مختارات من:

متى يخرج الوعي العربي من دائرة المتاهة؟

عبدالمحسن الخنيزي

إن ظاهرة تسارع نمو الحركات الإسلامية السياسية تثير سؤالا مهما: لماذا حققت في السنوات الأخيرة هذا الانتشار الجماهيري وتقدمت الصفوف حتى تضاءلت أمامها المنظمات والأحزاب السياسية الأخرى برغم كون هذه الحركات قديمة لم تنبثق من عدم؟

إن مفتاح البحث في هذه الظاهرة هو افتراض تبلور في ذهني بصورة واضحة وأصبحت مقتنعا به اقتناعا شبه نهائي، ولا أقول نهائيا لأن علمي الاجتماع والسياسة والملاحظات الاجتماعية السياسية أيا كان نصيبها من الثبات هي أمور متغيرة يؤثر في نتائجها الأخيرة ومسلماتها الآتي من الأحداث، والأيام حبلى الأحداث على الدوام. هذا الافتراض هو أن المجتمع العربي، مثل كثير من المجتمعات الإنسانية تواق للاستقلال والمنعة والرقي والعيش الكريم جنبا إلى جنب مع الأمم القوية، فإذا دهمته أزمة عامة وسدت عليه سبل الولوج إلى تلك الأهداف، أخذ وعي جديد اجتماعي/ سياسي يتكون شيئا فشيئا، يخترق الوعي السائد ويحل محله ببطء، ممهداً لسقوط نظام اجتماعي/ سياسي قائم يعتبره مسئولاً عن نشوء الأزمة وتفاقمها والإتيان بآخر يحمل مواصفات الوعي الجديد. وخلال سيرورة تراجع الوعي القديم ونمو الجديد تتراجع الاتجاهات والمنظمات والأحزاب التي تتغذى على الوعي القديم وتنمو الاتجاهات والمنظمات والأحزاب التي تتغذى على الوعي الجديد وتجسده بهذه الدرجة أو تلك، فإذا ساد الوعي الجديد وشدت المناخ الاجتماعي برائحته النفاذة، فوجئنا بظاهرة المنظمات والأحزاب الجماهيرية الجديدة التي تبدو لأول وهلة ولمن يميل لمفهوم " المؤامرة" وكأنها قد انبثقت من باطن الأرض بقدرة قادر! وفوجئنا بالمنظمات القديمة التي تنتمي إلى ذات الوعي وقد قويت عضلاتها وتطاولت قاماتها على حين غرة! لا شك أن جدلية تراجع الوعي القديم وانبثاق الوعي الجديد، في ظل الأزمة العامة، وما يرافقها من تراجع تيار سياسي وانبثاق آخر، وما يترتب عليها أخيرا- إن لم تحل دون ذلك قوة قاهرة- من اختفاء نظام سياسي/ اجتماعي سائد وقيام نظام آخر، هي جدلية توجهها حاجات الحاضر الملحة التي تختزلها المبادئ والأهداف الأساسية للعرب التي أشير إليها في موضع سابق.

أهداف الوعي الجديد

ونحاول فيما يلي أن نلخص الآلية التي يحاول الوعي الجديد أن يجسد من خلالها تلك الأهداف:

1 - حيث إن الأهداف الكبرى هي أهداف مستقبلية، فإن الوعي الجديد يحاول أن يتبنى أو يستعير الأداة (ا لشكل التنظيمي) والمحتوى (الأيديولوجيا) والأساليب التي تستهوي الشعوب، وخاصة شعوب العالم الثالث التي تمر بظروف تاريخية مشابهة لما تمر به الشعوب العربية.

2 - يحاول الوعي الجديد أن يحقق في الأداة والمحتوى والأساليب المستعارة أعلى درجة من التطابق مع الأهداف الأساسية للأمة. لذلك فهو يعمل حيناً على التخفيف من غلوائها في الجانب الأيديولوجي أو التنظيمي أو جانب الأساليب، وحيناً يعمقها في هذا الجانب أو ذاك.

