مختارات من:

ملامح ورؤى قراءة نقدية

إبراهيم عبدالمجيد

الكوني كاتب وروائي عربي من ليبيا له العديد من الأعمال القصصية والروائية. على سبيل المثال "جرعة من دم" "شجرة الرتم" ومن الروايات "خماسية الخوف". صدرت له رواية ضخمة من جزأين هي " المجوس" كما سبق أن صدرت له في العام الأسبق 1995 روايتان هما " نزيف الحجر" و "التبر" ومجموعة قصصية بعنوان "القفص".. وروايته الضخمة "المجوس" هي موضوع قراءتنا.

" تثير رواية "المجوس" عدة أسئلة لعل أهمها هذا السؤال: هل هي رواية عن الصحراء الليبية؟ أم عن قبائل الطوارق الشهيرة التي تعيش في المنطقة الممتدة جنوب الصحراء الليبية والجزائرية وشمال مالي والنيجر، حيث تقوم مدن مثل جات وغدامس وآير وأزجر وتربكتو التي تتردد أسماؤها كثيرا في الرواية؟. بالطبع سيجد القارئ أن الرواية عن الاثنين معا. الصحراء والطوارق، المكان والبشر في الزمان، لكن السؤال يصبح أكثر جوهرية حين تكون الإجابة أن الرواية عن الإنسان في مواجهة الطبيعة. صحيح أننا هنا أمام حالة محدودة، إنسان بعينه، هو الإنسان (الطارقي) إذا جاز التعبير، وطبيعة بعينها، هي الصحراء الليبية الجنوبية، لكن يظل المعنى العميق لهذه الرواية في أنها عن الإنسان في مواجهة الطبيعة. الإنسان الغفل، البدائي، مخلوق الفطرة، مع الطبيعة البكر، العذراء، التي لم يسبقها غير العدم. ونحن لا نجد هنا لحظتين، إنها لحظة واحدة أقرب إلى لحظة النزول من الفردوس، وصرخة الإنسان الأول حين أحس بالضياع وسط طبيعة لا ترحم. فبدأ من يومها يبحث عن الفردوس الذي ضيعه بيده. باختصار نحن هنا أمام لحظة دهشة طويلة من الإنسان أمام الطبيعة التي فرضت عليه ناموسها، وفرضت عليه من القيم ما يتسبب في موته وضياعه إذا حاد عن هذا الناموس. وأول ما يدهشنا من مظهر هذا الالتحام بين الطبيعة والإنسان هو الفاعلية التي تتوافر للطبيعة. فتميزها على الإنسان المحمل بالخطايا.

الرواية تتعامل مع طبيعة غفل وإنسان فطري، لذلك أمسكت بما يسمى في البحوث الأنثروبولوجية "بالأنيميزم" وهو مصطلح أطلقه الأنثروبولوجيون الأوائل مثل، تايلور وفريزر على تلك الظاهرة الواضحة التي تكاد تتمحور حولها حياة القبائل البدائية، وهي حيوية الطبيعة. إن الإنسان البدائي لا يرى في الجبل أو السهل أو الشمس ظواهر طبيعية، بل يرى فيها وفي غيرها قوة حيوية، ويتحول كل مظهر طبيعي عنده إلى شخصية لها حياتها وأحيانا ترقى هذه الشخصية- المظهر الطبيعي- إلى مرتبة الآلهة.

نسيج هذه الرواية كله من هذه الظاهرة، وهي ظاهرة في جانب منها فنية أيضا، ومن ثم تتيح للغة إمكانات أكثر شعرية.

إن الطبيعة في هذه الرواية شديدة الحيوية، ومن ثم فهي شديدة الفاعلية، على هديها تدور حياة الناس وفي قلبها يموتون في أدوار تراجيدية تتفق كلها في طقس أشبه بالعودة إلى الأصل- الأرض-، رغم اختلاف شكل طقس الرجوع هذا، وهو غالبا طقس موت، واختلاف أصحابه.

إن الخلاص الوحيد الممكن للشخصيات في هذه الرواية هو العودة إلى الطبيعة والذوبان فيها ما دمنا لا نستطيع الوصول إلى مدينة "واو" الآشطورية، وما دمنا تركنا "واو" الأولى حين ارتكب الإنسان الأول خطيئته الأولى. ولواو هذه سوف نعود بعد قليل بتفصيل أكبر.

