الفن الإسلامي كسائر الفنون الملهمة أكبر من أن يكون عملية إنشائية تظهر فيها ملكات أصحابه الفكرية والعقلية أو مواهبهم الحسية والتعبيرية فحسب، فثمرة التأمل العقلي الأصيل أو الرؤية الروحية للعالم أو لحقيقة ما وراء الكون لا تتأتى إلا بالخروج بفن الإسلام من عالم المنظور والحس إلى عالم الرمز والحدس.
على خلاف الدراسات العديدة التي تتناول الجذور التاريخية للفن الإسلامي، تأتي هذه الدراسة للمستشرق السويسري تيتوس بوركار (1908-1984م) ليأخذنا إلى منحنى آخر يتعلق بجوهر ورمزية هذا الفن دينياً وفلسفياً وما يتصل به بمعناه الباطني العميق، ولقد كان لكتابات بوركار فضل عظيم في طرح المبادئ الأصيلة لفن الإسلام لأول مرة في الغرب الحديث، وطرح فكرة تزاوج الحرفة بالحكمة والاستئناس بهما في السعي إلى طرح أعماق هذا الفن، ويقدم لنا فن الإسلام كاشتقاق مباشر من مبادئ الوحي الإسلامي، فهو معروف بصفته واحداً من أعظم الشارحين للتصوف في الغرب وكتابه «مقدمة المذهب الصوفي والفن المقدس في الشرق والغرب»، بالإضافة إلى ترجماته عن ابن عربي وعبدالكريم الجيلي قد صارت من أمهات الكتب في هذا المجال، وهو ينطلق في حديثه من قلب التراث الصوفي ومن أعمق أغوار الحكمة ومكنه من ذلك سلطان لا يتأتى إلا بالتجربة الحية، فهو يجمع في ذاته بين كل المؤهلات الضرورية لتقديم فن الإسلام إلى العالم الغربي من جهة مغزاه الروحي.
يبدأ دراسته بباب تمهيدي عن الكعبة وذكر دورها المقدس وأهميتها المركزية التي تتجلى في فن الإسلام بالمعنى الحرفي، وعلى الأخص في عمارته، فهي لا تعتبر عملا فنيا بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، فما هي إلا مكعب من البناء لا أثر فيه للفن المعماري ينتمي إلى فن الأشكال الأولية ولكن الرمزية الكامنة فيه من حيث شكلها والشعائر التي ارتبطت بها تحتوي جنين كل شيء تناوله الفن الإسلامي بعد ذلك، فهي المركز كما هي الأساس لكل روحانية في الإسلام.
مولد فن الإسلام
لم يعرف الإسلام في مولده أي فن كان بمعنى الكلمة ولا كان قادرا على ذلك حيث كانت بيئته الأولى بدوية أو شبه ذلك، فمواجهة زهد البيئة العربية مع التراث الفني للحواضر التي فتحها الإسلام كانت الدافع إلى ابتكار فن يناسب الإسلام، ويمكنه من التجلي والتميز بين الفنون الأخرى، وهنا يمكننا التحدث عن «وحي ثانٍ» فتلك الكلمة الجليلة لا تحد من استخدامها التجليات الظاهرة الأساسية لآيات الله جل شأنه على الأرض مما يعني أن ولادة فن الإسلام تستحق تلك الصفة، إلا أن مسألة الفن أصبحت حقيقة جدا بعد المرحلة الأولى من الاستقرار في عهد الأمويين.
وتمثل ذلك في بناء قبة الصخرة في القدس في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان عام 688م، وهو أقدم أثر إسلامي محفوظ في حالة جيدة وينتمي إلى الفن البيزنطي إلا أنه كان أيضا عملا فنيا إسلاميا من حيث أشكاله الأساسية إن لم يكن من حيث تفاصيله، وقبة الصخرة مقدسة عند المسلمين؛ فهي ذكرى إبراهيم عليه السلام عندما صعد إلى جبل موريا ليضحى بابنه، ثم لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أسري به إليه ليلا، وجاءت قبة الصخرة لتحتضن هذا الموقع المقدس تحت قبة السماء الشاسعة عملا معماريا فريدا في فن الإسلام.
