"الرؤى والأدوات"
التمرس بالتراث والوقوف على آخر مستجدات الحديث هما الأداتان اللتان استعان بهما د.عبدالله المهنا عميد كلية الآداب بجامعة الكويت في دراسته القيمة كي تتاح له الفرصة للنظر المتأمل والفحص الدقيق لأكبر قدر من الشعر والشعراء والتدليل على تأثيرات أكبر محنة واجهتها الكويت في الشعر المعاصر.
لقد جاء البحث ذا صبغة متميزة، ولعل هذا هو الذي دفع جهات عديدة، أفرادا أو مؤسسات إلى إعادة نشره، ولكن المؤلف بما عرف عنه من شدة الالتزام بالحقوق رفض تجاوز الدورية العلمية التي نشر فيها فجاءت فكرة عرضه حلا معقولا يحفظ الحق لصاحبه، وفي الوقت نفسه لا يحرم تعميم الانتفاع به. ولتميز البحث فإننا، نضع بين يدي القارئ بعض الحقائق التي لها علاقة بما سنكشف عنه من سمات بارزة فيه، ونلخص هذه الحقائق في ثلاثة عناصر أساسية في شخصية كاتب البحث.
أولها: التأسيس التراثي، وساعد عليه أن المؤلف تلقى تعليمه في المعاهد الدينية، والدراسة في هذه المؤسسة تصقل فكر النابهين من أبنائها بأدبيات التراث وتجعل منهم متمرسين ممتازين يعرفون طريقهم إلى الجذور.
ثانيها: إجادة المؤلف للإنجليزية، وغني عن القول أن اللغات ضرورة في البحث العلمي، لأنها النافذة الشرعية للانفتاح على الثقافة الأوربية، والوقوف على مستجدات المناهج في النقد والأدب، والمؤلف حاصل على الدكتوراة من جامعة "كمبردج في بريطانيا، فإذا تعامل مع المصطلحات الجديدة في دنيا النقد والأدب، كان تعامله مباشرا ومسئولا، وليس مستعيرا من باطن المترجمين الذين قد يحسنون وقد يسيئون.
وهذان العنصران ثقافيان مكتسبان يكملان بعضهما بعضا، والذين أسعدهم الحظ ونالوا نصيبهم الوافر من التمرس بالتراث، والوقوف على مستجدات الحديث، هم الذين أفادوا على الوجه الأمثل.
ويتمثل العنصر الثالث في الموهبة .. وهي ضفة مركوزة في الطباع تنميها الثقافة وموهبة الدكتور عبدالله المهنا من النوع الهادئ المتزن تتولد منها سلوكيات متعددة وعلى رأسها الاناة والروية مما يسمح بطول النظر في النص، والصبر في الوقوف أمامه لاستنطاقه والكشف عن أسراره ودفائنه، وقد تجلت سمة الهدوء في أطيب مظاهرها في عفة المؤلف عن الجري وراء النجومية التي ولع بها كثيرون من النقاد وكانت مما يحسب عليهم لا لهم.
هذه العناصر الثلاثة تركت بصماتها واضحة في معالجة الدكتور عبدالله المهنا للشعر الذي قيل في محنة (الكويت)، على مساحة ست وثمانين صفحة ( من 8 - 94 )، تتيح الفرصة للنظر المتأمل والفحص الدقيق لأكبر قدر من الشعر والشعراء في هذا السياق.
الغزو وموقف المثقفين
تناول المؤلف في التمهيد جريمة الغزو العراقي في تحطيم القيم والمثل على مستوى الأمتين العربية والإسلامية، وعبر الباحث عن دهشته أمام وقوف قطاع لا يستهان به من المثقفين بجانب المعتدي، وهي دهشة في مكانها، لأن الحق لا القضية غير ملتبس، ومن هنا أخذ الباحث في بيان الأسباب التي جعلت هذا القطاع من المثقفين يسقطون في هذه الزلة الكبيرة، ولأن الباطل لا يمكن أن يسود بشكل مطلق أشار الباحث إلى الجانب الآخر من المثقفين الذين التزموا جانب الحق والمبدأ والأخلاق، ومنهم الشعراء الذين يخضعون لهذه الدراسة (10 - 15).
