مختارات من:

صقلية الإسلامية.. اندثار الأثر ونحيب النخيل

إبراهيم المليفي

مثلت جزر حوض البحر الأبيض المتوسط للقوى العظمى التي تطلعت لتوسيع رقعتها الجغرافية محطات صغيرة بغية الوصول إلى الضفاف الأخرى، فمن يملك البحر يملك معه خطوط التجارة البحرية.

وتحولت جزر صقلية وقبرص ومالطا وسردينيا وكورسيكا وغيرها مطمعا تعاقب عليه المستعمرون لفرض الهيمنة البحرية وسرعة الوصول إلى المناطق البعيدة بأقصر الطرق وأقل التكاليف. وكبرى تلك الجزر وهي صقلية، تحولت إلى محطة مهمة للفينيقيين والإغريق والرومان والبيزنطيين والمسلمين الذين جعلوا منها حلقة ثانية بعد الأندلس للتواصل الحضاري مع أوربا في العصور الوسطى بعد أن وطنوا فيها حضارة عظيمة ظلت متوهجة حتى بعد زوال دولتها.

دعونا نبدأ بالأمر الذي لا يمكن إخفاؤه وهو الإحساس الذي يتملك كل زائر لصقلية للمرة الأولى، وهو الصورة النمطية المقولبة عن تلك الجزيرة كونها بلد المنشأ لعصابات المافيا، والتي تشكلت ومازالت من خلال ثلاثية فيلم العراب التي دخلت عش دبابير العائلات الإيطالية في مدينة نيويورك الأمريكية في أواخر أربعينيات القرن الفائت.

أفسحت أجزاء الفيلم الثلاثة التي عرض أولها في عام 1972م المكان والوقت لصقلية العصابات والثأر والتصفيات الجسدية المخيفة وروابط العائلة الإيطالية المتينة، خاصة في الجزء الثاني الذي سرى في شرايين البيئة الحاضنة للمافيا ونظام الطاعة داخلها والذي لا يختلف باختلاف المكان أو الزمان فما يحدث في نيويورك ليس سوى نسخة مما يحدث في صقلية بلد المنشأ.

وكثيرا ما تحدث معي بعض الصقليين بعدما عرفوا أني صحافي معبرين عن انزعاجهم الشديد من الصورة المخيفة التي ينظر بها العالم لهم وكأنهم قتلة يحملون المسدسات طوال الوقت، ورجوني أن أنقل لمن يقرأ كلماتي مدى الغبن الذي كونه فيلم العراب عنهم، وأكثر ما يزعجهم هو بحث بعض السياح عن منازل عائلة كارليوني التي لعب دور زعيمها أشهر الممثلين مثل مارلون براندون وآل باتشينو. ومن أطرف ما سمعت هو دهشة أهل صقلية من الذين يبحثون عن حفيد كارليوني الذي يقال إنه لا يزال على قيد الحياة وهذا بالطبع شيء ليس له وجود.

أحد هؤلاء الصقليين وهو شاب في منتصف الثلاثينيات اسمه «سالمو» رد علينا بزفرة ساخنة وغضب مكتوم بعد أن قلت له إن شهرة فيلم العراب السلبية عنكم جلبت لكم موردا لا ينضب من السياح بالقول: لا نريد هذه الشهرة التعيسة ففي هذه الجزيرة الكثير من المعالم التاريخية والآثار الخالدة ما يكفي لتعريف العالم بنا بصورة أفضل. وبعد هذا الكلام المقنع كنت أتوقع تبدد صورة صقلية النمطية في اليوم التالي, ولكن المشكلة التي واجهتها هي أخبار المساء في التلفزيون وصحف الصباح التي تنقل يوميا سقوط قتيل أو أكثر في مواجهات بين عصابات المافيا الصقلية، وبالرغم من أني لا أجيد الإيطالية فإن الصور أبلغ من الكلام، والعناوين الرئيسية لم تكن تخلو من كلمة مافيازو.

دهشة كاتانيا


ذكرت صقلية والهوى
يهيج للنفس تذكارها
فأين كنت أخرجت من جنة
فإني أحدث أخبارها
(ابن حمديس الصقلي)


كانت مغامرة أن نذهب إلى مكان لا نعرف عنه الكثير فقد تركنا إيطاليا بأكملها وتوجهنا إلى أكبر جزرها متجاهلين العاصمة الإدارية وهي باليرمو أو بلرم لنحط الرحال في كاتانيا التي جعلناها قاعدة تحركإتنا للمناطق المحيطة بها وهي سيركوزا وتارومينا والرحلة المثيرة إلى جبل «إتنا» الذي أسماه العرب جبل النار بعد أن روعهم منظره، والقصص التي حكيت لهم عن تاريخه الثائر في زمن وجودهم في تلك الجزيرة.

