على الرغم من الشهرة الواسعة التي تمتعت بها ليلى مراد والأثر الكبير لجمال حنجرتها وأسلوبها الساحر في الأداء، فإنها تعتبر بين كبار نجوم الغناء، من ذوات الأعمار الفنية القصيرة، فقد اعتزلت الغناء والظهور في السينما اعتزالا تاما وهي لم تزل في الأربعين من عمرها.
إذا أمعنّا النظر في تاريخ المرحلة التأسيسية والتجديدية الخطيرة للموسيقى العربية والغناء العربي، في الربع الثاني من القرن العشرين في الموسيقى العربية والغناء العربي، سنجد في الغناء النسائي، بين كثير من الأسماء التي نالت قسطا من الشهرة، والتي تتجاوز عدد أصابع اليدين «في تلك المرحلة بالذات»، سنجد ثلاثة أسماء تتصدر هذه القائمة، إذا أردنا التعرف إلى أكثر الأصوات النسائية التي كان لها في تلك المرحلة بالذات، الأثر الأكبر في تكوين الذائقة الغنائية والوجدان الموسيقي للعرب المعاصرين، هي وفقا لتسلسل الأهمية وتسلسل الظهور: أم كلثوم وأسمهان وليلى مراد. لا يمكن أبدا الإلمام بكل العناصر التي اكتملت لليلى مراد، بعد العنصر الأساسي وهو موهبتها الصوتية الفطرية، من غير الإحاطة بالبيئتين اللتين أضفتا على مواهبها الفطرية، هذه الهالة الكبيرة من المجد الفني:
بيئة محيطها العائلي.
وبيئة العصر الفني الذي نمت وترعرعت فيه.
- بالنسبة للبيئة العائلية، فقد ولدت ليلى مراد ابنة لواحد من أساطين الطرب العربي في الربع الأول من القرن العشرين، ولم تكن القيمة الفنية للمطرب زكي مراد محصورة بجمال صوته وبراعة أدائه، بل كانت هذه القيمة تعود بالدرجة الأولى إلى أنه واحد من نجوم تلك الكوكبة التاريخية من مطربي الربع الأول من القرن العشرين التي أدت بامتياز مهمتها التاريخية في تسجيل كامل أو معظم تراث القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين «بالذات قبل مرحلة سيد درويش»، وذلك منذ دخول اختراع الأسطوانة إلى مصر في العام 1903. وكان زكي مراد إلى جانب أداء تلك المهمة الجليلة، يقدم حفلات غنائية حية، يستعيد فيها ما يروق له وللجمهور من محفوظات تراث القرن التاسع عشر، ومن أغنياته الجديدة الخاصة، التي كان يلحنها له كبار الملحنين المخضرمين، وفي مقدمتهم الموسيقار داود حسني.
هنا لابد من حاشية نذكر فيها أن زكي مراد وداود حسني، كانا ينتميان للديانة اليهودية، لكنهما كانا في الوقت نفسه عناصر بالغة الحيوية والقيمة في النهضة الموسيقية والغنائية، في ذلك العصر الذهبي الذي كان فيه اليهود العرب، قبل ظهور واستشراء الحركة الصهيونية ومطامعها في فلسطين، يشكلون جزءا أصيلا من النسيج الاجتماعي في مجتمعاتهم العربية. وهو الجو الصحي الذي ولدت وترعرعت فيه فنانة المستقبل ليلى مراد.
- أما بيئة العصر الفني الذي ولدت وترعرعت فيه ليلى مراد، فحدث عنها ولا حرج.
لقد أتيح لها في سنواتها الأولى الاتصال بامتداد تراث القرن التاسع عشر. من خلال الجلسات الفنية التي كان والدها يحييها في منزله، مع زملائه وأصدقائه الفنانين، من أمثال داود حسني. كما أنه من المحتمل أن تكون قد بدأت تصافح أذنيها في تلك السنوات المبكرة بعض ألحان الثورة التجديدية لسيد درويش بين العامين 1917 و1923.
لكن ما إن بدأ عود ليلى مراد يشتد، في النصف الثاني من عقد العشرينيات، حتى دوى «الانفجار الفني النووي» الذي أعقب ظهور ورحيل سيد درويش، على أيدي العباقرة زكريا أحمد ومحمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب ثم رياض السنباطي، في التلحين، كما كان قد جلس على عرش الغناء العربي الكلاسيكي الجديد، النجمان اللذان سيمتد نفوذهما الفني حتى أواخر القرن العشرين: أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب.
