لا أدري لماذا تبحر بي الذاكرة دائماً إلى ذاك المرفأ هناك حيث كان بيتنا على الطرف الجنوبي من مدينة صيدا القديمة، حيث ولدت وأمضيت سنوات طفولتي، قريباً من البحر.
كلما سئلت عن أمر يتعلق بحياتي، بما هو ناتئ في سيرتي وحاضر في ذاكرتي، يتقدم عالم ذاك المكان القديم، تتشكل صوره بسرعة فائقة، كما الخطوط والحروف على شاشة الكمبيوتر، كما الشريط المنفلت من آلية ضوابطه. تعود إليَّ معالم سكان دارتنا الكبيرة: وجوههم وما انحفر عليها من تعابير، تحركاتهم وهم يدفنون في زوايا الأمكنة حكاياتهم.
لماذا اخترت الكتابة في مجال النقد الأدبي سئلت في أكثر من مناسبة.
ـ (بحثا عن المعرفة). أقول.
ولا أقول كي أكسر الصمت الذي كان يغلف وجوه الكثيرين من سكان تلك الدار القديمة، ولا أود لهذا الصمت أن يستمر.
ولا أقول كي لا يبقى الكلام ـ كما بقي كلامهم ـ في العتمة. عتمة تغيب فيها الأسباب فترد ظواهرها إلى المجهول، إلى الطلسم، إلى ما لا يعرف، وتقبل المصائب دون السؤال عن أسبابها، ويغرق الكلام في صمتٍ تموت معه المعرفة.
اخترتُ النقد بحثاً عن المعرفة. أقول. أختزل الكلام بمقتضى المناسبة، فلا أشير إلى تلك المطارح من الذاكرة، ذاكرتي المشحونة بصور عالم طفولتي، صور تلح وتفتح حاضر زمني.
كنت لا أحكي عنها.
ولكن ها أنا اليوم أتوقف عند ذاك المرفأ لكلامٍ يخص الذاكرة، ولا يخص مجال النقد والدراسة.
***
وتعبرني الصور، أتوقف عند بعضها، أحيل بحثي عن المعرفة إلى بعض أسبابه.
صورة فاطمة وهاجر تجلسان عند عتبة غرفتهما، تراقبان بصمت، بلا سؤال، ما يجري في فناء الدار الواسعة، الفناء المفتوح على رحابة السماء.
تراقبان، أو تتطلعان ولا تبصران! فالوجهان يبدوان لي، اليوم أشبه بمنحوتتين تشهدان على زمن خانته المعرفة فخانهما الكلام.
صورة أحمد يعبر تحت قنطرة الباب، نحيلاً، شاحباً، مطبق الشفتين على لسانه، لا أسمع صوته إلا تمتمة، أو كلاما مرتجفا، كأنما مس صوته تيار كهربائي ضعيف، فتلعثم النطق وخان صاحبه التدفق الفصيح.
صورة الحاج عبدالقادر يداوي ابنه الصغير من آلام ضربة على بطنه. مغطس ماء ساخن يشفيه. يظن.. ولا يعرف أنه بذلك سيبكيه، وأمه، بدل الدموع دماء.
لقد التهبت أحشاء الطفل ومات في الصمت.
هي صور تنهض في ذاكراتي شاهداً على غياب هذه العلاقة بين الأسباب وظواهرها، بين العوامل ونتائجها فيعالج المريض بما يُفضي بحياته إلى الموت. وتعجز فاطمة وهاجر، ويعجز من حولهما، عن فهم سبب تحديقهما الساهي، والدائم في الفراغ. ولا يدري أحمد لماذا ترتجف شفتاه كلما همَّ بالكلام!
كانت الحياة تمر بلا أسئلة تدق جدران المعرفة المغلقة. كأن هؤلاء الناس كانوا يأتون إلى الدنيا، فقط لينتظروا رحيلهم عنها.
***
يوم هدموا حينا، وفيه دارنا الكبيرة، كنا مثل قبيلة عصفت بمضاربها الرياح فتفرقنا أيدي سبأ. وكنت شخصياً، كمن يخرج من مغارة باحثاً عن خيوطٍ من الضوء تعينه على قراءةالعالم.
وكانت بداية الطريق نحو الاختلاف.
لا أريد أن أكون مثلهم. رفضت التماهي بهم. لكني كنت أحملهم داخلي.
ألهذا تعود بي الذاكرة، اليوم، إليهم، إلى ذاك المرفأ، الأول، القديم؟
ألهذا عادت حـجارة دارنا تبـني ـ بعد أن هدمت ـ صورة لها في الذاكرة لا تنـهدم، ولا تهدم؟
في المدرسة كرهت مسطرة المعلمة، ورفضت درس الاستظهار، كرهت أن نطيع دائماً، أن نحفظ دون أن نفهم، أن نسمع دون أن نعبر، دون أن يتاح لنطقنا البري أن يتفجر، دون أن نسأل، دون أن نسأل لنرد ونناقش، لنقول ونحاور.
السؤال هو المدخل إلى المعرفة.
والمعرفة هي مسافة للاختلاف.
***
وكنا نتشابه.