كاتانيا وهي مستعمرة إغريقية قديمة مدينة مدهشة لرفيقي المصور أكثر مني كونه زار باليرمو من قبل، ولم يجد فيها بعدسته النهمة ما يستحق التصوير أما كاتانيا فكانت له بمنزلة صيد وفير مهما أصبت منه يبقى الكثير، وبالنسبة لي فلم أجد في عمارة تلك المدينة وحيوية ناسها ما يختلف كثيرا عن ضواحي باريس, مدينة النور والجمال فهي بحق تستحق لقب العاصمة الاقتصادية لجزيرة صقلية.

صقلية أو كما تنطق بالإيطالية سيسيليا هي امتداد للأراضي الإيطالية وكأنها ابنة ملتصقة بأمها. تبلغ مساحتها 25.710 كيلومترات مربعة وهي مقسمة إلى تسع مقاطعات من أهمها باليرمو العاصمة وكاتانيا وميسينا وسيراكوزا وتتمتع بحكم ذاتي ضمن الجمهورية الإيطالية.

وطقس صقلية معتدل صيفا وشتاء وتلمست ذلك بالتجربة من فوق قمة جبل «إتنا» الشاهقة. فقد تمشينا على فوهة ذلك البركان في فصل الشتاء، ولم احتج إلى أكثر من بلوزة خفيفة أما رفيقي فاكتفى بقميص نصف كم والهواء يضربنا من كل ناحية، وأغلب أراضي الجزيرة جبلية ما عدا بعض الأراضي المنبسطة مثل سهل كاتانيا، وهي لا تشكو من قلة في الماء أو الأمطار. وكحال كل الجزر تشتهر سيسيليا بمطاعمها التي تقدم وجبات الأسماك بتفنن وسيرة البيتزا الإيطالية لا نكاد نسمعها هناك بمثل زخم الأسماك، مما يدلل على أن طبيعة المكان تفرض نفسها على عادات الناس وطبائعهم.

وأغرب ما سمعته عن الصقليين هو طباعهم الحادة واختلاف أسلوب حياتهم عن سكان ميلانو وروما، فهم للأمانة شرقيون في إسهابهم واستعمال أيديهم في الشرح، وأوربيون في ملامحهم وبرودهم النسبي. وأكثر ما لفت نظري هو إيثار أصحاب السيارات للمشاة وتركهم يعبرون الشارع قبلهم وأنا هنا لا أعني تقديرهم للسياح، وإنما لكل الناس، ولكنهم بالمقابل لديهم تفسير خاص لألوان إشارات المرور فالأخضر والأصفر عندهم سواء واللون الأحمر لا يعني التوقف دوما ففي الثواني الأخيرة من عمر الإشارة الحمراء تبدأ السيارات بالحركة غير عابئة بها ولا بما قد يحصل بسبب تجاوزها.

وتوجد بين الصقليين عموما وسكان المدن الإيطالية الشمالية نظرة ازدراء متبادلة. أما بين الصقليين أنفسهم فقد سمعنا أن أهل باليرمو يحسدون أهل كاتانيا على توافد السياح إليهم وكثرة العمران، ويبلغ الحماس مداه بين المدينتين عندما يتواجه فريقا باليرمو وكاتانيا في منافسات الدوري الإيطالي لكرة القدم أو الكاليتشو الإيطالي.

وآخر الدهشات هي المعلومة التي تأكدت بعيني من صحتها هي خلو هذه الجزيرة وربما كل إيطاليا من فلقة البدر الذي احتبس عنها وأمطر في أغلب مناطق أوربا، ولولا حسن القوام وبسمة الثغر لقلت إن صقلية هي مخزن قبيحات أوربا.