3 - إن أمة كالأمة العربية تملك تجربة تاريخية غنية ومتميزة امتدت قروناً متطاولة.. حيث امتزج في هذه التجربة الطويلة الديني بالدنيوي فغدا الإسلام مكوناً أساسياً من مكونات الشخصية العربية والثقافة العربية. واعتلت سدة السيادة وقيادة أمم أخرى، فلم تعرف خلال تلك القرون انتقاصاً من سيادتها أو استقلالها. وإلى جانب الملكية الفردية نشأت ملكية الدولة وما أفضت إليه من مسئولية اجتماعية تجاه الشعب وخاصة الفقراء إضافة إلى صيغ ست العدالة الاجتماعية (الزكاة، الصدقة، الخمس.. ) وقد حفرت القرون المتعاقبة من الممارسة والوعظ والتنظير حساً في الوجدان الفردي والجمعي باعتبار العدالة الاجتماعية - سواء تحققت بهذه الدرجة أو تلك- مكوناً من مكونات أي نظام اجتماعي/ سياسي. نخلص من هذه المقدمة إلى أن الوعي العربي الجديد وهو يتبنى أو يستعير الأداة والمحتوى والأساليب من الآخر كي يحقق أهدافه الكبرى، يحاول جاهداً تبيئتها، إعطاءها لونه ورائحته ومذاقه، إزالة تعارضاتها القيمية الحادة، أي حذف أو تشذيب النتوءات التي تتناول الغيب أو تجرح السيادة أو تتنكر للعدالة الاجتماعية. وقد يحتج البعض بوجود منظمات واتجاهات عربية متنوعة منذ زمن طويل لم تخضع لعملية الحذف أو التشذيب هذه. والحقيقة أن نشوء اتجاهات ونمو منظمات كهذه في كل مرحلة نهوض للوعي العربي أمر طبيعي ما دامت هذه المنظمات والاتجاهات لا تشكل الزخم الرئيس لذلك الوعي، بل تشكل أحد تعبيراته الفرعية، أحد تعبيراته الهامشية، إنها لا تشكل جذع الشجرة المتين بل أحد الفروع أو الأغصان. ويجب ألا يفهم من هذا الكلام بأني أصدر حكما نهائيا في أمور قيمية تتسم بالنسبية بطبيعتها، فإن عملية مصاهرة طويلة الأمد قد تتم في المستقبل بين الحضارتين العربية والغربية مؤهلة لإحداث تعديل جوهري في منظومة القيم. كما أن الكلام السابق يكشف لنا الحساسية المتميزة التي يتسم بها العرب تجاه الدين أو الغيب والسيادة، هذه الحساسية التي طالما شكلت في جانبها الإيجابي حارساً يقظاً لاستقلال الأمة وجندياً مكافحاً ضد مستعمريها (شكل الإسلام القوة الروحية والثقافية الوافدة في حرب التحرير الجزائرية ضد فرنسا) كما شكلت في جانبها السلبي تلكؤا تجاه حضارة الغرب ككل ورفضاً لمنتجاته الفكرية والثقافية والقيمية مما خلق حاجزاً نفسياً بين العرب والغرب حال دون تحقق اندفاعة عربية للأخذ بأسباب التقدم من مصادرها في زمن قياسي كما فعلت اليابان وعدد من شعوب جنوب شرق آسيا.

