عندما كان اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري ينتج أفلاما للعرض على شاشة التلفزيون، بعيدة عن المواصفات التجارية المعروفة، كانت الفرصة متاحه لتفريخ نجوم جدد في مجال التمثيل وكتابة السيناريو، والإخراج أيضاً، وقد قدمت شعبة أفلام التلفزيون التي كان يشرف عليها المخرج عادل صادق، ثم المخرج إبراهيم الصحن، قبل أن يرأسها ممدوح الليثي لسنوات طويلة، مجموعة ضخمة من الأفلام المهمة مثل: أنا لاأكذب ولكني أتجمل، آسفة أرفض الطلاق، محاكمة على بابا، أيوب، الخاتم، الأصدقاء، فوزية البرجوازية، إنهم يسرقون عمري، والأستاذ كاف إلخ، ولا أعرف سببا منطقياً لتوقف التلفزيون عن إنتاج تلك النوعية من الأفلام التي كان يشارك فيها أحياناً نجوم كبار في حجم عمر الشريف، وأحمد زكي ومخرجين في حجم صلاح أبو سيف، وعاطف سالم، لقد أعمل التلفزيون المصري فكرة إنتاج أفلام سينمائية للعرض على شاشة التلفزيون، وهي الفكرة التي انتبهت لها بعض القنوات الخاصة، مثل روتانا وميلودي، وإن كان إنتاج هذه القنوات حتى الآن يقترب من مستوى أفلام المقاولات ولم تخرج منها أي تجربة مطمئنة أو ذات مستوى معقول!
ومن خلال متابعة ترشيحات «الجولدن جلوب» التي تمنح جوائز لأهم المسلسلات والأفلام التلفزيونية «الأمريكية طبعاً» تمكنت من رصد عدد غير قليل من الأفلام التي تتمتع بمستوى فاخر، يفوق في كثير من الأحيان مستوى الأفلام التي تقدمها شركات الإنتاج الضخمة للعرض على شاشات السينما، ثم، وهذا هو الأهم، فإن تلك الأفلام التلفزيونية استطاعت أن تستقطب كبار النجوم، وقدمت موضوعات شديدة الجاذبية، ذات مستوى فني فاخر، وكان من بين الأفلام المرشحة لجائزة أفضل فيلم تلفزيوني «كوكو شانيل» بطولة شيرلي ماكلين، وفيلم «من داخل العاصفة» عن مرحلة شديدة الأهمية من حياة رئيس وزراء بريطانيا الأسبق «ونستون تشرشل» الذي قاد بلاده للنصر في الحرب العالمية الثانية، وفيلم «صلوت من أجل بوبي» بطولة سيجورني ويفر، وكيفين باكون، وفيلم «جراي جاردنز» الذي سبق فوزه بجائزة «إيمي» وينتظر فرصة أخرى للفوز بالجولدن جلوب التي سوف تعلن مع بداية الربيع المقبل!
أما جائزة أفضل ممثلة في فيلم تلفزيوني فتتنافس عليها كل من شيرلي ماكلين، وسيجورني ويفر، ودرو باري مور، وجيسكا لانج عن أدائها الرائع في فيلم «جراي جاردنز»! بينما تم ترشيح الممثل الإنجليزي» بريندان جليسون «لجائزة أفضل ممثل على تجسيده لشخصية ونستون تشرشل، في فيلم «في قلب العاصفة» وينافسه على الجائزة كل من «كيفين كلاين «عن دوره في فيلم «سيرانودي بيرجراك»، و«إيان ماكلين» عن دوره في فيلم «الملك لير».