سرقوسة وطورمينه

تبعد سيراكوزا أو سرقوسة عن كاتانيا مسافة ساعة بالسيارة وهي مليئة بالمعالم الأثرية والتاريخية، وقد وصفها خطيب روما اللامع شيشرون بأنها أجمل المدن اليونانية على الإطلاق كونها أسست من قبل الإغريق، ويقطعها نهران هما: تشاني وأنابو. ومن أشهر معالمها المدرج الروماني وكاتدرائية سيراكوزا. أما تارومينا أو طورمينه فهي بلدة صغيرة تعيش أجواء أسطورية، كونها تعشش فوق تلة «تاور مونتي» وهي تقع بالجوار من منطقة جبل «إتنا».

صقلية.. الفتح والرحيل

يحسب فتح صقلية أسميا لدولة الخلافة العباسية التي لم تتمكن من توسيع رقعة بلاد المسلمين على غرار النموذج الأموي وانشغلت بالمهمة الأصعب وهي محاولة تثبيت ذلك الملك العظيم وتحصينه بالعلم والعمران والعسكر، ويسجل للأغالبة شرف فتح صقلية وهم أسرة عربية حكمت ولاية إفريقية في القيروان (800 م 909 م) وكان الخليفة العباسي هارون الرشيد قد أقلقه التمدد العكسي ضد العباسيين بعد ظهور الدولة الإدريسية العلوية في أقصى غرب المغرب، ولم يجد طريقة لإيقاف زحفهم سوى تولية شخص مقرب منه هو إبراهيم ابن الأغلب ولاية إفريقية في القيروان للتصدي للخطر الأدريسى وهجمات البربر مقابل أن تكون ولاية إفريقية ملكا له ولأبنائه تحت الهيمنة الاسمية للدولة العباسية، ونجح ابن الأغلب في مهمة تجميد التوسع الإدريسي بعد أن توصل معهم لاتفاق لا يعتدي بموجبه أي طرف على الآخر.

وتولى الفاطميون إدارة شئون صقلية بعد أن قضوا على دولة الأغالبة وقبلهم الأدارسة وكلفوا أسرة بني كلب بمسئولية الحكم المباشر لتلك الجزيرة، تحت مظلة الخلافة الفتية التي اكتسحت بلاد المغرب وأسست عاصمتها الثانية القاهرة بعد المهدية التي تقع في تونس اليوم.

وكانت محاولات المسلمين لفتح صقلية قد بدأت منذ عهد والي الشام معاوية بن أبي سفيان، عندما أرسل إليها القائد معاوية بن خديج الكندي عام 653م، ثم توالت المحاولات غير الجادة - حتى جاء الفتح الأغلبي.

وكانت صقلية ترزح تحت الحكم البيزنطي لمدة ثلاثة قرون، وقبل قدوم المسلمين إلى صقلية شهدت البلاد حالة من الغليان الداخلي لسوء الإدارة البيزنطية وتنازع قادتها حتى وصل الأمر بأحدهم إلى دعوة الأمير الأغلبي زيادة الله وهو الثالث في ترتيب الأسرة الأغلبية لغزو صقلية.

وقد تردد الأمير زيادة الله طويلا أول الأمر, فشل تلك الحرب كانت تحتاج إلى تجهيز أسطول بحري وخطوط إمداد لا تنقطع، وتحت إصرار من الفقيه المالكي أسد ابن الفرات بضرورة فتح هذه البلاد مادامت الفرصة مواتية، خضع زيادة الله وكلف الفقيه ابن الفرات وهو رجل شجاع ذو خلفية حربية بقيادة حملة فتح صقلية، وجهزه أمير إفريقية بعشرة آلاف مقاتل وسبعمائة فارس حملتهم سبعون سفينة.

واتجهت هذه الحملة في 14 يونيو سنة 827م لتخوض معركتها الرئيسية المسماة بلاطة التي انتصر فيها الجيش الأغلبي وفي العام التالي استشهد ابن الفرات، ثم توالى بعدها تساقط المدن الصقلية الواحدة تلو الأخرى وأولها باليرمو أو بلرم كما سماها العرب التي جعلها المسلمون عاصمة لهم وظلت بعض المناطق خارجة عن سيطرة الأغالبة إلى أن جاء الفاطميون ليكملوا تلك المهمة.