الوعي العربي الجديد

لقد أفضت عملية نقد المرحلة التي دفع إليها الوعي العربي الجديد، إلى تحول النظام السياسي/ الاجتماعي العربي القائم إلى نظام جديد، تحولا سلميا كسابقه صانه من السقوط إلا أنه أضحى نظاما هجينا يحتفظ من جهة بالطابع الديكتاتوري للنظام السابق ويرفض الديمقراطية، ويجري من جهة أخرى تحولا اقتصاديا بالاتجاه الرأسمالي، الخدماتي غالبا، رابطا الاقتصاد بالسوق الرأسمالية الدولية، يتخلى عن الأهداف القومية للدولة القطرية، ويجمد علاقاته بالاتحاد السوفييتي وينهي الصراع مع الدولة الصهيونية، ويتحالف مع البلدان الغربية. كما شهدت كتلة المثقفين والأحزاب والمنظمات القومية واليسارية تفسخا أدى إلى موت بعضها وجمود وتراجع البعض الآخر. - وإلى جانب النظام السياسي/ الاجتماعي الجديد، الذي حظي من الشعب بتأييد محدود، ولكن قبل ذلك وأهم قد حظي بتخلي الجماهير الشعبية عن النظام السابق، تبلور تيار من المثقفين ونشأ عدد من الأحزاب التي تغترف من الوعاء الأيديولوجي نفسه لم تتمتع مثل ذلك النظام إلا بانتشار جماهيري محدود، لكنها تتمترس وراء قوة العملية النقدية الموجهة للنظام السابق، وانحسار الموجة الجماهيرية عنه. وهذا يعني أن الوعي العربي الجديد لم يحقق حتى نهاية السبعينيات كامل اندفاعاته في هذه المرحلة بخلاف ما فعل مع شقيقتها المرحلة الرابعة. لقد اتصف بالتردد والإحجام، يريد إرساء قواعد مرحلة جديدة، مرحلة خامسة، هي المرحلة الليبرالية الديمقراطية التي تدفع إليها الشروط الدولية والإقليمية الجديدة المتمثلة في تراجع الفكر الثوري وانتعاش الرأسمالية والديمقراطية. لكن الزمن يمتد به دون أن يتمكن من إنجاز هذه المرحلة، فلم يبلور تيارا سياسيا رئيسيا وأحزابا قوية ونظاما سياسيا/ اجتماعيا جماهيريا يطبع المرحلة بطابعه الخاص كما فعل في المرحلة السابقة. وقد لاحظنا طيلة الفترة الممتدة منذ أواخر الستينيات وحتى نهاية السبعينيات انتشار السلبية واللا مبالاة السياسية والخمول الفكري واعتزال المثقفين وجدب الساحة الثقافية، بله فتور الجماهير سياسيا، وكأن العقل العربي قد أصيب إثر تفسخ المرحلة الرابعة بصدمة أعقبها دوار رمى به في منطقة اللا إرادية واللا فعل! ولكن ذلك لا يقدم تفسيرا كاملا شافيا لتردد الوعي العربي وإحجامه عن تعميق ملامح المرحلة الجديدة وتشكيل هويتها الخاصة وإعطائها فرصتها التاريخية المشروعة في تنفيذ الأهداف الأساسية للأمة. نستطيع القول أن منشأ التردد والإحجام أساسا ما تختزنه الذاكرة العربية من ذكريات مؤلمة عن الفترة الاستعمارية في البلاد العربية التي امتدت باستثناء القليل من الأقطار منذ الحرب العالمية الأولى وحتى نهاية الحرب الثانية، وما تختزنه عن الدور الحاسم الذي لعبته القوي الاستعمارية نفسها في تجسيد المشروع الصهيوني في فلسطين القائم على اغتصاب الأرض من أصحابها، فضلا عن الصراخ الدامي الطويل فيما عرف بالحروب الصليبية، الذي ما زال حيا في الكتب المدرسية والدراسات التاريخية المعاصرة.

الانبعاث الإسلامي

لقد تميزت إذن العلاقات التاريخية بين البلدان العربية وغرب أوربا وأمريكا بالعدائية على مدى زمني طويل مما ولد حالة من الريبة والتوجس والحذر تجاه الغرب وما يصدر عنه باعتباره لا يضمر في النهاية لنا إلا شرا! يعزز ذلك وجود تنافر قيمي في معطيات التجربة التاريخية لكلتا الحضارتين، ففي الوقت الذي تبرز الحضارة الغربية مثلا " الفردانية " كمفهوم محوري في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، على صعيدي النظرية والتطبيق، فتجعل الفرد حاملا لليبرالية ومحركا للديمقراطية تعلي الحضارة العربية الإسلامية من شأن "الجماعة" وتفتقر في تاريخها الطويل إلى ذات التجربة الديمقراطية.

