النحاس ومحلات صياغة الذهب وكان أصحاب الحوانيت الكبيرة في السوق يعينون لهم كاتبا يضبط الحسابات ويدير الحانوت أثناء غياب صاحبه، ويتقاضى أجرا يوميا، حدد بدرهم واحد يوميا وأحيانا بدرهمين.

الرقابة على الأسواق

تتحدث كتب السيرة أن الرسول محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - كانوا يباشرون بأنفسهم مراقبة الأسواق في صدر الإسلام، فقد راقب الرسول الأسواق بنفسه، كما استعمل سعد بن العاص على سوق مكة، واستعمل عمر بن الخطاب على سوق المدينة، وذكر أن عمر إبان خلافته كان يطوف في الأسواق لمراقبة الأمور الجارية فيها، وكذلك فعل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه.

مع تطور الحياة الحضرية في المدن الإسلامية، أصبحت الأسواق على درجة عالية من التنظيم والفعالية، وأصبح السوق خاضعا لرقابة الدولة من خلال موظف يدعى العامل على السوق يعين من قبل الوالي ويتمتع ببعض السلطات القضائية والتنفيذية ويساعده في تنفيذ مهمته عدد من الأعوان. وكان عليه أن ينظر في مقاعد الأسواق فيـقـر منها مالا ضرر فيه على المارة وعلى نظام السوق، فضلا عن مهام تنظيمية أخرى، وقد تطورت وظيفة العامل على السوق بعدئذ إلى وظيفة «المحتسب» المعروفة في النظام القضائي للدولة العربية الإسلامية، والتي فرضتها جملة من الاعتبارات منها: الاقتصادية والاجتماعية والدينية والمالية ذات الصلة الوثيقة بحياة المجتمع. إن أول ذكر لوظيفة العامل على السوق أو المحتسب وردت في ولاية زياد بن أبيه على البصرة، فقد ذكر المدائني أن «الجعد النحري» كان محتسبا على سوق البصرة إبان ولاية زياد عليها، وأن لديه معاونين وأعوانا يساعدونه في مهمته هذه. وفي زمن «الحجاج» كان «جرير بن بهيس» مكلفا بهذا المنصب.

وعلى الرغم من أن قواعد الشرع واضحة ومعروفة لدى أغلبية المتعاملين بالأمور التجارية، وأن القرآن الكريم، أكد على ضرورة ضبط الموازين والمكاييل وعلى الأمانة والصدق في الكيل والوزن حفظا لمصالح المتعاملين مع السوق من عامة الناس، لكن حب المال وطبيعة النشاط التجاري لعبا دورا سلبيا في سلوك البعض من أهل السوق، الأمر الذي تطلب تنظيم الأمور الاقتصادية والمالية في الأسواق بأنظمة وقوانين ضابطة، وعدم ترك التعامل بها وفق هوى النفس ومصالح التجار وأهل السوق. فكان لابد أن تتدخل الدولة، ولما كان القرآن الكريم قد أكد على أهمية هذا الأمر، فقد انبرى الفقهاء لوضع أدق الشروط التي تفي بتلك المتطلبات.

كما أن وظيفة المحتسب لم تكن منصبا قضائيا بالمعنى الدقيق لنظر المظالم أو القضاء العادي وإنما هي منصب ديني خلقي أساسه «الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله» ولأجل أن تضمن الدولة هذا الغرض، كانت تعهد بهذه الوظيفة إلى أناس يمتلكون مواصفات خاصة: كالورع والتقوى، وعلى أن يكون رجلا، مسلما، بالغا قادرا، حرا، عدلا، ذا رأي وصراحة، لا يميل ولا يرتشي من شيمته الرفق ولين القول، وأن يكون على معرفة بوحدات الوزن والكيل والأذرع المستعملة في السوق.

وخلال العصر العباسي شددت الدولة رقابتها على الأسواق. وتبلور نظام الحسبة بشكل واضح منذ خلافة المهدي (158-169هـ /775 ـ 785 م )، بعد أن انتظمت أحوال المدن، وما ترتب على ذلك من توسع الأسواق وتخصصها، وازدهار التجارة. وصارت وظيفة المحتسب من وظائف الدولة الكبيرة يتقاضى من يتولاها مائتي دينار شهريا، ويشرف على جهاز كبير من العاملين بلغت نفقاته أربعمائة وثلاثين ألفا وأربعمائة وثلاثين دينارا وقد تجاوزت مهمات المحتسب المعنى الديني والخلقي إلى واجبات عملية مادية ترعى مصالح الناس في الأسواق بشكل خاص. وصار من مهام المحتسب تسعير بعض السلع والمواد الأساسية التي تشكل قوت الشعب، ومنع بيع القمح إلى تاجر له سوابق في الاحتكار لأن في ذلك ضررا بالناس، وكذلك إلزام الباعة أن يتخذوا الأرطال والأواقي من الحديد، وأن تختم بختم الدولة ويعاد فحصها بين حين وآخر. واستهدف نظام الحسبة أيضا منع الغش في الصناعة والإنتاج ومنع التحايل والتدليس والبخس في الكيل والمعاملات.

