مختارات من:

قناع حي

أنور الياسين

لست ذلك الأعرابي الذي وجد مرآة ملقاة على الأرض فنظر؟ فيها مليا ثم القاها على الأرض غاضبا وهو يقول "لو كان فيك خير ما ألقاك صاحبك" فعلاقتي مع المرايا ليس فيها هذا الجفاء البدوي وليس فيها ذلك العشق النرجسي أيضا.. إنها علاقة أحاول قدر الإمكان أن تكون محايدة ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن يخونك هذا الوجه ويتحول إلى مرآة تكشف عما في داخلك رغما عنك.

كنت متوهما أنني قادر على التحكم في عضلات وجهي، وأنني قادر- مهما كانت حالات الحزن أو الفرح التي تعتمل في داخلي- على أن أظهر أمام الجميع بذلك القناع المتماسك العضلات، الذي لا يعكس. شيئا. ولكن الذي يحدث دوما هو عكس ذلك. فما إن أقبل على مجلس من المجالس حتى يفاجئني من أقابلهم بالسؤال "ما بك حزين اليوم.. هل تعاني من اكتئاب؟، أو تعليق آخر "إنك تكاد تموت من شدة الفرح،. تعليقات قد يكون فيها مبالغه أحيانا، ولكنها دوماً تكاد تقترب من الحقيقة، كأن هذا الوجه المفضوح نافذة مفتوحة على أغوار النفس.

يقال إن وجه المرأة أكثر قدرة على الإخفاء من الرجل. فهي لا" تحرك إلا عضلات أقل- بدقة وبحساب- وبالتالي تبرز أقل عدد من التعبيرات ولعل هذا أحد أسباب غموض المرأة. فهي- بعكس الرجل- لا تفصح عما بداخلها إلا في حالات العواطف الجياشة.. عندما تفقد السيطرة على عضلاتها دفعة واحدة.

كنت أتمنى لو كان لي وجه كالقناع الحي. يخفي أسراري ولا يشي بي فالمصائر تتحدد على صفحات الوجوه. ولكن الأقنعة تخيفني وما قرأته عنها في تراث الآداب العالمية يزيد من خوفي. فلست أريد أن أكون مثل الرجل ذي القناع الحديدي الذي لبث في سجن "الباستيل" الفرنسي أكثر من ثلاثين عاما دون أن يكشف عن وجهه ودون أن يتوصل المؤرخون إلى شخصيته الحقيقية. أو "نرسيس" الذي وقع أسيرا في غرام صورته المنعكسة على حافة الماء وقاده عشق الذات إلى حتفه فلم يبق من ذكره إلا زهرة بيضاء على حواف الترع وعقدة نفسية في كتب علم النفس ولا وجه مصاص الدماء الذي لا يجرؤ على التعرض لضوء الشمس ولا يظهر في المرآة ربما حتى لا يكشف لضحيته عن المصير البشع الذي يعده له. ولا وجه "درويان جراي" بطل قصة الشاعر الإنجليزي الشهير "أوسكار وايلد" الذي تمنى أن يظل وجهه شابا وجميلا كما هو دوما. وفي سخرية عبثية حققت الأقدار رغبته فأخذ جسده يشيخ ويضمحل بينما ظل وجهه فتيا كأنه لا ينتمي إليه.

وجوه.. ووجوه.. ولكني في النهاية أفضل وجهي. بكل ما فيه من ضعف وبساطة وصراحة ولكن... آه لو يتسنى لي أن احتفظ بما في داخلي سراً خفيا ولو حينا من الزمن

أنور الياسين مجلة العربي مايو 1995

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016