سيرتان ذاتيتان وفيلمان
أحب هنا أن أتحدث عن فيلمين أراهما الأكثر أهمية، بالإضافة لأن كلا منهما يتناول شخصية أو شخصيات من الواقع، وهو ما نطلق عليه أفلام السيرة الذاتية، وهو تعبير خاطىء ولكنه متداول، الفيلم الأول عن شخصيتين لامرأتين «أم وابنتها» تحمل كل منهما الاسم نفسه «إديث بوفير بيل» ولايشكل الاسمان أي أهمية للقارىء العادي، ومع ذلك فهما حالة خاصة جدا، فالأم هي عمة «جاكلين كينيدي» زوجة الرئيس الأمريكي الأسبق «جون كيندي»! ولكن أهمية المرأتين لا تأتي من هذه القرابة فقط، فقد عاشت «إديث بوفير بيل» التي لعبت دورها الممثلة المخضرمة «جيسيكا لانج» في قصر ريفي أنيق في سنوات الستينيات، وكانت تحلم أن تكون مطربة كبيرة، وهي صاحبة صوت مميز فعلا، ولكن زواجها من أحد الأثرياء المتنفذين حال دون تحقيقها لأحلامها، فظلت تغني لضيوفها في قصرها الريفي، الذي كان يجتمع فيه نخبة من أبناء الطبقات الأرستقراطية، وقد وجدت الأم في ابنتها ضالتها المنشودة، فأطلقت عليها اسمها وعلمتها فنون الغناء والرقص، فانضمت إليها وأصبح الاثنان يشكلان ثنائياً فنياً، تقتصر دعروضه على ضيوف القصر الريفى الذي أطلق عليه اسم «جراي جاردنز»، وتفاقمت المشكلات بين الأم وزوجها الذي كان يكره الغناء، ويرفض ما تقدمه زوجته وابنته من عروض فنية منزليه، ووصلت الخلافات إلى حد الطلاق، وكنوع من الضغط النفسي، توقف الزوج عن الصرف على قصر «جراي جاردنز» بينما رفضت الأم أن تترك المكان الذي أحبته، وعاشت فيه أجمل سنوات عمرها، أما الابنة، فقد كان طموحها أكبر من أن يخنقه حبها لأمها، ففضلت أن تذهب مع والدها إلى مدينة نيويورك لتبحث عن فرصتها في الشهرة، والغناء على مسارح برودواي، ولكن نظراً، لقلة خبرتها بالحياة فقد وقعت في براثن، أحد أصحاب المسارح الاستعراضية وأقنعها أنه سوف يحقق لها الشهرة التي تحلم بها، ولكنه تخلى عنها بعد فترة وحطم أحلامها، ووجدت الفتاة أنها سوف تضيع في نيويورك، فعادت سريعا إلى حضن أمها، التي كانت على يقين، من عودة ابنتها دون أن تحقق شيئا من طموحاتها، العلاقة بين الأم وابنتها علاقة شديدة الغرابة، فهي مزيج من الكراهية والحب، الابنة تريد التمرد والابتعاد عن أمها ولكنها لاتقوى على الحياة وحدها أو احتمال تجربة فاشلة ثانية، تحتاج إلى حضن أمها وتتمرد عليها في الوقت نفسه، أما الأم فهي تتمنى إخفاق ابنتها حتى تظل بجوارها ولا تتركها أبدا! نتيجة الفشل والإحباط المتكرر تتعرض الابنة الشابة «تلعب دورها درو باري مور» لحالة نفسية عنيفه وتفقد شعر رأسها تماما حتى تصبح صلعاء، مما يضطرها لوضع أغطية رأس تخفي صلعتها تحتها و تمر السنوات على المرأتين وهما يعيشان بلاموارد مالية، وتسوء حياتهما الاقتصادية ويبتعد عنهما الأصدقاء، ويتحول القصر المنيف إلى خرابة، من القاذورات بعد اختفاء الخدم، ويعج القصر بأنواع مختلفة من الحيوانات، وجدت في القصر المهجور ملاذا لها، وهو مايضطر جمعيات حماية الحيوان من التدخل لحماية تلك الحيوانات وإبعادها عن القصر خوفا على حياتها، أما المرأتان فقد أصبحتا مثل النفايات المنبوذه، وتتناول الصحف والجرائد حال سيدة المجتمع السابقة «إديث بوفير» وابنتها التي تخطت الخمسين دون زواج، وهو الأمر الذي يدفع جاكلين كينيدي التي أصبحت جاكلين أوناسيس بعد زواجها من الملياردير اليوناني الشهير، للتدخل السريع حفاظاً على صورتها وسمعتها أمام وسائل الإعلام، وتقرر الذهاب إلى قصر «جراي جاردنز» الذي كانت تلهو في حدائقة وهي طفلة، لتكتشف أنه أصبح خرابة مهجورة وشديدة القذارة، فتتبرع بمبلغ ضخم لترميمه وإصلاح ما أفسده الدهر، كما تتبرع بمبلغ من المال لمصلحة عمتها وابنتها لحمايتهما من غدر الزمن، ثم تتركهما ولاتعود للمكان مرة أخرى، ويتقلب الحال بعد ذلك تماما عندما يزور المكان مخرج أفلام تسجيليه، يقنع الأم وابنتها بتقديم فيلم عن حياتهما، وتجدها الابنة فرصة ذهبية لتحقق أخيرا حلم عمرها بالظهور على الشاشة وتقديم بعض من استعراضاتها ومواهبها التي ظلت مدفونة لسنوات طوال، وفي عام 1975يعرض الفيلم التسجيلي عن «إديث بوفير بيل» التي كانت قد تخطت السبعين، وابنتها التي أصبحت في العقد الخامس، والغريب أن الفيلم يحقق لهما نجاحاً كبيراً، تستثمره الابنة بعد وفاة أمها وبيعها لقصر جراي جادنز، في إستئجار مسرح في قلب نيويورك لتقديم استعراضاتها رغم أنها كانت على مشارف الشيخوخة، وتعاني الصلع والترهل، ولكنها رغم كل ذلك لم تتوقف عن رغبتها وإيمانها بحقها في التعبير عن موهبتها ولو في نهاية العمر!