ولا تبدو "حيوية الطبيعة" أو "الأنيميزم" في مجرد اللغوية، ولكن أيضا في تركيب بنيان الرواية فكما أن هناك فصولا للشخصيات هناك أيضا فصول "للريح" - القبلي- و "للبئر"- حلمة الأرض- و "لواو".. وهكذا.. بل إن الرواية تكشف عن سيادة ظاهرة الأنيميزم على شكل حياة شخصياتها منذ أول فصل من الجزء الأول، وهو الفصل المخصص عن "القبلي" أي الريح التي تأتي من الجنوب محملة بنيران الصحراء فتنشر الجفاف والرعب والموت على طول الصحراء. سيظل معنا الفرع من القبلي هذا على طول الرواية المكونة من جزأين كبيرين يقعان معا في حوالي تسعمائة صفحة. وإليك قليلا من الصور الأنيميزمية!!

"واصل القبلي رحلته بعد استرخاء أمهل فيه النجع أياما، فارتبك كل من تقاعس عن استغلال الهدنة ولم يتزود بحاجته.... ".

وكذلك "تشجعت السماء وتحررت من الحياء. زحفت في الظلمات والتحمت بالصحراء في طقوس العناق المحرم. ولا يحلو للسماء العاشقة أن تغازل الصحراء إلا بعد أن تجلدها في النهار بسياط النار كأنهما رجل وامرأة لا يطيب. لهما الحب إلا بعد تبادل صنوف العذاب، وكلما كان عراكهما بالنهار قاسيا أطاب لهما الالتحام في فراش الليل فيلفح أحدهما الآخر بالأنفاس الحارة. يتدفق في جسديهما الصهد والعرق. يتوقف الغبار ويركع القبلي يسود الصمت كأن الفناء قد حل".

أو " أنصتا للصمت والصحراء فأنصت لهما الصمت وانضمت الصحراء" وكذلك حين يقول عن جبل إيدينان حين تعلو هامته ريح الغبار:

" العمامة الشفافة التي يتقنع بها " إيدينان" الضال ازدادت قتامة ونزلت من البرج السماوي الأول إلى البرج الثالث فجرده القبلي من جلاله وغموضه وغطرسته وأجبره أن يتحلى بالتواضع ويتشبه بقرينه الجنوبي الأقصر قامة ".

وهكذا تتماهى الأشياء،. العناصر الطبيعية، مع الطبيعة الإنسانية، وكما أن هناك فصلا عن (القبلي) هناك فصل كبير رائع عن البئر " حلمة الأرض " كما قلت، والحقيقة أنه يجعل من الظواهر الطبيعية شخصيات إنسانية وإن بدت أكثر فاعلية حتى نكاد نعتقد أنها الشخصيات الرئيسية للرواية بحسب التقسيم التقليدي لشخوص الروايات.

وفاعلية الطبيعة هذه التي نتحدث عنها تظهر أكثر ما تظهر في الرواية حين يحيد الإنسان عن الناموس الموروث من الكتاب الأسطوري الضائع "آنهي" الذي ترد إليه كل كلمة مستخلصة من تجربة الحياة التاريخية الطويلة للطوارق. فالطارقي تحل عليه اللعنة إذا توقف عن الترحال، أو إذا بنى له بيتا بالطوب أو صنع سورا للنجع أو استقر في واحة أو قطع شجرا أو سمم الآبار أو مد يده إلى كنز مدفون أو طمع في حيوانات الصحراء الطليقة أو جرى وراء الذهب.

إن كل من اقترف شيئا من ذلك انتهت حياته نهاية مأساوية.. تقول الأميرة تينيري التي تورع حبها بين "أوخا" العاشق المتيم بها وبين " أوداد" المغني الضال مع " الودان"- الكباش- في الصحراء:

" أردت أن أملك رجلين ففقدتهما معا وفقدت كل الرجال معهما. الظمأ إلى رجلين خطيئة. من أراد أن يفوز بكل شيء لم ينل شيئا. وسبب الزلة هو تقيدي بوصية المجوس فهل ثمة أمل يا جبل؟".