الخانات والفنادق

من المنشآت ذات الصلة بالأسواق في المدن التجارية الكبيرة، الخانات، وهي الفنادق الآن مع بعض الاختلاف. هذه الخانات يملكها عادة التجار الكبار وتستعمل مخزنا للبضائع، وفي الوقت نفسه فندقا لإيواء التجار الغرباء. ويقوم صاحب الخان بتقديم الخدمات للنزيل ولحيوانه الذي يستخدمه وتسهيل مهماته الأخرى، مقابل ثمن يدفعه على عدد الليالي التي يمكث فيها، وغالبا ما تكون هذه الخانات في الأسواق الكبيرة نفسها، حيث كان التجار الغرباء يضعون بضائعهم في أسفلها، وينامون في أعلاها ويقفلون أبواب غرفهم بأقفال رومية.

التنظيم المالي

تطلبت ضرورات التوسع التجاري وانتظام نشاط الأسواق في المدن قيام مؤسسات صيرفية ومالية متطورة كان لها دور مهم في تنشيط التجارة من خلال تسليف التجار وتسديد حساباتهم دون الحاجة إلى الدفع المباشر في كل صفقة تجارية، فضلا عن توفير وسائل الدفع المأمونة من الضياع وذلك لترامي أطراف الرقعة الجغرافية التي وصلتها التجارة الإسلامية. وقد ظهرت بعض هذه المؤسسات في العصر الأموي، وكانت مهمتها محدودة ثم توسعت زمن العباسيين، وكان معظم الذين زاولوا الصيرفة والائتمان من أهل الذمة، وبخاصة اليهود منهم، مستفيدين من مبدأ تحريم الربا في الإسلام.

إن من أهم العوامل التي ساهمت في تنشيط العمل الصيرفي، طبيعة النظام النقدي الإسلامي في العصر العباسي، الذي كان يعتمد نظام النقد المزدوج أو ما يسمى بنظام المعدنين. لقد أدى ذلك إلى تنشيط المعاملات التجارية في إطار الدولة العربية الإسلامية وفي العراق بشكل خاص، ففي الوقت الذي شاع فيه تداول الدرهم الفضي (الفارسي) في الشرق والدينار الذهبي (البيزنطي) في الغرب كانت الدولة العربية في العصر العباسي تتعامل بنظام المعدنين وهكذا ارتبطت منظومتان نقديتان كانتا في الماضي متباعدتين، ارتبطتا الواحدة بالأخرى بواسطة الدينار والدرهم الإسلاميين، وريثي الدينار البيزنطي والدرهم الساساني، وتحقق ارتباط العملة الفضية بالعملة الذهبية في ظل دولة الإسلام على أساس سعر صرف موحد أن كل دينار يعادل عشرين درهماً. وقد عرفـت أسواق العراق والخليج العربي نـظامـا ماليا متطورا لتجارة الائتمان، كان أرقى ما وصل إليه التعامل المالي في عموم الدولة الإسلامية.

مناطق التجارة الحرة

من التطورات المهمة في نظام الأسواق التجارية خلال العصر الإسلامي الوسيط، اتخاذ نظام التبادل التجاري أسلوب المستودعات الكبيرة،وهو شبيه بنظام المناطق التجارية الحرة في عصرنا الحديث، فمع ارتفاع مستوى الاستهلاك وتنوع أساليب التجارة كما وكيفا، ونمو المراكز الحضرية في العراق والخليج العربي، وتزايد أعداد سكانها، اختفت تدريجيا - وإلى حد ما الرحلات التجارية الطويلة بين الصين وموانئ الخليج العربي مرورا إلى عالم البحر المتوسط، بعد أن ظهرت المحطات التجارية والأسواق الكبرى، وخاصة في الموانئ، والتي كانت تخزن فيها وتباع مختلف السلع، ومن مختلف المناشئ، يديرها تجار أثرياء من جنسيات مختلفة، ،عملوا كوسطاء للتجارة الدولية، وكانت أكبر تلك المحطات (الأسواق الكبرى) في الموانئ الهندية، وفي الخليج العربي، وبهذه الطريقة مرت السلع الثمينة والبضائع الاستهلاكية سواء كانت من الشرق أو الغرب بالموانئ الوسيطة.

ويبدو منطقيا أن نظام التبادل التجاري عن طريق الأسواق الكبرى (المستودعات) وظهور الموانئ الدولية (مناطق التجارة الحرة)، حيث يوجد التجار من مختلف الجنسيات، كان نتيجة الظروف الناجمة عن حركة الرياح الموسمية ومشكلات الملاحة، خاصة في المحيط الهندي، فضلا عن أسباب ودوافع اقتصادية وسياسية أخرى، فقد أدى اللجوء إلى التجارة عن طريق المستودعات إلى تخفيض أجور الشحن وتقليل المسافات التي كان على التاجر أن يقطعها، كما وفر هذا النظام تقديم خيارات أوسع أمام التجار، سواء في البضائع أو في الخدمات التجارية.

عبد الحكيم الكعبي مجلة العربي يونيو 2010

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016