يشتري والدي نصف (توب) (لفة كبيرة) من القماش الواحد، وتقصه أمي أمتاراً متساوية، وتوزعه على بنات خالتي وأعمامي (كان لي خالة واحدة وأكثر من عم). وكن يلبسن أثواباً لا تختلف، لا تتمايز، كان على الأثواب أن تتشابه كي تعدل وترضي، كي لا تعرف وتثير الغيرة أو الحسد.
كانت الأثواب تمحو الرغبة في الاختلاف.
وعندما كان يزورنا بعض الأقارب القادمين من بيروت، أو من خارج البلد، كان ما يشغلني هو التأمل بشكل الفتيات اللواتي كن من عمري. كنت أبحث في هيئاتهن وفي ما يلبسن عن المختلف.
المختلف يلفتني، يجذبني، يحزنني التشابه. يحزنني أن لا أرى لي وجها خاصا في المرآة، وجها هو وجهي أنا لا وجوه الآخرين.
كيف أكون أنا؟
الكبيرات: الأم، الأخت الكبيرة، الخالة، مثال نموذج. والمثال إذا دام وتكرس، إذا لم تترك العلاقة به مسافة للتنفس، لنمو الذاتي المختلف، يصبح مثل عباءة سوداء تلف المشهد أمام العيون الباحثة عن الضوء.
وكانت صور الكبيرات تحتل مرايانا، وتقيد حريتنا، وتلج قدراتنا على صوغ ذواتنا المتميزة.
كيف لنا أن نتبرع، ونحلم؟
كيف لطاقاتنا أن تبدع صورا لأمنياتنا، ورغباتنا، وأحلامنا؟
***
المعلمة ناديا التي كانت تدرسنا اللغة العربية أتاحت لي فرصة السؤال عن معنى المفعول لأجله، والمنصوب على الحالية. وكان جوابها بداية الطريق نحو المنطق استناداً إلى تفسيرها الذي عللت به المفعولية، أو قواعد التركيب للغة وللكلام.
المنطق الخاص بقواعد التركيب اللغوي فتح باب التفكير أبعد من اللغة، التفكير في السبب، أو الأسباب.. وصولاً إلى المعرفة.
***
أذكر، عندما دخلت سـلك التعليم الجامعي سألتني إحدى الطالبات والدموع في عينيها:
(أستاذة. كيف يمكنني أن أكتب أو أن أبحث في موضوع دون أن تكون كتابتي مجرد جواب على سؤال، يطرحه علينا بعض الأساتذة ويريدون عليه جواباً هو عبارة عن حفظ وتكرار لمادة المحاضرات التي كانوا قد أملوها علينا)؟.
كانت هذه الطالبة برعم كاتبة، باحثة، أو أديبة، تريد التحرر من قيود الحفظ والمحاكاة لتكتب ما تفكر فيه، وتعبر عما تشعر به. لم يكن بإمكانها أن تتجاوز واجبات الدراسة كما يطلبها الأستاذ، أو كما يحددها كشرط للنجاح. كانت بحاجة إلى النجاح لنيل شهادة هي سبيلها إلى العمل وتأمين مصدر رزق لها ولعائلتها.
***
كيف نكوِّن ذواتنا؟
المشوار، مشوار بناء الذات بعيدا عن التقليد والمحاكاة، يبدأ من ذاك المرفأ الذي تعود إليه ـ دائماً ـ ذاكرتي: البيت بيت الطفولة بكل ما يعنيه من علاقات وأجواء يتأثر بها الطفل وتشكل اندفاعاته للأولى نحو الحياة.
بيتنا القديم أعود إليه ناقدة. لكنه يبقى مرفأ جميلاً، أحنُّ إليه حنيناً غير وردي: فلـقد كان حقاً جميلا بقنـاطره وأقواسـه التي هدمت ،أزالوها، وكانت معنى من معـاني هويتي وانتمائي.
وكان حقا جميلاً بتلك الأماسي أماسي الصيف فوق السطوح المتقاربة ننتقل بينها بقفزة صغيرة فوق جدار مشترك. لم نكن نعرف الهوة التي أبعدت بعضنا عن بعضنا وحوَّلت السطوح إلى متاريس.
نلتقي، كنا، فوق السطوح المتقاربة المفروشة أرضها الباطونية بحصر عكاوية. الوقت بُعيد غروب الشمس، مازالت آثار الأشعة الراحلة في قلوبنا وأبصارنا. نتأمل زهرة (ليلة القدر) التي لا تشبه أي زهرة أخرى، تتفتح لليلة واحدة، وتطبق أوراقها على ذاتها، تنتهي في الصباح، دون أن تستعيد شكلها في الليلة التالية.
ترحل زهرة (ليلة القدر) الفريدة، لكن رائحة الفل والياسمين تبقى، تصر على أن تسكن فضاءنا.
مرفأ للذاكرة، أعود إليه، أمر بذاك المكان. لا أجد بيتنا القديم. لقد هدم. إني أسكن اليوم بيتاً مختلفاً، لكن رائحة الفل والياسمين تفوح من تحت القناطر والأقواس التي كانت، تفوح من روحي.. روحي المحلقة فوق مرافئها.