ولكن الحقبة الأموية لم تنتج لنا سوى فن دنيوي، ويفسر لنا بوركار انحطاط الفن الأموي في تلك الفترة بأن الإسلام كان في طور التشكل واحتياج الخلفاء إلى إحاطة أنفسهم ببهرج معين ونرى ذلك في أعمال الفن التي تزين خيام الصيد أو مقار الشتاء لأمراء بني أمية عبارة عن رسوم ساسانية وهللينية أو منحوتات قبطية وفسيفساء رومانية، ومن القصور التي بناها الأمويون على مشارف الصحراء للسكنى قصر الحير وقصر عمرة والمشتى، ومعمار هذه القصور يشبه قصور الكاسترا الرومانية والقصور الساسانية، إلا أن بها عنصرا جديدا يبوح بفن الإسلام في بعض التفاصيل والزخارف على الأخص، حيث تظهر تدريجيا إيقاعات زخارف هندسية تحاكي التداخلات التي على شكل صلبان معقوفة بين التكوينات التقليدية، وأصبحت هي الموضوع الرئيسي بدلا من أن تبقى مجرد أفاريز زخرفية مكررة، وتعتبر الواجهة المنحوتة لقصر المشتى أكثر الأعمال لفتا للانتباه في فن الأمويين الدنيوي وقد نقلت هذه الواجهة بكاملها إلى متحف القيصر فريدريك ببرلين، وفن قصر المشتى كما يقول بوركار لم يبلغ بعد أن يكون فنا إسلاميا، ولكنه أقرب إلى أن يكون امتدادا من التراث السكندري يمتد إلى عالم الإسلام في شكل عربي، كما أنه يتنبأ بشكل ما بفن الإسلام الصرحي، وخاصة فيما يتعلق بتزاوج مستويات عديدة أو درجات من الزخارف، مثل النحت البارز للجصيات الضخمة، أما الطريقة التي تظهر بها المثلثات الزخرفية والحليات الهندسية على واجهات أبراج القصر، فهي نبوءة لفن الإسلام في القرون التالية وخاصة للفن السلجوقي.
يتعرض بوركار بعد ذلك لمسألة التصوير في الإسلام، فتحريم الصور ينطبق على تصوير الإنسان وذلك بدافع الاحترام للسر الإلهي الكامن في كل مخلوق، وهكذا أصبح تصوير الرسل والأنبياء مجتنبا، بسبب الاحترام الذي يوحي به عدم جواز تشكلهم، فهم رسل الله على الأرض وفي الحديث النبوي «إن الله خلق آدم على صورته»، وذلك التشابه بين الله والإنسان يصبح جليا بشكل ما في صور الأنبياء والرسل، ومصطلح اللاأيقونية هو المناسب هنا وقد أصبحت بشكل ما التزاما تجاه المقدس والأساس الأول للفن الديني في الإسلام، ومسألة تحريم الفن التشكيلي أو احتماله يؤدي بنا إلى نتيجة أنه من الممكن أن يتعايش في عالم الإسلام شريطة ألا ينسى حدوده المشروعة، ولكنه سوف يلعب دورا هامشيا فحسب، ولن يشارك مباشرة في الثروة الروحية للإسلام، ومن هنا لا يمكن أن يكون فن المنمنمات الفارسية فنا دينيا للأسباب آنفة الذكر، ولكنه يشارك بدرجة ما في تحقيق مناخ روحي معين، ولم تظهر المنمنمات الفارسية إلا في عهد خانات المغول بالتحديد عام 1256م، ورسمت على غرار التصوير الصيني وما يتميز به من مزج بين الخط والرسم، وتبع ذلك احتفاظ فن المنمنمات بخصائص اختزال الفضاء إلى سطح، والتنسيق بين الشكل الإنساني والمشهد الطبيعي، في حين اختفت لمسات الفرشاة الدقيقة الجريئة ليحل محلها الخط المستمر الدقيق المرسوم بالقلم على غرار الخط العربي.