لا أمل طبعا. لقد خرجت تينيري عن ناموس الصحراء منذ عشقت الاثنين، كبرياء أوخا ورقة المغني أوداد. لقد رأت أن الرجلين يحققان لها اكتمال الرجولة، المادة والروح معا، لكنها منذ فكرت أن تكون المرأة للرجال جميعا دخلت عالم المجوس، وكذلك منذ فكرت في الذهب. لذلك استحقت تينيري الموت غريقة تحت الجبل، في السهل مع انسياب المطر وليست تينيري هي الوحيدة التي ستسقط في الموت في طقس توحدي مع الطبيعة. لكن ذلك سيأتي بعد قليل. بعد "واو" وحديثها.

حديث "واو"

رواية مثل المجوس لا يمكن تلخيصها بسهولة، لكن يمكن تشريحها، وحتى هذا التشريح لا نستطيعه هنا إلا باقتضاب، لذلك أتوقف عند ملامحها المحورية الكبرى. فالأنيميزم بصورته الماضية ليس مجرد خاصية بدائية في العقل الإنساني، لكنه محور لمنظومة من العلاقات لم تظهر إلا في المجتمعات المشاعية القديمة قبل أن يفسدها الاقتناء، كما يفسد الذهب هنا سكان الصحراء. ومن الملامح الرئيسية في الرواية بعد ظاهرة الأنيميزم، الحديث الدائم عن "واو".

في الرواية تاريخ للمكان منذ دخله الإسلام، وقبله أيضا، وحديث عن الماضي الجميل لتمبكتو الشهيرة، وكيف آلت إلى الضياع بعد أن تحول أهلها إلى تجارة الذهب. وفي الرواية جغرافية وحديث عن المكان. سلسلة جبال أكاكوس والحدود مع الدولة المجاورة ولغة الهوسا وأسماء مدن شهيرة للطوارق مثل غدامس وغات وتمبكتو، المؤلف يضيف إليها صورا من الفن الصخري مما اكتشف في كهوف جبال تادرارت أكاكوس في جنوب الصحراء الليبية في العصر الحديث، وينقل لنا أحيانا نقوشا بخط "التيفيناغ" وهو رسم الخط الطارقي، ويضمن الرواية أحيانا بعض الحكم المصوغة شعرا بلغة حديث الطوارق المسماة "تاماهاق" مما يجعلنا نمسك أكثر بروح المكان والناس. وفي الرواية روح مخايلة لواقع جديد يتغلغل إلى المجتمع الطارقي واقع الذهب الذي يتسبب في تفسخ العلاقات القديمة، وأشكال الحياة القديمة حيث بدأ الزعماء يبنون المدن المسورة ويعملون في الزراعة في الوقت الذي تبدأ فيه روابط الناس في الانحلال بالطريقة القادرية المنسوبة للشيخ عبد القادر الجيلاني، وروابط الناس بالإسلام أيضا، فلا شك إذن أن يقوم في الرواية درويش عظيم هو الدرويش موسى يشغل حوالي ثلث صفحاتها.

الرواية إذن في أحد وجوهها مرثية للمجتمع الطارقي القديم، راصدة لخطايا إنسان الطوارق التي تفضي به إلى الموت وفي مثل هذه الحالات يكون طبيعيا أن يبحث الإنسان عن فردوسه المفقود. إن المجتمع القديم ينهار، لكن الجديد ليس هو الذي ينشره في أعماقه في الأقل، فيبدو الإنسان محملا بالخطايا لأنه لم يستطع الاحتفاظ بالمجتمع القديم، ويأخذ في نشدان الفردوس الضائع الذي هو بمثابة الخلاص من كل شيء، والذي هو هنا مدينة المدن وأجملها المسماة " واو ".. عن "واو" هذه تتناثر الفقرات ويطل الحوار في اللحظات الصعبة ويعطيها المؤلف فصلا كاملا، وأكثر من يردد ذكرها هو الدرويش موسى كاشف أسرار أرواح القبيلة..

"واو في صدر كل مخلوق. واو الأخرى التى نبحث عنها في الصحراء الأبدية ".

" لو لم توجد " واو " في مكان ما، يوما ما، لما كان للصحراء معنى. لما كان للحياة معنى. واو. واو هى العزاء".

ونجد تبسيطا لواو أكثر في كلام الدرويش..

" كلما توغلت في الجوع أحسست أني أقترب من يوم الميعاد في واو"، "فكأن واو إذن نوع من المجاهدة الصوفية.

"واو ليست بستانا فقط، وليس الصمت لغتها الوحيدة، كما أن الذهب ليس كنزها الوحيد. هذه واو الغوغاء".