حنجرة واعدة
لكل هذه الأسباب التكوينية في الشخصية الفنية للمطربة الموهوبة ليلى مراد، كان بديهيا، وقد كان والدها يعوض عن اعتزاله الغناء، بعد صعود نجم محمد عبدالوهاب، برعاية الموهبة الفنية لابنته، طرية العود، وتوجيهها، خاصة في السنوات الأولى لظهورها الفني. في تلك الفترة، ظهرت ليلى مراد أمام الجمهور في حفلة عامة في العام 1932، تتالت بعدها حفلاتها الحية، بعد اتساع شهرتها الجماهيرية.
ومع أن صوت ليلى مراد في بداية سنوات النضج الأول فقد اندفع كبار ملحني ذلك الزمان، ممن كانوا يتعاملون مع أم كلثوم، إلى تزويد هذه الحنجرة الشابة الصاعدة والواعدة بعدد من أجمل الألحان ذات الطابع التقيليدي المتين والأصيل في الغناء العربي، بدأت تظهر تباعا، على أسطوانات بيضافون، منها على سبيل المثال: «دور إن كان فؤادي»، «حبيت جمالك»، «خايفة لتبرد نار حبي»، «فرحت لك لما تهنيت»، «يا من أنادي»، «هو الدلال يعني الخصام»، «حبيت وشفت كتير»، «يا ريتني أنسى الحب»، «حيرانة ليه بين القلوب»، وهي من ألحان فطاحل الملحنين في ذلك الزمن زكريا أحمد ومحمد القصبجي وداود حسني، إلى جانب الملحن الناشئ في تلك الأيام، رياض السنباطي، الذي سرعان ما سيكون له شأن عظيم.
من الغناء إلى السينما
في هذه السنوات التي ستمتد ما بين العامين 1932 و1937، كان النجم المتربع على عرش الموسيقى والغناء، والأفلام الغنائية الجديدة «الوردة البيضاء، ودموع الحب» محمد عبدالوهاب، يراقب ولادة وتطور موهبة ليلى مراد الصاعدة عن قرب، فاستمع إليها في مكتبة وفي منزل والدها، وفي أسطواناتها المتتالية، ويبدو أن الموسيقار المجدد، كان إلى جانب إعجابه الشديد بأداء ليلى مراد وبالألحان الكبيرة التي يسخو بها فطاحل الملحنين الكبار والجدد، قد بدأ يلاحظ مزايا خاصة في هذه الحنجرة الجديدة الصاعدة في بداية العصر الذهبي لسيدة الغناء أم كلثوم. هذه المزايا كانت قد بدأت تظهر جزئيا في بعض ألحان محمد القصبجي لليلى مراد، وهي النزعة الرومانسية في الغناء، لكنها كانت مازالت غارقة في إطار الغناء التقليدي إلى حد كبير.
عند هذا المنعطف الكبير في تطور الموسيقى العربية المعاصرة، قرر محمد عبدالوهاب أن يختار المطربة الجديدة التي لم تكن قد أكملت العشرين من عمرها، نجمة سينمائية، تقاسمه بطولة فيلمه «يحيا الحب» (1937).
وعلى الرغم من سعادة زكي مراد بهذه الفرصة الذهبية التي كانت بالنسبة لابنته النجمة الصاعدة، أشبه «بليلة القدر» الفنية، فقد بدأت تساوره بعض الشكوك الشائعة في الكواليس الخلقية للفن، حيث كانت لاتزال طازجة في ذاكرة الأوساط الفنية، الشائعات التي تعيد سبب السقوط التاريخي المدوي لسلطانة الطرب منيرة المهدية في مسرحية «كليوبترا ومارك أنطوني» إلى أن عبدالوهاب الملحن قد تعمد احتكار الألحان الرائعة في المسرحية لنفسه، وترك لمنيرة المهدية الألحان الأضعف. وتأخر الجميع في اكتشاف السبب الحقيقي لسقوط منيرة المهدية، الذي يتلخص في أن عصراً من الغناء كان قد انتهى، وعصراً جديداً يبتدأ، هو عصر أم كلثوم. خلاصة الموقف أن زكي مراد حاول بداية أن يشرف بنفسه على الألحان التي تغنيها ابنته في الفيلم، فيعهد بها إلى من سبق أن زودوا ليلى مراد بألحانهم، لكن عبدالوهاب كان في واد فني آخر، يفكر في كيفية إظهار أفكاره الموسيقية الجديدة، من خلال هذه الحنجرة النسائية الطازجة.