ثم أخذ البحث في تناول الظواهر التي واكبت المحنة، والظاهرة الأولى هي كشف الباحث عن الفراغ الذي كان يعانيه العقل العربى بعد خلو الساحة من حياة جمال عبدالناصر الذي ملأ الروح العربية وشحنها بالعروبة والوحدة قرابة عقدين، وتسلل صدام حسين خطوة خطوة ليسرق أحلام الجماهير، حتى يقوم بدور المنقذ والمخلص، وانطلت الخدعة كل الأغلبية الساحقة، حيث استغل أبشع استغلال مداعبة الأحلام العربية على جميع المستويات، ويقدر ما انطلت الخدعة بقدر ما كانت الفجيعة في جميع الشعارات التي تلاعب بها يوم انكشف القناع المشبوه في الثاني من أغسطس، وهي معان رصدها الباحث عند عدد من الشعراء الذين فجعوا في البطل المزعوم، وجعلهم ينكفئون ويأخذون شكل الردة عن قضاياهم، لا لفقدان إيمانهم بعدالة قضاياهم، ولكن لأنها خضعت للمتاجرة بها من أجل قضايا مشبوهة، لأن الذي تصوروه بطلا صديقا تكشف عن عدو مخاتل، أظهره الشعراء في أبشع الصور التي اختزنها التاريخ حيث رأيناه يتحرك في الأشعار بين: قابيل، وأبي لهب، ومسيلمة، وهولاكو ( 15 - 28 ).
ثم يرصد الشعر الذي يصور فظاعة الفعل العراقي المصاحب للغزو، وهي ممارسات عارية تماما عن أي وجه أخلاقي أو إنساني، مما يكشف عن دخيلة الغازي الذي لا قضية له غير اللصوصية والنهب والسلب، وفي سبيل ذلك لا يستنكف عن فعل أبشع صور القتل، حتى للأطفال والمرضى، وقد تناول الباحث هذه الأشعار بالدراسة والتحليل مستغلا عناصر الزمان والمكان مع المستوى الدلالي، وكيف التقت هذه العناصر في تفاعل حي مع "الأنا" يخلق من التفاعل القلق الإيجابي الذي يدفع إلى مقاومة الغازي المغتصب الذي كان رد فعله أكثر من أي صورة عرفها تاريخ الهمج والبرابرة، فزاد ذلك من حماس المقاومة بصورها المختلفة، وهي صور رصدها شعر المعركة، وهنا كان هم الباحث أن يرصد الظاهرة في مظانها أيا كان المستوى الفني للعمل الابداعي، لأن الروح العربية وصدق العاطفة وتوجهاتها ومسارها في العقلية الجماعية، هي مبتغى الباحث، الذي يجب ألا ننسى أنه إنسان مكلوم ومصاب في وطنه، أو يتحسس مواطن الاستجابة في جرحه العميق، وقد أخبرني بعد صدور العدد أنه تناول ثلاثة مستويات للأعمال الفنية ( 28 - 36 - 42 ).
دور المرأة الكويتية
ثم ينتقل الباحث إلى إبراز دور المرأة في معركة الكويت، حيث نظمت المرأة أول مظاهرة نسائية شجبت الغزو ونددت بمدبره، ودفعت من دمها نصيبها، وبرزت في هذا السياق شهيدات للوطن منهن: أسرار القبندي، وسناء الفودري، وسارة العتيبي، ولأن الباحث ملتزم بالروح العلمية في استقاء المعلومة من مصادر موثقة، يشير إلى أن الأخيرة لم يتم حتى الآن توثيق دورها البطولي، وإنما جاء بها لأن الشعر خلدها ووثق بطولتها، ولهذا لزم التنويه بالأمانة العلمية التي يتحلى بها الباحث ( 42 - 54 ).
يلي ذلك رصد الأسى على فقد الكويت لدى كثير من الشعراء، ولاسيما من عاشوا على أرضها يشاركون أبناء الوطن في صناعة حياة آمنه مستقرة وادعة ينعم بها الجميع ( 54 - 61). وهذه النقطة أحسها بعمق الكويتيون الذين كانوا بالخارج، أو الذين اضطرتهم ظروفهم إلى مغادرة الكويت إبان الاحتلال هربا من المطاردة التي كان يلاحقهم بها قراصنة الأوطان، وكان من الشعراء من لم يشعر بطعم العيد الذي وافى والوطن يرسف تحت نير الاحتلال، فعجت المشاعر المفعمة بحب الكويت. (61 - 96).
بعد ذلك يأخذ البحث في تحليل مواقف الشعراء من الكارثة، ويكشف عن صورة مهترئة لمفهوم القومية حين وضعت موضع الاختبار، ففي المحنة لم يقف مع الكويت إلا قلة من الشرفاء من أولئك "القوميين"، ولذا فإن بعض الشعراء ثاروا على هذه الشعارات وسخروا منها، لأنها وظفت لخدمة الطغيان، ويكون احتلال الكويت هو المسئول الأول عن هذه الردة الخطيرة، لأنه طعن الوعي الجماعي في أعز أمانيه، وتركه مشلول الإرادة (69 - 80).
وتعقب الدراسة بإيمان المخلصين والصادقين بعدالة قضية الكويت، ولذا لم يفقدوا إيمانهم بعودتها على الرغم من تصاعد الأحداث وتعقدها، فنجد منهم من يقسم على عودة الكويت، إيمانا منهم بالخير المطلق، يقينا بأن الشر لا يمكن أن يسود في عالم ترعاه العناية الإلهية (80 - 86).