وما كاد عقد الثمانينيات يطل حتى أصبح من الميسور على الملاحظ أن يرصد نشوء ظاهرة جديدة، ظاهرة انبعاث إسلامي، فكري وسياسي، تتخلل الساحة العربية، بدرجات جد متفاوتة لم تلبث أن أفرزت منظماتها السياسية الجديدة وأنعشت القديمة. إلا أنه بسبب الاختلاف المذهبي بين الشيعة والسنة والعقد التاريخية المتحكمة في علاقتهما، كان التيار الإسلامي (الشيعي) سباقاً إلى طبع الظاهرة بطابعة محفوزاً بانتصار الثورة الإيرانية (1979) ومتجاوباً معها، وبقي التيار الإسلامي (السني) كامناً تحت السطح يتفاعل وينمو ببطء. وقد بلغت الموجة الإسلامية (الشيعية) ذروتها في أوائل الثمانينات، على الأصعدة كافة: الفكرية والسياسية والكفاحية والنفوذ الجماهيري. إلا أن الصفة الكفاحية أو النهج العنفي الذي اتخذ إشكالاً متنوعة قد خسر بالتدريج تأييد الرأي العام العربي لعدم جدواه وعدم استقامته، واستعدى الرأي العام الأوربي والأمريكي، وولد ردود أفعال في الغرب غاضبة، فتراجع هذا النهج لا نهاية الثمانينيات، وتخلص من معظم أساليبه العشوائية إلا أسلوبا واحداً ظل مبرراً من الناحية المبدئية إلا وهو المقاومة المسلحة ضد القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان. كما أن النفوذ الأيديولوجي على الجماهير قد شهد هو الآخر تراجعا نسبياً في التخفي من الصرامة التي هيمنت في السنوات القليلة السابقة على المظاهر والممارسات الاجتماعية، وقد كان التحفظ الذي أبدته الجماهير تجاه أساليب النهج العنفي متلازماً بالضرورة مع التحفظ الذي عبرت عنه لاحقاً تجاه الانغلاق الأيديولوجي في الشأن الاجتماعي، ومتلازماً مع عودة أطراف التيار للواقع القطري لكل منها توليه جل اهتمامها، بعد أن أغرقته في بحر العمل السياسي الواسع لعدة سنوات! إذن لقد جرى التحول في النهج العنفي لصالح السياسي وفي الأيديولوجي لصالح الديني المستقيم، وفي العمل في الساحة الإسلامية لصالح المحلي. وقد ساعد على سرعة حدوث هذه التحولات بلا شك كون التيار الإسلامي (الشيعي) ومنظماته تعمل في أقطار لا يشكل الشيعة فيها أغلبية سكانية باستثناء قطر عربي واحد أو قطرين، مما أفقدها تأييد أغلبية السكان التي قابلت نهجها الراديكالي بالسلبية حيناً ثم بالنقد في فترة لاحقة. ولكن يجب إلا يبنى على ما سبق استنتاج خاطئ مفاده انكماش التيار الإسلامي (الشيعي) وانحسار التأييد الجماهيري له، فنفوذه الديني والسياسي على الجماهير ما زال قوياً وواسعاً.

ولم تكد تستقر تلك التحولات في الموجة الإسلامية (الشيعية) بانتهاء عقد الثمانينيات وتهدأ اندفاعتها، حتى لاحظنا تكون تيار إسلامي (سني)، فكري وسياسي، على امتداد الساحة العربية يحقق تعاطفا في الأوساط الشعبية الفقيرة منها بخاصة لم يلبث أن افرز في بعض الأقطار منظماته السياسية الجديدة ونشط القديمة. وقد انطلقت تلك المنظمات في بعض الأقطار (الجزائر، ومصر) تمارس النهج العنفي نفسه الذي تخلت عنه منظمات التيار الإسلامي (الشيعي)، بل وفي صور أشد قسوة (ذبح أنصار النظام السياسي القائم والصحفيين والسياسيين والمثقفين والفنانين والأجانب، بالسكين كذبح الخراف كما يحدث بصورة متواترة في الجزائر وحالة نجيب محفوظ في مصر وبعض الحالات في السودان. والاغتيال بالرصاص الذي يمارس يومياً في كل من الجزائر ومصر) مما يعني انفصال التيارين في حالتي النشأة والنمو واستمدادهما عناصر نموهما من بيئتين مختلفتين أيديولوجياً وسياسياً، وإلا لكانت تجربة الثاني استمراراً لتجربة الأول، تبدأ الثانية من حيث انتهت الأولى، خاصة أن نشأتيهما متداخلتان لا يفصل بينهما زمان، يسمح بتكون ظروف جديدة مختلفة قد تستدعي نهجاً بعينه دون سواه.

أين الدولة الإسلامية؟

وكنقيض لهذا التيار نما تيار ديمقراطي جديد في العديد من الأقطار العربية خلال الثمانينيات والسنوات المنصرمة من التسعينيات يتمتع بحضور متميز على المستويين الفكري والسياسي معلناً تبنيه الدفاع عن المرحلة وفكرها ورفض أطروحات التيار الإسلامي السياسي والنهج العنفي لبعض فصائله.

