علي أحمد باكثير وقصيدته «إمّا نكون أو لا نكون»
في طليعة المبدعين العرب الكبار، الذين ظُلموا في حياتهم وبعد رحيلهم الأديب العربي الكبير علي أحمد باكثير أحد رواد القصيدة العربية الجديدة، في شكلها الذي عرف باسم قصيدة الشعر الحر، التي أتقنها من بعده شعراء العراق: السياب ونازك الملائكة والبياتي في أول الأمر، ثم أصبحت موجة شعرية عارمة في كل بقاع الوطن العربي. وهو أيضًا أحد رواد الدراما العربية أنجز عددًا من المسرحيات التي كانت سببًا في شهرته وذيوع صيته في زمانه، مثل: هاروت وهارون، وعمر، وجلفدان هانم، وغيرها بالإضافة إلى إنجازه المتميز في عالم القصة والرواية.
ولد الأديب الحضرمي علي أحمد باكثير في «سورا بايا» بإندونيسيا عام 1910، وفي سن العاشرة انتقل إلى وطنه الأصلي حضرموت وظل به حتى عام 1932، لتبدأ بعدها المرحلة العدنية حيث أقام في عدن حتى عام 1933، ثم غادرها إلى الحجاز بالمملكة العربية السعودية، مقيمًا لمدة عام واحد، قبل أن يغادر في عام 1934 إلى مصر التي أقام فيها حتى عام وفاته 1969.
وفي مصر حيث عاش أكثر من نصف عمره، أصبح علي أحمد باكثير واحدًا من، شعرائها وأدبائها وكتاب مسرحها، لكن اتجاهه العروبي والإسلامي المتحرر الذي لم يتخلّ عنه طيلة حياته جلب عليه عداوة اليمين واليسار معًا، حتى جاء عليه وقت أدرك فيه أنه يُحارب على المستوى الأدبي والإبداعي بسبب تكوينه وآرائه التي لم يرض عنها اليمين واليسار، وكانت سببًا في خفوت صوته المسرحي، وعدم السماح بعرض مسرحياته، أو إعادة ما سبق تقديمه منها.
وبالرغم من الإنجاز الشعري الكبير لعلي أحمد باكثير، إلا أنه لم يُعْنَ بنشر أي من دواوينه في حياته، وظلت قصائده حبيسة أوراقه، وقد كان نشرها كفيلا بتحقيق التوازن بين إنجازه المسرحي وإنجازه الشعري.
تخرج باكثير في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب في جامعة القاهرة، واشتغل حينًا بالترجمة، وعن طريقها، ومن خلال اطلاعه على كثير من شعر الآداب الأجنبية كان تبكيره بصياغة النماذج الأولى لقصيدة الشعر الجديد.
وقد أتيح لشعر باكثير واحد من عشاق أدبه وإنجازه الأدبي هو الدكتور محمد أبوبكر حميد أستاذ الأدب الإنجليزي بالجامعات السعودية الذي يشارك باكثير في انتمائه إلى حضرموت، فكرّس أكثر من عشرين عامًا من حياته لجمع شعر باكثير وتحقيقه وإعداده للنشر وفقًا لمراحل حياته المتعددة. فأصدر أولاً ديوان باكثير «أزهار الرُّبا في شعر الصبا» وهو شعره في المرحلة الحضرمية (1923 1932) ثم ديوانه الثاني «سحر عدن وفخر اليمن» الذي يصور المرحلة العدنية (1932 1933)، ويتهيأ الآن لإصدار ديوانه الثالث «وحي ضفاف النيل» الذي يضمّ شعر المرحلة المصرية (1934 1969) معبرًا عن الجزء الأكبر من حياته ومن شعره.
وفي كل شعره، عكف باكثير على هموم داعية وشواغل كبيرة، وجدانية وتاريخية وقومية وروحية، من أبرزها فجيعته المبكرة في زوجته الشابة التي لم يدم زواجه بها أكثر من ثلاث سنوات، وكانت حبيبة عمره وملهمة شعره العاطفي والبكائي كله. وتصويره لأحوال الحضارمة في الوطن وفي المهجر جزر الهند الشرقية وانقسامهم إلى طائفتين متنازعتين، وهو الأمر الذي كان شاغله الأكبر في مراحل حياته المبكرة: الحضرمية والعدنية والحجازية. وانشغاله بالهم القومي العربي والإسلامي في مرحلته المصرية، بعد أن صاغ بكائياته المؤثرة في رحيل أعلامها الكبار من الشعراء والأدباء والمفكرين من أمثال حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، وهو لايزال بعيدًا عنها، لم تطأها قدمه بعد، وكانت البكائيات بعنوان: شاعر حضرمي يبكي شاعر النيل، ودمعة حضرموت على أمير الشعراء.