اللغة المشتركة لفن الإسلام
لقد حفظت اللغة العربية التراث العرقي للعرب خارج بلادهم، وانتقلت العبقرية العربية بشكل فعال على يد اللغة إلى الحواضر الإسلامية بكاملها، فاللغة العربية بدورها لغة مقدسة ترجع طبيعتها السحيقة إلى القدم، وكان الوحي القرآني هو ما جسّد مادتها القديمة، ولغة القرآن لها حضور كلي في العالم الإسلامي، فحياة المسلم بكاملها مليئة بصيغ قرآنية تترد في الصلوات والدعوات والابتهالات التي اشتقت من الكتاب الحكيم، وتعمل حضورية القرآن وشموليته كترددات روحية تحدد الصيغ والموازين في فن الإسلام، ولكن الصلة الأعمق بين فن الإسلام والقرآن لا تكمن في شكل القرآن بل في حقيقة جوهره التي لا شكل لها، ونعني بفن الإسلام هنا الفنون التشكيلية التي تعكس على المستوى البصري جوهر جوانب معينه من التوحيد.
ومن الأمثلة على ذلك فن الخط العربي وهو أكثر فنون الإسلام عروبة وأنبل الفنون قاطبة، فهو يجسد شكل الوحي الرباني في القرآن، وهو أكثر الفنون انتشارا بين المسلمين، ويحتاج المرء إلى الألفة مع أشكال الخط وطرزه حتى يتابع الأطوار الكاملة لهذا الفن، وخاصة في أشكاله الزخرفية في المعمار، والتي تحكمه الأقوال المأثورة والحكم إلى حد بعيد. وقد تم تزاوج بين الخط العربي وفن الأرابيسك في الزخارف المعمارية وفن الكتاب، والأرابيسك يشتمل بمعناه الواسع على الزخرفة بتضفير الأشكال النباتية والهندسية، والأرابيسك النباتي مشتق من صورة الكرْم، الذي تتشابك أوراقه وتتفرع كي ترجع إلى نفسها وتستسلم بشكل طبيعي للغاية للأسلوب الزخرفي في تموجات حلزونية، والكروم قد شكل كثيراً من الزخارف في الآثار الإسلامية القديمة، خاصة قصر المشتى كما نراها أيضا في زخارف الموزايكو بمسجد قبة الصخرة وعلى محراب الجامع الأموي في دمشق.
ونجد اجتماع الإيقاع والهندسة في المساحة يتحقق في شكل فراغي تماما في عنصر من العناصر النمطية في العمارة الإسلامية وهو «المقرنصات» وهي دعامة الركن في بناء القبة وهي على شكل حنية مخروطية أو نصف قبة وتكرر بالطريقة التي يبنى بها عش النحل، وتتميز المقرنصات بصفة سكونية وإيقاعية كما يتجلى بوضوح في التعبير عن العلاقة بين القبة والقاعدة، أو بين الكرة والمكعب كي يعود بها إلى علاقتها الكونية، والتي ليست سوى السماء والأرض، فتتصف السماء بحركتها الدائرية الأزلية، وتتصف الأرض بالطبائع الأربع من حار وبارد ورطب ويابس، وبنية المقرنصات التي تصل بين القبة والقاعدة هي صدى لحركة السماء تتجلى في مرتبة العالم.