وكان طبيعيا أن ينتصر رأي عبدالوهاب، وكان ذلك، بغض النظر عن كواليس الفن ومؤامراته الخفية، خدمة كبرى لتطور الغناء العربي المعاصر، إذ إن ألحان عبدالوهاب الأولى لليلى مراد في «يحيا الحب» كانت إيذاناً بميلاد سيدة الغناء العربي الرومانسي في السينما الغنائية العربية.
يكفي أن نستعرض أن ليلى مراد غنّت في ذلك الفيلم منفردة، أغنية «يا ما أرق النسيم»، وأغنية «يا قلبي ما لك كده حيران». ثم غنت في أداء ثنائي مع عبدالوهاب لحنيه التاريخيين: «يا دي النعيم»، و«طال انتظاري لوحدي».
السينما الغنائية
بعد البداية المدوية لظهور ليلى مراد إلى جانب عبدالوهاب في فيلم «يحيا الحب»، انفتح أمام المطربة الشابة، بعد بلوغها مرحلة النضج الصوتي والأدائي، باب السينما الغنائية على مصراعيه، حتى يمكن أن نقول بغير مبالغة أن ليلى مراد كانت سيدة الأفلام السينمائية الغنائية النسائية، ما بين مطلع الأربعينيات ومطلع الخمسينيات.
لكن هذه المرحلة تميزت بتحول جذري في ظروف الحياة الشخصية لليلى مراد، عند ظهور النجم السينمائي الصاعد يومها في حياتها، أنور وجدي. الذي بدأ حياته ممثلا لافتا للنظر، لكنه دخل عالم الإخراج السينمائي بصدفة غريبة، عند الشروع في إنتاج أحد أشهر أفلام ليلى مراد المبكرة «ليلى بنت الفقراء»، حيث كان دور أنور وجدي ينحصر أول الأمر في تقاسم البطولة مع ليلى مراد. أما الإخراج فكان مسندا إلى المخرج المعروف كمال سليم، وعدم توافر مخرج كبير يتفرغ بسرعة للفيلم الجديد، فتح باب الحظ على مصراعيه أمام أنور وجدي، فاختاره المنتج لإخراج الفيلم، الذي كان باكورة حياته الفنية، كمخرج سينمائي بالدرجة الأولى، وممثل سينمائي بالدرجة الثانية. كما تم زواج ليلى مراد بأنور وجدي في نهاية العمل بالفيلم.
هذه التحولات الدراماتيكية في حياة ليلى مراد الشخصية، كان لها تأثيرات متناقضة على حياتها الشخصية والفنية فيما بعد. فمع أن أنور وجدي كان من ذلك الصنف من السينمائيين المهووس بكثرة إنتاج الأفلام، سرعتها، خاصة وأنه أصبح زوجا لنجمة الأفلام الغنائية النسائية الأولى في مصر، فإن نزعته التجارية وثقافته السطحية كانت تطغى على بعض هذه الأفلام، حتى أن بإمكاننا القول إن ليلى مراد قد مثلت في عصر شراكتها الفنية مع أنور وجدي، بعض أعظم أفلامها (ومنها التاريخي مثل غزل البنات)، وبعض أتفه هذه الأفلام، التي لم تكن تحمل لا قيمة سينمائية، ولا حتى قيمة غنائية، مع أن البطولة هــــي للمطربة الكبيرة ليلى مراد.
هذه الدوامة، دفعت أنور وجدي إلى مواصلة التقليد الذي كان قد بدأه المخرج توجو مزراحي، قبل ظهور أنور وجدي في حياة ليلى مراد، في أن يكون اسمها جزءا من عنوان الفيلم، حتى أنه أخرج لها فيلمها الشهير «ليلى» المقتبسة قصته عن رواية إلكسندر دوما الابن الرواية الشهيرة «غادة الكاميليا»، فظهرت كثير من الأفلام تحمل عناوين مثل «ليلى»، و«ليلى بنت الفقراء»، و«ليلى بنت الأكابر»، و«ليلى بنت الريف»، إلى آخر هذه السلسلة.