أما المنظمات السياسية الرديفة له التي أفرزتها المرحلة منذ السبعينيات فهي لا تملك حتى الآن ثقلاً جماهيرياً منافساً للثقل الذي تتمتع به منظمات التيار الآخر. غير أن الحماسة الفكرية والسياسية التي يظهرها التيار الديمقراطي الجديد وكذلك حماية ومباركة النظام السياسي القائم له في بعض الأقطار تجعله طامحاً على المدى البعيد نحو قلب طرفي المعادلة بحيث يكون الطرف الأقوى فيها شعبياً.

وحتى الآن، لايزال التيار الإسلامي (السني) في مختلف الأقطار يحقق نمواً جماهيرياً وانتشارا لأفكاره، ومنظماته ذات النهج العنفي ما زالت قوية ومتمسكة بنهجها لم تظهر حتى الآن أية علامات على الصعيد النظري أو العملي على قرب تراجعها عن هذا النهج. والأرجح أن هذا التيار عبر عدد متزايد من منظماته في عدد متزايد من الأقطار العربية سوف يخوض صراعاً عنيفاً متنامياً ضد الأنظمة السياسية في تلك الأقطار بهدف إسقاطها وإقامة أنظمته الإسلامية الخاصة على أنقاضها وأنقاض مؤسساتها، كالصراع الجاري الآن في الجزائر ومصر، وأن منظمات هذا التيار سوف تكون قادرة على الوصول إلى الحكم في بعض الأقطار بوسيلة أو أخرى ليس صناديق الاقتراع إلا إحداها، ما لم تحل دون ذلك، في المقام الأول، قوى عسكرية قاهرة تؤجل انتصارها سنين أخرى حتى تحين لحظة التراجع في نهجها العنفي أو يصاب التيار الإسلامي السياسي بالانحسار، والحالتان تحدثان بسبب قسوة الصدمات والقصور عن تحقيق الانتصار وتطاول السنين التي تولد الإحباط العام. ولا شك أن عدم تسلم السلطة السياسية في قطر أو قطرين من قبل تلك المنظمات وعدم تمكينها من إقامة نموذجها الإسلامي الذي تنشد وتبشر به الجماهير وتغري، سوف يؤخر حصول إحدى النتيجتين المذكورتين والعكس صحيح، ذلك أن نموذج الدولة الإسلامية الذي سوف تبنيه، فيما لو تسلمت السلطة، لن يتمكن من إنجاز ما وعدت به، بله إنجاز الأهداف الأساسية للأمة، لأن هذا العصر بالذات، عصر تفجر المعلومات والتكنولوجيا العالية والاقتصاد العالمي المتشابك، لا يسمح لنمو جدي، صناعي وعلمي واقتصادي تحققه إحدى دول العالم الثالث بصورة منفصلة عن عجلة الاقتصاد العالمي الذي يقوده الغرب، سواء كان الانفصال باختيارها أو مدفوعة إليه بالمقاطعة والعزل. وهنا مقتلها التاريخي، إذ لن تلبث الجماهير التي التفت حولها طوال فترة الكفاح ضد النظام السياسي/ الاجتماعي السابق، لاهثة وراء ساب الآمال العراض والوعود، لن تلبث أن تصاب بالإحباط خلال عقد من السنين، بسبب الفشل في تحقيق الأهداف وتحسين مستواها المعيشي، فتنفض من حولها بالتدريج لتلقى السلطة الجديدة نفسها في النهاية تقاتل أعداءها الذين يزدادون عدداً مع الأيام بلا غطاء شعبي. وسوف ينتقل سريعاً موقف الجماهير السلبي هذا إلى الأقطار العربية الأخرى، كالعدوى، عاملاً على امتصاص حماسة جماهيرها في دعم كفاح الحركة الإسلامية السياسية. وعندئذ سوف تتلاشى الآمال في احتضان الجماهير لها مرة أخرى وفي تسلم السلطة، على الرغم من أن تسلم الحركة الإسلامية للسلطة في قطر أو قطرين سوف يولد مؤقتاً، قوة دفع إضافية لعموم التيار الإسلامي السياسي في البلاد العربية مما يمكن منظماته من مضاعفة نشاطها وبالتالي زعزعة الأوضاع وإرباكها. ويجب عدم الاحتجاج بالتجربة الإيرانية أو السودانية أو اليمنية للتدليل على أن الحركة الإسلامية قد تسلمت السلطة فعلاً، ذلك أنه بالنسبة للأولى واتكاء على أسباب مذهبية وتاريخية، سوف تلجأ قيادات الحركة الإسلامية (السنية) إلى مخادعة نفسها ومؤيديها وجمهورها بالقول بأن تعثر التجربة الإيرانية ومراوحتها مكانها، يعود إلى البناء الأيديولوجي الذي تستند إليه ويعود أيضاً إلى مقاطعة ومعاداة الغرب لها، وكأن نظاماً مشابها قد يقام في المستقبل لن يتعرض للمقاطعة والعداء أما التجربتان الأخريان فسوف تقول عنهما ببساطة إنهما مجرد سلطتي مشاركة بين قوتين الأقوى فيهما الطرف غير الإسلامي.