واتسمت الفترة الأولى للحكم الفاطمي لصقلية بالكثير من القلاقل والثورات نتيجة تعسف الولاة من ناحية، ورفض السكان المسلمين وأغلبيتهم من السنة التحول إلى المذهب الشيعي الإسماعيلي الذي كان هو مذهب الدولة الفاطمية، إلى أن جاء الخليفة المنصور بالله وهو الثالث في ترتيب الأسرة الفاطمية ونهج نفس خط الدولة العباسية بالاكتفاء بالسلطة الاسمية في بعض المناطق والعهد بإدارتها لوالٍ هو ملك في حقيقة الأمر لخلق الاستقرار الشامل المعزز لقوة الخلافة، وخاصة في أطرافها البعيدة ومن هنا جيء بالحسن بن علي بن أبي الحسن الكلبي ليكون أول والٍ لصقلية بعد السياسة الجديدة التي اتبعها المنصور الفاطمي.

وعاشت صقلية في نهاية الحكم الكلبي حقبة قصيرة شبيهة بفترة ملوك الطوائف في الأندلس سرعان ما اندثرت ولكن ليس لمصلحة قوة إسلامية مثل المرابطين، ولكن إلى النورمانديين الذين خلفوا المسلمين وكان عهدهم، لحسن الحظ مليئا بالتسامح، في ظل الملك روجر الأول ( 1092م 1101م) وابنه روجر الثاني (1101م 1154م) الذي قيل إنه كان يلبس ملابس المسلمين وقد انتهج الأب وابنه هذه السياسة المنفتحة مع المسلمين في عز الدعوة للحملات الصليبية التي امتنع الملك روجر الأول عن المشاركة فيها، وظل التأثير العربي والإسلامي في صقلية فارضا وجوده ضمن الإدارة الجديدة.

جبل «إتنا» .. جبل النار

إتنا هو جبل بركاني يعد الأنشط على مستوى العالم، حيث سجلت له ما يقارب الأربعمائة ثورة بركانية منذ عام 475 قبل الميلاد، وهو يقع على الساحل الشرقي من صقلية ويبلغ ارتفاعه حوالي 3323 مترا فوق سطح البحر، ويعد «إتنا» اكبر البراكين في قارة أوربا.

و«إتنا» جبل ضخم تبلغ قاعدته 140 كلم تحيط به تربة زراعية خصبة. وفي عام 1669م قتل هذا البركان عشرين ألف إنسان يقال إنه بسبب زلزال واكب ثورته العارمة فكانت الخسائر في الأرواح مضاعفة وفوق إحدى القمم السفلية لبركان «إتنا» الذي يمنع الوصول لقمته النهائية شاهدنا بأم أعيننا حجراً عظيماً قذفه بركان «إتنا» مثل علبة كبريت خاوية ليستقر في مكان على تلك القمة. وقد شرح لنا قائد الرحلة أن المئات من هذه الصخور الطائرة لها تأثير مدمر لا يقل أهمية عن القنابل والمتفجرات.

وكان الظن أن لهذا البركان فوهة واحدة، ولكن خلال جولتنا شاهدنا عشرات الفوهات الخامدة، وهي في الغالب لا تنشط مرة أخرى لسماكة فتحاتها التي تغلقها الصخور والحمم في نهاية النشاط البركاني وعندما يتجدد ذلك النشاط فإنه يبحث عن النقاط الضعيفة في أماكن أخرى ولذلك تتكاثر الفوهات المتجاورة.

في طريق صعودنا بسيارة الجيب لاند روفر إلى الحد الأعلى المسموح به فوق جبل «إتنا» والغيوم تتكاثف من حولنا توقفنا عند مجموعة من المحطات السريعة التي لخصت لنا طبيعة هذا المكان العجيب والخطر، من بينها المنطقة التي تجمدت فيها صهارة بركانية لنتعرف على معنى ألوانها، فالصخور الأكثر سوادا تعني أنها الأحدث من آخر حمم قذفها البركان عام 2002. أما الأحجار البيضاء فتعني أن زمنا طويلا قد مر على خروجها من باطن الأرض، وبعد تلك المنطقة شاهدنا ورش عمل مفتوحة على مساحة كبيرة لتكسير الصخور البركانية وتحميلها في شاحنات لاستغلالها في عمليات البناء.