" لقد خرج جدنا الأول عن "واو" الفردوس سعيا وراء الحرية وعندما خرج وعرف وضاع ووجد نفسه في الصحراء القاسية عاد على عقبيه ودق على بوابة السور، لكن الباب كان قد أغلق في وجهه إلى الأبد".

ومن النصين السابقين نعرف أن "واو" ليست في الحياة الدنيا على أي حال..

" إذا عجز الرجل عندنا في العثور على واوه نجده يهرع فورا ليبحث عن امرأة يدفن في أحضانها هزيمته. اليأس أمام واو هو الدافع الأول لعشقه النساء".

" شقاؤنا راجع إلى سببين مختلفين. ضياعنا عن واو وضياع كتاب الهداية من أيدنان".

" وأيدنان" اسم أحد الجبال التي يزعمون أن كتاب الهداية الطارقي القديم كان محفورا على أحجاره بلغة التيفيناغ لكنه اندثر مع الزمن كما قلت. إن الشذرات السابقة، وغيرها بالطبع كثيرة، المبعثرة على جزأي الرواية تأتي دائما في اللحظات الحرجة للشخصية كنوع من الخلاص المنشود. إنها بالطبع إحدى تجليات الفردوس الضائع كموروث له وجهه الشعبي كما أن له وجهه الديني، وهي تتجسد حينا في الماضي البعيد الذي كان جميلا، أو في المستقبل المنشود الذي لا يأتي. هكذا يتفق أشخاص الرواية رغم اختلافهم، في أمر واو. الزعيم آده، والدرويش موسى، والمحارب أوخا، وأخماد، والنذير والعرافة. إلى آخر شخصيات الرواية.. ولكل من شخصيات الرواية حلمه الضائع الذي يفنى بسببه، وهو في فنائه يحقق "واوه" الممكنة فعلا. لكن الدرويش يكون أكثرهم معرفة إنه يقيم طقس التحاقه بالطبيعة بإرادته محتفلا به.. إن الطقوس سمة رئيسية أخرى في الرواية.

رواية طقسية

خايلني كثيرا طقس أوديب في كولونا وأنا أرى طقوس اختفاء شخوص الرواية المعذبة، آده، أوخا، أخماد، تينيري، والدرويش. رغم أن طقس أوديب كان فيه شيء من الشفقة، إذ الأرض نفسها هي التي انفتحت لتحتضنه فيها بعد ما حل في حياته من خراب، بينما تدفع الشخوص خطاياهم أو إراداتهم وماهم منذورون سلفا له.

وخايلني أيضا طقس اختفاء أورفيوس المغني بحثا عن حبيبته في أسفل الأرض، وأنا أتابع أوداد المتحد بالودان- كباش الجبال- ولا يكف عن الغناء والذي تعشقه تينيري، رغم أن الطقس هنا مقلوب إذ إن تينيري هي العاشقة بالأساس. ورغم هذه المخايلة، فالرواية بعيدة عن هذين الطقسين، في الوقت الذي تبدو فيه بحق رواية طقوس. فالمشهد الطارقي لا يزال به- ولعله لم يعد فيه غير هذا- أساطيره الموروثة عن التطهر من الآثام في الصحراء. وليس في الالتحام بالطبيعة هنا أي مظهر للخصوبة والنمو، لكنها طقوس خلاص وثيقة الصلة بالرغبة الدفينة في الوصول إلى "واو" أيضا.. ذلك معنى موت تينيري غريقة في مياه السهل تحت المطر، ومعنى موت أوخا على سفوح الجبال، ومعنى الطقس الغريب للدرويش الذي يستحق وقفة قليلا.. الدرويش موسى الذي يعرف كل أسرار القبائل يصر على أن يلحق نفسه بالطبيعة محققا شكلا من أشكال التناسخ والحلول. يقول عن نفسه: " أول أمري كنت طلحة في واد مهجور، فلماذا تدهشكم أبوتي للطلحات " ويقول أيضا " أنت لا تستطيع أن تتصور يا شيخنا كم عانيت من هؤلاء الأعداء عندما كنت طلحة وحيدة في الصحراء المهجورة". وهو لا يكتفي بكونه نباتا فقط بل هو أيضا وثيق الصلة بالريح، بالطقس، بالمناخ. يقول: "صدقني أن القبلي هو المسئول عن امتصاص الدم في عروقي " ويقول أيضا " في الشتاء يقتلني البحري ويجمد الدم في عروقي، وفي الصيف يقتلني القبلي ويمص الدم من عروقي ". ألا يكون هذا الدرويش الذي يشير إلى نفسه باعتباره " طلحة " يجمدها الشتاء ويمصها الصيف هو الصحراء نفسها نباتها ورمالها. جبالها وصخورها؟ الدرويش يصل في التوحد مع الطبيعة إلى الغاية، إلى كونه الطبيعة ذاتها. إنه يمثل أعمق حالات التوحد بين الناس والصحراء، لذلك يقيم طقس الإخصاء لنفسه، طقس انتفاء الحيوانية، طقس الالتحاق بالطبيعة الصماء. هكذا يتصرف هو الأكثر معرفة، بينما لا يجد الآخرون أمامهم إلا طقس الموت على سفوح الجبال فيبدون وكأن بهم نزعة الاستشهاد. لهذه الطقوس علاقة بواو المنشودة. فلا واو حقا إلا الصحراء. فالصحراء حرية ولا حرية إلا في الصحراء، ليس باعتبارها جنة، ولكن باعتبارها الجحيم نفسه فلو كانت جنة أو بستانا أخضر لكانت فردوس الدهماء والمجوس. هكذا يقول الدرويش ملخصا المسألة. واو إذن حلم يتحقق بطقس احتفالي بالموت أو الإخصاء أو الاختفاء في الجبال.