وفي نهاية الدراسة الممتعة تأتي فرحة التحرير تحقيقا للنبوءة التي أرهص بها الشعراء (86 - 91).
تحليل الأفكار
ومن خلال هذا العرض للأفكار الواردة في البحث يتبين أن الخطة كانت محكمة ومنطقية وشاملة في الوقت نفسه، ونحن نشك في أي نظرة متعالية أو مدعية تستطيع إبراز فكرة لم تأت عليها الدراسة في الشعر الذي يتعلق بالقضية، إلا إذا كان من قبيل التعسف، ومع ذلك فإن هذه الإحاطة ليست إلا مفردة من مفردات الجودة في هذا العمل الأكاديمي الجاد، وهذا وإن كان شيئا مطلوبا يحرص عليه العمل العلمي، فليس هو الأمر اللافت للنظر، بل هي طريقة المعالجة والرؤية النقدية التي دخل بها الدكتور عبدالله المهنا لملاقاة النصوص، فقد زاوج بين طريقتين: الأولى تحليل الأفكار الواردة في النص الأدبي، والثانية: تسليط المفاهيم النقدية على النص، وتكمن الجودة في أن الباحث لو أفرد سرد الأفكار وحدها في جزء من الدراسة لكان شيئا مملا خاليا من الحيوية، فكانت الدراسة الفنية ملح الأفكار عند الامتزاج، فخرجت من برودتها، والمهم أن المزج بين الأسلوبين ليس من السهل لأي دارس، ومن يسلس له قياد الأسلوبين يكون قد أوتي خيرا كثيرا.
ومن مواطن الجودة التي تضاف لحساب الدكتور عبدالله المهنا مراوحته بين معطيات النقد قديمها وحديثها، وربما جاء في تقديمنا ما يشير إلى هذه الملكة ومكوناتها الثقافية، ولكن الذي يهمنا إبرازه هنا أن روح التواضع العلمي كانت ترفرف على فضاء البحث، فتشيع المصطلحات النقدية الحديثة في لغة الناقد دون أن يشعر القارئ بالتعالي أو الادعاء، وكان من ثمار التواضع أن قارئ الدكتور عبدالله المهنا يتابعه على غزارة المادة العلمية، فلا يتخلف عنه، ولا يتوقف ليسأل أين نحن الآن من النص، كما هو الشأن في بعض الدراسات الحداثية التي تشعر القارئ أول ما تشعره بضحالته من جهة، ثم تعمي عليه فيما بعد فلا يدري رأسه من رجليه.
ومن تمام النضج في العملية النقدية أن الدارس يختار من النظريات أكثرها صلاحية لموضوعه، ويكون المنهج الذي يستخدمه هو المنهج الأساسي للدراسة، دون أن يحجبه ذلك عن الإفادة من المناهج الأخرى إذا ما رأى فيها إضاءة نوعية تحتمها جزئية ما في دراسته، وهذا ما يبدو جليا في بحث الدكتور عبدالله المهنا، فإذا ما كانت التفكيكية معتمده الرئيسي، فإن المذاهب النقدية الأخرى كانت تطل برأسها عند اللزوم إذا ما استدعتها طبيعة النص.
ومن اللافت للنظر أن الدكتور عبدالله المهنا وهو يوظف النظريات النقدية يخلق لها سياقا طبيعيا، بحيث تجيء استعارته من الآخرين في مكانها من الدراسة، درن أن يشعر القارئ بأنها مجتلبة من الخارج، وكان بالإمكان أن يمر عليها القاري من غير أن يدرك أن هنا اقتباسا لولا الأمانة العلمية في إشارة الباحث إلى المصدر الذي امتاح منه، وطوعه لسياقه وطبعه بخاتمه، كالذي نراه حين يعرض بالدراسة لنص فيه حنين للمكان الكويتي: بحره، وجامعته الخضراء، وقصر السيف والحكمة التي تعلوه، فيعمد الباحث إلى حديث الذكريات ومساربها النفسية من خلال جماليات المكان، ويكون مدخله السلس إلى أحلام اليقظة كأروع ما صوره "غاستون باشلار"، هذا الفيلسوف الذي قضى ردحا من الزمن أستاذا للفلسفة، وخلع ثوب الحكمة في نهاية المطاف ليبدع إبداعه في جماليات المكان، مع مراعاة أن العبارة التي استعارها الدكتور عبدالله المهنا خطها الفيلسوف الفرنسي في سياق الذكريات البعيدة حيث يعيش بيت الطفولة داخلنا، ومع ذلك فقد طوعها بحنكة إلى سياقها في بحثه.
فأما بعد .. هل ترانا نجحنا في التحريض على مطالعة هذه الدراسة الممتعة؟ أو أننا ظلمنا البحث والباحث؟ أو أننا ظلمنا أنفسنا؟!.