غزل البنات
ومع أن موهبة ليلى مراد التمثيلية قد تطورت إلى حد ما، حتى بلغت ذروتها برأيي في فيلم «غزل البنات» (1949) أمام نجيب الريحاني، فإن القيمة الأساسية لرصيد ليلى مراد السينمائي، تبقى محصورة بشكل أساسي في رصيدها الغنائي، الذي كان يرتفع في بعض الأفلام إلى ذرى كلاسيكية عالية، وينخفض في بعضها الآخر إلى درك السطحية والتجارية.
لذلك، وصوناً للدرر الغنائية الثمينة التي خلفتها لنا ليلى مراد في مجموعة أفلامها السينمائية، يمكننا استعراض أسماء الأفلام التي احتوت أعمالا غنائية لليلى مراد، اكتسبت خلوداً وقيمة تاريخية باقية على مر الأيام للأجيال الحالية والقادمة. من هذه الأفلام: «يحيا الحب» (ألحان عبدالوهاب) - «ليلى» (ألحان السنباطي والقصبجي) - «ليلى بنت الفقراء» (ألحان السنباطي) - «الماضي المجهول» (ألحان محمد فوزي ومحمد عبدالوهاب) - «قلبي دليلي» (ألحان القصبجي) - «عنبر» (ألحان محمد عبدالوهاب) - «شاطئ الغرام» (ألحان محمد عبدالوهاب والقصبجي وأحمد صدقي) - «سيدة القطار» (ألحان محمود الشريف) - «ورد الغرام» (ألحان محمد فوزي). هذا إلى جانب أغنيات متفرقة في أفلام أخرى مثل «حبيب الروح» و«الحياة الحب» للسنباطي وعبدالوهاب ومحمود الشريف.
دراما الاعتزال
أعتقد أن عوامل أثَّرت في إسراع ليلى مراد باعتزال الغناء والتمثيل وهي في الأربعين من عمرها، أهمها بلا شك تلك الشائعة المدمرة التي أطلقت عليها بأنها زارت إسرائيل سراً في مطلع الخمسينيات، وتبرعت للجيش الإسرائيلي بخمسين ألف جنيه مصري «ثروة طائلة في تلك الأيام».
مسلسل «أنا قلبي دليلي» عن ليلى مراد، أعاد أمر هذه الشائعات لكواليس الغيرة الفنية، وأشار بإصبع الاتهام إلى الممثلة المصرية اليهودية راقية إبراهيم، التي ظهر فيما بعد أنها كانت صهيونية الميول، والتي كانت قد شاركت عبدالوهاب بطولة فيلمه السادس «رصاصة في القلب» في العام 1944.
لكن أخباراً صحفية في تلك الفترة، أشارت إلى أن تلك الشائعة كانت جزءاً من الخلاف الزوجي المدمر الذي كان يتكرر بين ليلى مراد وأنور وجدي.
الأهم من ذلك أن الأيام قد أثبتت بالوثائق، وبالدليل العملي الحسي، أن ليلى مراد قاومت كل الإغراءات التي قدمتها لها إسرائيل، للهجرة إلى فلسطين المحتلة، وعاشت مع المخرج الكبير للأفلام الكوميدية، فطين عبدالوهاب، حياة زوجية عادية، واعتزلت في منزلها بالقاهرة، ترفض كل المقابلات الصحافية، وكل محاولات التكريم، التي قدر لي أن أشارك في إحداها، «التي كان شقيقي المايسترو سليم سحّاب يعد لإحيائها في دار الأوبرا في القاهرة» في مكالمة هاتفية شخصية مطولة مع النجمة التاريخية «مكالمة استغرقت أكثر من نصف ساعة دون طائل، اكتشفت خلالها كل أبعاد الرقة الإنسانية والأنثوية في شخصية وصوت ليلى مراد، إلى جانب تواضعها الجم».
وفي الحادي عشر من شهر نوفمبر من العام 1995، أسلمت الفنانة التاريخية ليلى مراد الروح في منزلها بالقاهرة، بين أفراد أسرتها، بعد سبعة وثلاثين عاما من الاعتزال الكلي. لكن صوتها الملائكي العذب ذا الرقة والشفافية المميزتين، وأداءها المتحدر من أصول الغناء العربي التقليدي، ثم المنطلق بعد ذلك، متأثرا بعبدالوهاب بشكل أخص، نحو أوسع آفاق تطوير الغناء العربي، بنبرة رومانسية كلاسيكية راقية وراسخة القدم، مازال رنينها يتردد في آذاننا، وسيبقى ذخرا لآذان الأجيال العربية القادمة، من خلال تسجيلات لا تعترف بمرور الزمن أو الاعتزال.