وفي ذروة اشتعال وجدان باكثير بالهم القومي والإسلامي، وفي حُميّا تصديه لكل ما يرى فيه اعتداء على حرمة الوطن العربي والإسلامي، أبدع باكثير عددًا كبيرًا من القصائد والأناشيد، في مقدمته قصيدته الطويلة، ذات النفس الملحمي «إما نكون أو لا نكون» في أعقاب نكسة 1967، جاعلاً منها صرخة مدوية، لاستنهاض همة العرب والمسلمين، واستنفارًا للطاقات الكامنة في داخل من ارتضوا السكون وآثروا الدعة والانهزامية والانعزال، وتبصيرًا بالعواقب التي تتهدد مصير الأمة ووجودها وتاريخها كله، جاعلاً من عنوان القصيدة «إما نكون أو لا نكون» مُرجَّعا إيقاعيًّا يختتم به كلّ مقطع من مقاطعها، تركيزًا للغة الخطاب الشعري، وتأكيدًا لمحتواه القومي، ومبناه الفني. وهو في لغته الشعرية لا يبتعد كثيرًا عن اللغة التي سادت العقود الوسطى من القرن الماضي، متأثرة بلغة من سبقوا: شوقي وحافظ والإحيائيين، ولغة أصحاب النزعات الثورية والطليعية: عبدالرحمن الشرقاوي وعبدالرحمن الخميسي وعزيز فهمي وغيرهم، بالإضافة إلى اللغة التي ارتضاها لنفسه وهو ينشغل بالترجمة، ويصوغ النموذج الأول لقصيدة الشعر الجديد التي تفجرت منذ بداية الخمسينيات.
يقول علي أحمد باكثير في قصيدته «إما نكون أو لا نكون»:
غدًا بني قومي، وما أدنى غدا
إما نكون أبدا
أوْ لا نكون أبدا
إما نكون أمة من أعظم الأمم
ترهبنا الدنيا، وترجونا القيم
ولا يقال للذي نأبى: نعم
تدفعنا الهمم
لقمم بعد قمم
أو يا بني قومي نصير قصة عن العدم
تُحكى، كما تحكى أساطيرُ إرمْ
غدًا، وما أدنى غدًا، لو تعلمون
إما نكون أبدًا، أو لا نكون
***
قد وضح الصبح لذي عينيْن
لم يبقْ من شك ولا من ميْن
أين الخلاصُ؟ أين أين؟
لم يبق بيْن بيْن
إما نحوز الغايتيْن
أو نخسرُ الكرامتيْن
إما نكون أبدا
أو لا نكون أبدا
غدًا، وما أدنى غدًا لو تعلمون
إما نكون أبدًا، أو لا نكون
***
أفي سبيل العيش، نمضي للجهاد؟
كلاّ بني قومي، فما ذا بالسّدادْ
العيشُ كلُّه إلى نفاد
والعيش لا يثبت للموتِ لدى الجِلادْ
بل في سبيل الله نمضي للجهاد
لله في المبدأ والمعاد
بالله في القلب وفي الكفّ وفي الزناد
ننتزع الحياةَ من جوف الرّدى
حتى ننالَ النصر أو نُستْشهدا
إما نكون أبدا
أو لا نكون أبدا
غدًا، وما أدنى غدًا لو تعلمون
إما نكون أبدًا، أو لا نكون
***
لا بدّ من معنًى أَجَلّْ
من كلّ معنًى ومثلْ
نسعى إليه في ارتياح وجذل
ونقبل الموت إذا الموت نزلْ
بغير خوفٍ أو وجلْ
أجل، أجل، أجلْ
ذلكم الرحمنُ لم يزلْ
عزّ وجلّ
ربّ الحياة، مالك الأجل
كفيلنا في المنُتهى والمُبتدى
إما نكون أبدا
أو لا نكون أبدا
غدًا وما أدنى غدًا لو تعلمون
إما نكون أبدًا، أو لا نكون
***
لا صلح يا قومي وإن طال المدى
وإن أغار خصْمُنا وأَنْجَدا
وإن بغى، وإن طغى، وإن عدا
وروّع القدْس، وهدّ المسجدا
وشاد في مكانه هيكلهُ المُمرّدا
وشرّد الألوف من ديارهم وطردا