الأسباب الاقتصادية.. لا تكفي..

ورب معترض يعترض على ما قلناه ويرجع صعود الحركة الإسلامية السياسية بشقيها في بعض أقطار المجموعة الأولى إلى عامل حاسم هو تردي الأوضاع الاقتصادية فيها. والصحيح أن تردي الوضع الاقتصادي قد شكل عاملاً مهما استثمرته الحركة الإسلامية فجندت شباب المناطق الريفية والأحياء الفقيرة خاصة في خلاياها المسلحة، غير أن نفوذها في الحقيقة لا يقتصر على تلك المناطق والأحياء فهي تتمتع بتأييد ملحوظ في أوساط فئات الطبقة الوسطى في المدن. كما أن بعض أقطار المجموعة الثانية تعاني هي الأخرى ضائقة اقتصادية مشابهة. وهكذا ظلت أقطار المجموعة الثانية خارج وتيرة بناء المراحل السياسية/ الاجتماعية التي فصلناها والصراع السياسي الذي استدعته. والأغلب أنها سوف تنأى بنفسها عن التعرض للإرهاصات العنيفة للمرحلة السادسة (الإسلامية). وأخيرا يمكننا إذا شئنا أن نصنف أقطارا عربية أخرى ضمن المجموعة الأولى وأن تخلفت عن ركبها حتى الآن بسبب ظروف أحاطت بها لا يتسع المجال لتناولها. كما يمكننا أن نصنف أقطارا أخرى مشابهة ضمن المجموعة الثانية التي ذكرنا منها الأردن وشمال اليمن.

لا ريب أن ثمة عنصرا مهما قد شكل دعماً معنويا غير منظور لظاهرة نشوء وصعود التيار الإسلامي في البلاد العربية، هذا العنصر هو مجموعة التساؤلات الكبيرة التي أفصح عنها الإنسان في وجه الحضارة الحديثة منذ سنين كثيرة في أنحاء مختلفة من العالم وبخاصة في البلاد الصناعية، حتى قيض لها أخيراً الانتشار بين الناس والتجسد في هيئات وأحزاب. هذه التساؤلات يمكن اختصارها في الآتي: إلى أين سوف ينتهي بنا قطار الحضارة الحديثة والمعاصرة، المندفع بسرعة لا تعرف التوقف ولا الإبطاء، وقوده عناصر الطبيعة والفضاء، يستهلكها بشراهة، وغايته التقدم والمزيد من التقدم على حساب الإمكانات المحدودة للأرض والفضاء؟. لقد أنتجت اندفاعته اللا عقلانية ظواهر: التصحر وانكماش الغابات وتلوث المياه واكتظاظ المدن وارتفاع درجة حرارة الأرض واتساع ثقب الأوزون واستمرار تدني مستويات المعيشة في معظم بلدان العالم الثالث وسقوط بعضها في هاوية المجاعة أو هوة الإفلاس... بكلمة مختصرة، فإن ما أوقعه قطار الحضارة الجامح من اختلال في التوازن البيئي وما خلق من معضلات ما زالت خارج دائرة الاهتمام الجاد لدول الغرب الصناعي، قد هز الثقة التاريخية شبه المطلقة للإنسان في العلم وتطبيقاته ومساراته وأهدافه، وهز تاليا الثقة في الإنسان المنتج لذلك العلم بوصفه راعيا كفؤاً للطبيعة والحياة الإنسانية ومخططاً لمستقبلهما، وكان لا بد أن يثمر ذلك في ولادة وعي عام على الصعيد العالمي يعيد الاعتبار للدين بعد طول جفاء، وهذا ما لوحظ خلال العقدين الأخيرين بخاصة ليس فقط على صعيد البلدان الإسلامية والكثير من بلدان العالم الثالث بل وبلدان غرب أوربا وأمريكا. هكذا إذن ولد التطور اللاحق في موقف الإنسان من منتجات الحضارة المعاصرة إحياء دينياً على مستوى العالم وولدت العلة ومعلولها دعما لنشوء وتصاعد التيار الإسلامي خلال العقدين الأخيرين.