وبينما كنا نتحدث عن مخاطر العمل أو السكن تحت هذا البركان الخطر، بعد أن مررنا على الكثير من البيوت المسكونة والمحلات المفتوحة، ابتسم قائد الرحلة وقال: «قريبا سنصل إلى مكان ستجدون فيه الجواب الشافي عن كل تلك التساؤلات، وبالفعل توقفنا عند بيت مهجور طمرته الحمم البركانية، دخلنا إليه من الأعلى إلى الأسفل وتفحصنا حالته السيئة من الداخل، وهو مجرد مثال لمئات البيوت التي واجهت نفس المصير وأسوأ من ذلك، وكان هذا المرشد، يسخر من بعض الأفراد الذين يصرون بعناد على العيش تحت الخطر، إلا أنه استدرك قائلا إن من يسقطون ضحايا هذا البركان أغلبهم من السياح المغامرين والعلماء المخلصين الذين يأبون تفويت فرصة مشاهدة النشاط البركاني عن قرب، بالرغم من الجهود التي تبذلها قوات الشرطة في منع المتطفلين من الوصول إلى الأماكن الخطرة، ومن لم يمت حرقا بالانصهار مات بسبب الغازات السامة المنبعثة من باطن الأرض.

المحطة الأكثر إثارة هي دخولنا إلى الكهف المظلم الذي تشكل كفجوة داخل جبل «إتنا»، وقد لبسنا الخوذات الواقية المزودة بالإنارة الباهرة، ودخلنا من فتحة ضيقة لنعبر إلى جوف الكهف مسافة مائتي متر، وبالكاد كنا نستطيع الوقوف بشكل كامل طوال سيرنا ذهابا وإيابا، وقد شرح لنا قائد الرحلة أنواع المعادن وألوانها التي امتزجت بانصهار الحمم البركانية لتشكل أمامنا لوحة جيولوجية طبيعية لم يكن بإمكاننا رؤيتها إلا بالصور الفوتوغرافية أو عبر برنامج تلفزيوني وثائقي، وقد تعمد قائد الرحلة أن يفاجئنا برؤية أصدقائه النائمين في طريقنا داخل الكهف وهم عبارة عن خفافيش نائمة متدلية فوق رءوسنا وقد سمي كل واحد منها باسم خاص به.

وقبل أن نبدأ مسيرة العودة هبوطا أخذت بعض الأحجار الصغيرة من صخور بركان «إتنا» لتذكرني بهذه الزيارة الاستكشافية غير المألوفة.

التاريخ المندثر

لم تكن مهمتنا في جزيرة صقلية هي البحث عن حجر والبكاء عليه، كما يفعل بعضنا، كلما وقف أمام جامع قرطبة أو قصور بني الأحمر في غرناطة أو قنطرة روندة العظيمة، فما فات أصبح خلف ظهورنا, وزماننا هذا لا نطمع فيه بأكثر من الستر، ولكن ما أثار استغرابنا هو أننا وجدنا كل ما يشير إلى وجود من سبقوا العرب والمسلمين ومن جاء بعدهم على تلك الجزيرة، فأين اختفت آثارهم التي يفترض أنهم خلفوها بعد وجود دام قرنين ونصف القرن في صقلية؟ فهل كانوا طوال تلك الفترة يتبارون في إلقاء أفضل القصائد في محاسن الجزيرة الغنية بالماء والخضرة والقوام الحسن؟ أين القصور والقلاع والمساجد التي بنوها؟ والبيمارستانات والأسواق العامرة التي شيدوها؟ ويقدم الرحالة ابن حوقل في كتابه صورة الأرض، صورة عن قاعدة الجزيرة باليرمو عندما زارها في زمن الإدارة الكلبية، إذ رصد أكثر من ثلاثمائة مسجد وتنافس الناس على بناء المساجد وتسميتها بأسمائهم, وعدداً عظيماً من طلبة العلم، فأين ذهب كل ذلك؟، مع الأسف لقد وجدنا فجوة كبيرة في التاريخ الصقلي ولولا بعض الآثار في باليرمو مثل المسجد الجامع وبعض أسماء المدن مثل مارسالا ومعناها مرسى الله لقلنا إن تاريخ الوجود العربي والإسلامي حكاية ألفها روائي ذو خيال خصب.

لقد اندثر تاريخ الوجود العربي والإسلامي في صقلية تحت وطأة التعصب الديني والانغلاق الحضاري، ولم ينج منه سوى أشجار النخيل التي حملها العرب إلى تلك الجزيرة، التي لم تعرف هذه الشجرة من قبل، لتبقى شاهدا ينتحب على زمن اندثر ولم يبق به سوى القصص والأحداث المدونة في بطون الكتب.

إبراهيم المليفي مجلة العربي مارس 2010

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016