إذا كانت النجمة الشابة «درو باري مور» قد قدمت في هذا الفيلم أفضل أدوارها على الإطلاق، فأن الممثلة المخضرمة «جيسيكا لانج» قد تفوقت عليها في أداء دور الأم ببساطة ومعلمة واستحقت بذلك جائزة أفضل ممثلة، وعلق ناقد جريدة لوس أنجلوس تايمز على فوزها بقوله: إن الجائزة ذهبت للسيدة التي تستحقها! ويتوقع النقاد ترشيح كل من جيسيكا لانج ودروباري مور مرة أخرى لجوائز الجولدن جلوب!
بعيداً عن تفاصيل غير مجدية
في معظم المسلسلات التي نقدمها عن شخصيات عامة في مجالات السياسة أو الفنون، لابد وأن نبدأ الحكاية من أولها, أي منذ لحظة ميلاد الشخصية وحتى مماتها، وهذا مايستدعي الدخول إلى تفاصيل غير مجدية، لمجرد استهلاك الوقت حتى تصل حلقات المسلسل إلى الثلاثين، وأحيانا يضطر الكاتب للحديث عن أهل الشخصية وجيرانها أو اختلاق أحداث لزوم الصراع الدرامي، أما الغربيون فهم يميلون للتركيز واحترام قيمة العمل سواء كان فيلماً أو مسلسلا تلفزيونيا، وعن اللحظات الفاصلة في حياة وينستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية تدور أحداث الفيلم التلفزيوني الرائع في قلب العاصفة، للمخرج «ثاديو أوسوليفان» حيث يقدم الممثل الإنجليزي الأصل «بريندان جليسون» شخصية تشرشل بمقدرة فائقة، يستحق عنها الترشيح لجائزة أفضل ممثل، ويصور الفيلم حالة التوتر والصراع الذي خاضه تشرشل لحماية بلاده من ويلات الحرب، ويرفض أن يسلم لندن للقوات النازية، كما حدث مع باريس، ويقيم تحالفا مع الرئيس الأمريكي «روزفلت» والروسي «ستالين»، للوقوف ضد تقدم جيوش هتلر، أما الصدمة التي كادت تقصم ظهر تشرشل فهي سقوطه في الانتخابات التي أجريت بعد انتهاء الحرب، فقد كان يعتقد أن الشعب الإنجليزي سوف يذكر له، حكمته ودوره في انقاذ البلاد من الخراب، وعندما يشتد به الحزن تدعوه زوجته الوفيه للخروج من حالة الإحباط التي يعيشها والذهاب إلى إحدى المسرحيات، ومن أجل إرضائها يذهب مرغما للعرض المسرحي، وعندما يدرك نجوم المسرحية وجوده بينهم يقدمون له التحية، الواجبة وتضاء أضواء المسرح لتقف الجماهير وتصفق تحية له، مما يجعله يتسعيد الثقة في نفسه ويدرك أن الجماهير لم تتخل عنه كما كان يعتقد، وتنتهي أحداث الفيلم عند تلك النقطة، أما الأحداث الحقيقية فقد استمرت ليعاد ترشيح تشرشل مرة ثانية لرئاسة مجلس الوزراء في الخمسينيات من القرن العشرين! ويمتاز الفيلم بالإضافة لروعة اختيار أكثر اللحظات أهمية في حياة تشرشل بالاهتمام الشديد بجميع التفاصيل الخاصة بإعادة الزمن من حيث هندسة الأبنيه والملابس والسيارات وأنواع الاسلحة، حالة من الصدق الفني ترفع من قيمة العمل وتجعل المشاهد يحترم الجهد المبذول إنها دروس مجانية لصناع الدراما التلفزيونية «العربية» ولكن من يسمع ومن يقرأ؟.