صراع مصيري

وأخيراً وليس آخراً فقد شهدت، ولا تزال، السنوات القليلة الماضية صراعاً دموياً أيديولوجياً وسياسياً بين ممثلي مرحلتين، الخامسة الراهنة والسادسة المراد إنشاؤها لم تألف مثله المراحل السابقة، صراعاً بين النظام السياسي القائم مدعوما من المثقفين والمنظمات السياسية الليبرالية واليسارية والقومية التي يجمعها به أكثر من قاسم مشترك من جهة وبين المنظمات الإسلامية التي تتخذ من العنف منهجاً والمثقفين الإسلاميين والأحزاب الإسلامية المعتدلة من جهة أخرى. وما أضفى على المرحلة هذا القدر والدرجة من الصراع في المواجهة، لجوء الطرق الإسلامي إلى العنف ليس فقط ضد مؤسسات النظام ورموزه وبوليسه بل وضد الصحفيين والمثقفين والفنانين الذين يصنفون خارج التيار الإسلامي، وكذلك زعم الطرف الآخر بأن الصراع مصيري لان الطرف الإسلامي لا يستهدف فقط تسلم السلطة السياسية بل ويستهدف بعد أن يتم له ذلك، قلب المؤسسات القائمة وفرض الدكتاتورية ورفض الآخر، الفكري والسياسي والديني، مما سيئول معه الوضع الاقتصادي أيضا إلى الاهتزاز والتراجع.

فهل سوف تصمد المرحلة بنظامها السياسي/ الاجتماعي ومنظماتها السياسية؟ وهل سوف يتمكن نظامها من الاستقرار طويلاً، واستكمال مهماته الرأسمالية والديمقراطية؟ أو أن مرحلة سادسة (المرحلة الإسلامية) قد شبت عن الطوق الآن في بعض الأقطار، كان قد بلور ملامحها وعي عربي جديد طيلة الثمانينيات والسنوات الماضية من التسعينيات، سوف تشاد على أنقاضها؟.

لقد مرت البلاد العربية منذ الفترة العثمانية وحتى الآن بمراحل سياسية/ اجتماعية خمس خطت في كل منها خطوة متواضعة إلى الأمام، إلا أن الأمة لم تتمكن خلالها من إنجاز أهدافها الأساسية لأن مفتاح تحقيق الأهداف هو اللحاق بالعصر الذي يتطلب بدوره مضاعفة تلك الخطوات وتعميقها وتوسيعها وكأن الأمة محشورة في دائرة مغلقة من التجريب مقسمة إلى مسافات تشكل كل منها متاهة قائمة بذاتها لا تكاد الأمة تجتاز إحداها حتى تدلف إلى أخرى حتى قطعت أربعا وشرعت في الخامسة منذ حوالي ربع قرن فأوشكت على إكمال الدائرة غير أنها تتأرجح الآن بين مرحلتين تتجاذبها قوتان متصارعتان لا ندري لمن منهما ستكون الغلبة النهائية، فإما أن تبدأ الأمة دورة جديدة كما بدأتها ذاتها فقد تستبعد منها أو تضيف إليها، وأما أن يصمد النظام القائم ويحقق انتصاراً ثم استقراراً ويتجه نحو استكمال مهماته الليبرالية والديموقراطية مسنوداً من النظام العالمي الجديد، فتمتد به وبنا المرحلة الراهنة زماناً غير معلوم.

عبدالمحسن الخنيزي مجلة العربي مايو 1995

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016