وذبح الأطفال والنساء والشيوخ رُكّعًا وسُجدّا
يلتمسُ العدوُّ صلْحنا سُدى
لا، لن يكون سيدا
ولن نكون أعبُدا
إما نكون أبدا
أو لا نكون أبدا
غدًا، وما أدنى غدًا، لو تعلمون
إما نكون أبدًا، أو لا نكون
***
المسلمون انهزموا يوم حُنيْنٍ وأُحدْ
من غفْلةٍ بالمسلمين، واغترارٍ بالعدد
والمصطفى يذود عنهم ويصولُ كالأسدْ
هل ضعُف الإسلامُ من بعد حُنيْنٍ وأُحدْ
لا، بل علا سلطانه، بعد حُنيْنٍ وأُحدْ
وأنجز الرحمان ما وعد
وانتشر الهدى
لا، لن تَهيضنا الخطوب، أو يُخيفنا الرّدى
إما نكون أبدا
أو لا نكون أبدا
غدًا، وما أدنى غدًا، لو تعلمون
إما نكون أبدًا، أو لا نكون
***
صونوا مصابيح الهُدى
ولا تُمكّنوا العدا
أن يُخمدوها أبدا
إما نكون أبدا
أو لا نكون أبدا
غدًا، وما أدنى غدًا، لو تعلمون
إما نكون أبدًا، أو لا نكون
***
يا ويح بيت المقدسِ
والحرم المُقّدسِ
مما به من أَبْؤسِ
وما أصاب طهرهُ من دَنسِ
واعمراهُ، أين أنت يا عُمر؟
يوم دخلْتَهُ دخول المُنْتَظرْ
في سمْتكَ الرائعْ
وقدِّك الفارعْ
وفي مُحيَاك القمرْ
وبين جنبيْكَ خشوعُ المعُتمرْ
وأهله إليك ينظرونْ
كأنما تحوّلوا إلى عيونْ
فَيعْجبون ثم يُعجبونْ
من ثوبك المرُقّع
وعزَّك المُمنّعْ
تساءلوا ما بين شكٍّ ويقينِ:
أجدُّكم هذا أميرُ المؤمنين؟
إذَا هو الذي يُسمّى عُمرَا؟
إذا هو الذي أَذلَّ قيصرا؟
يا عُمراهُ كيف ذلّت إيلياءْ؟
مدينة الرسْل ودارُ الأنبياءْ
مسْرى النبيّ المصطفى
إلى السماوات العُلاَ
حيث رأى ما قد رأى
من نور ربّه العزيز الأعلى
في السّدرة العصماء ذات المُنتْهى
واعمراهُ، أين أُولى القبلتيْن؟
وأين ثاني الحرميْن؟
والمسجدُ الثالثُ بعد المسجديْن؟
وامسجداهْ! واأَقصياهْ!
لا، لن يحوزوا المسجدا
لَنستردّنْهُ غدا
إما نكون أبدا
أو لا نكون أبدا
غدًا، وما أدنى غدًا، لو تعلمونْ
إما نكون أبدًا، أو لا نكون
***
لا، والذي يقول كنْ لما يشاءُ فيكونْ
وقسمًا ببِيْتهِ المُحرّم المصون
لَمثلما كنا قديمًا سنكونْ
ومثلما أرادنا كتابنا سوف نكون
ومثلما أرادنا محمد سوف نكون:
أعزّةٌ مناضلون
وأقوياءُ عادلونْ
لا، لن نذلّ أبدًا، ولن نهونْ
وإن تواطأ الطغاةُ أجمعون
فليسمعوا، هل يسمعونْ؟
وليشهدنْ العَالَموُن
أنَّا علينا أن نكون
أعزّةً أو لا نكون
في قلب غَيابة الظلام التي أحدقت بالأمة العربية والإسلامية، في أعقاب نكسة 1967، كانت هذه الصرخة الشعرية العارمة لعلي أحمد باكثير، رفضًا للهزيمة، وإيقاظًا لهمّة الأمة، ودعوة لها للنهوض من عثرتها، والتمسّك بقيمها وثوابتها ومقدساتها، مستخدمًا لغة شعرية سهلة التأتي والنفاذ إلى الأعماق، ممتلئة بمعجم عربي إسلامي، ورموز بارزة فيه، وصورٍ تستعيد ملاحم التاريخ العربي وبطولاته، وتتوقف عند لحظات توهجه ومضاء عزيمته، هاتفة بشعار مرحلة ما بعد النكسة، «إما نكون أو لا نكون»، ليصبح شعارًا لهذه الأمة، في الحاضر وفي المستقبل.