وتظل رواية المجوس محملة بالإمكانات.. إنها مجمع أساطير وخلاصة حكمة التاريخ للإنسان الطارقي، وهي بمثابة كنز مفتوح ترى فيه الإنسان والطبيعة في حالة بكر معا وجها لوجه. وبالطبع يستخدم المؤلف طريقة خاصة في تقسيم الرواية إلى أجزاء وأقسام وفصول وأجزاء الفصول، ويستعين على كل قسم بمقدمة شبه تعويذة أو رقية كاشفة، لكنها محتفظة بروحها الغنية من كتب التاريخ والتصوف، وتبدو لغة المؤلف محملة بدلالات كثيفة: شمس وغبار ونور ونار وسحر أيضا. على أن من الملامح الرئيسية للكتابة عند المؤلف الحكمة، أو استخلاصها والبدايات.

استخلاص الحكمة والبدايات

الحكمة في الأدب أول ما يتجنبه الأديب. لكن الآداب العظيمة هي التي تقدم العبر العظيمة أيضا. رواية المجوس مجمع للحكمة الإنسانية لكنها حكمة لا يسوقها الكاتب مدفوعا بتقديم صورة اجتماعية للناس، بل هي حياة الناس أنفسهم وهم في حالة الحركة والسكون معا. فضلا- بالطبع- عما تسوقه الشخصيات مما تبقى لديهم من كتابهم القديم الضائع " أنهى لا. هذا وجه آخر من وجهه رواية المجوس. ولأن الحكمة مستخلصة من الحياة والحركة لا يبدو فيها أي تزيد لغوي أو جمالي.

وتأخذنا اللغة والجمال إلى ملمح مهم هو بدايات فصول الرواية التي نستطيع أن نمضي منها من بداية إلى بداية وكل واحدة إما محملة بالنذر أو التوقع أو إثارة الانتباه أو الدفع بالقارئ إلى قلب القراءة بسرعة مذهلة. إنها بدايات موجزة نافذة نسوق إليك بعضها. " بعد أن ذاق اللقمة الحرام تسمم بدنه بالشهوة". هذه بداية تعود بالذهن فورا إلى آدم والخطيئة الأولى في إيحاء بما سيأتي بعد ذلك في الفصل كله.

"عقب عودته من رحلة طرابلس لم يعتزل في بيته أكثر من ثلاثة أيام". هذه أيضا تثير في الذهن ملمحا من ملامح النبوة قال تعالي: آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا

" كل القبيلة لاحظت بدهشة هذه البهجة"

"قيل إن غياب النذير هو الذي أبطل السحر..

" وبداية الرواية أفصح من كل كلام إذ يبدأ المؤلف فصله الأول بجملة:

" لن يذوق طعم الحياة من لم يتنفس هواء الجبال ".

ونحن ندخل بعد ذلك بين الجبال فتكون الرواية بحق مفعمة بالحياة في كل مظاهرها الجميلة وبالفناء أيضا.

إبراهيم عبدالمجيد مجلة العربي ابريل 1992

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016