الوحدة في فن الإسلام
إن الخصائص الروحية في الإسلام جعلت الفن يحمل طابعا موحدا، ففن الإسلام يضم في ذاته عدة طرز، وكل منها متميز عن غيره بوضوح، ويعبر عن بيئة اجتماعية معينة، ولكن ليس هناك طراز من بينها يمكن أن يكون إسلاميا بدرجة أكبر من غيره، وهذا مثال فذ على التنوع في الوحدة. ويوضح بوركار ذلك بأن قوة أي فن ديني على الاكتمال نابعة من الطبيعة اللامتناهية التي لا تفرغ لغايته أو مثاله الأعلى، والحق أنه لا يحتمل أن يوجد شكل من أشكال التعبير يستطيع أن يعبر عن المثال الروحي في الإسلام بالتفصيل، وتتميز كل الفنون الدينية بحب الصياغة أو تركيب الأشكال، وفي حالة الإسلام فإن علينا أن نتأمل في العمارة والزخرفة للبحث عن هذه الصيغة أو النموذج الأصلي، والذي يكرره الفنان بلا كلل وينوعه حسب الحال، وهذه النماذج الأصلية لا تنفد لأنها حقيقية.
ويقدم لنا وصف بعض الأمثلة المقارنة في العمارة يكاد يكون كل منها تركيبا لطراز مختلف، مثال الجامع الكبير بالقيروان وهو أول المساجد في المغرب الإسلامي، وترجع هيئته الحالية إلى عام 836 م، فالرحبة الواسعة للمصلى يغطيها سقف مستوٍ على عقود، يفتح إلى الخارج ويمتد طوليا على محور المحراب، ويتأكد هذا المحور بقوة من ناحية ببهو المنبر الذي بني على منسوب أعلى، ومزين بقبة في كل ناحية منه، ويتأكد ثانيا على الجانب الآخر بالمئذنة الرصينة وهي مدرج ثلاثي، ربما كانت من أقدم المآذن التي تعيش حتى الآن ومحراب مسجد القيروان العظيم هو واحد من أقدم المحاريب المعروفة، ويتميز بتحدبه التام ويقوم على جانبيه عمودان يحملان العقد البارز، وكسيت حوائط المحراب ببلاطات رخام منحوتة ومفرغة تشكل ساترا يكاد يبين منه الحائط الخلفي، ويعلم الزائر لهذا المسجد أن تلك الزخارف تخفي المحراب الأصلي الذي كان يصلي فيه الصحابي الجليل عقبة بن نافع.
النموذج الثاني هو مسجد قرطبة الجامع وهو أنقى نماذج المعمار العربي، ويحتوي جامع قرطبة على فناء ومصلى، ترتكز أسقفه الطويلة على أعمدة على مستويين، والأعمدة ليست جزءاً من حائط ولكنها اختزلت إلى أعمدة وعقود دون أي بناء، وتقاطعت العقود الناتجة عنها بتصميمات ثرية غير متوقعة، وربما لم توجد سابقة على هذا القدر من الإدهاش في معمار الإسلام، في المزاوجة بين السكونية والشكل الإيقاعي الذي يتجانس بعمق مع الروح الإسلامية، إلا أن التحفة التي تحتل الصدارة في الفن القرطبي هي المحراب، وقد أصبح تكوينها معادلة يرجع إليها الفنانون المغاربة على نحو دائم ليس لنسخها بطريقة آلية، ولكن لترجمتها بأفضل الطرق الممكنة وتطويعها لمقتضيات الحال.
وتأتي أهمية الدراسة في فتح آفاق جديدة أمام دارسي فن الإسلام فيما يتعلق بروحانية هذا الفن، حيث يلتقي الحب بالمعرفة والغاية القصوى المشتركة بينهما ليست إلا الجمال الرباني وهي أكثر الأبعاد حميمية في التراث، وغاية الفن هي جمال الشكل، في حين أن غاية التأمل هي الجمال الذي يكمن فيما وراء الشكل، وحين يبلغ الفن قرابة حميمية مع التأمل يستحيل إلى معرفة، فالجمال هو مظهر الحقيقة بالمعنى المطلق للكلمة، وليس الجمال جانبا قليل الأهمية من الحقيقة فهو يكشف عن الوحدة واللانهائية الكامنة في الأشياء.