رُؤَى وتيارات
تحت هذا العنوان اجتمع ما يزيد على خمسين مثقفا من مختلف الأقطار العربية ومن مختلف التيارات الثقافية في الفترة من 11 ـ 14 مايو 1997, ليقدم كل منهم قراءته لهذا العنوان.
وكانت المناسبة هي مرور ستين عاما على صدور كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" للدكتور طه حسين.
وقد قام بتنظيم المؤتمر المجلس الأعلى للثقافة بجمهورية مصر العربية. وجاءت أجيال من شباب مصر ورجالها, ممن يعنيهم أمر هذه الثقافة ومستقبلها, إلى قاعة مكتبة القاهرة الكبرى بالزمالك يلتمسون في ضوء كلمات هذه النخبة من المفكرين العرب معالم الطريق الذي يمكن أن تمضي فيه هذه الثقافة, جاءوا من واقع ينوء بالأزمة, يحملون في رءوسهم ما لا يعرف أحد من الأسئلة, فماذا وجدوا? وبماذا رجعوا إلى بيوتهم بعد ما استمعوا إليه, وشاركوا فيه من الحوار? وبأي قدر من الرضا أو من الغضب? من الأمل أو من الثقة أو من الحيرة?
تمنيت أن تكون الإجابة عن مثل هذه التساؤلات جزءا من هموم المؤتمر, في شكل استبانة توزع على الحاضرين والمشاركين ليجيبوا عن أسئلتها وقبل أن يتبخر الرضا والغضب, وقبل أن يتبدد الأمل أو الثقة أو الحيرة! ففيما أتذكر ليس هذا أول مؤتمر ينعقد ليناقش قضايا تتصل بالثقافة العربية, ولن يكون الأخير, وربما كان من أبرز التساؤلات التي ترددت خلال هذا المؤتمر داخل القاعة أو خارجها: أين نتائج المؤتمرات السابقة وتوصياتها? وكيف يتحقق التراكم والنمو والتعلم ما لم تكن هناك آليات لاستثمار جهود بذلت, واختبار مدى فاعلية أفكار تم طرحها, أو مدى قدرتها على إثارة أسئلة جديدة!?
كيف يغيب عن مؤتمر يناقش قضايا تمس الثقافة العربية شخصيات فكرية تمثل التيار الإسلامي الرافض للعنف مثل الدكتور أحمد كمال أبوالمجد والدكتور سليم العوا والدكتور فهمي جدعان والمستشار طارق البشري وغيرهم?!
ولماذا هذه الكثرة في عدد الجلسات "أربع جلسات في اليوم" لمدة أربعة أيام, فيضيق الوقت المخصص لعرض الورقة, والمخصص للحوار, أليس من الأجدى الدقة في اختيار من سيتكلمون في ضوء ما كشفت عنه خبرات المؤتمرات السابقة, وإتاحة فرصة أفضل لعرض الأوراق أو الأفكار وللحوار معها أو من حولها?! أمام الجمهور ومعه?! بعد أن تكون هذه الأوراق قد قدمت لمن يهمهم أمر هذه المناقشة?!
لقد كان رائعا أن نعيد النظر فيما قاله طه حسين منذ ستين عاما لنقيس خطانا على الطريق, فماذا بشأن ما قاله ربما عدد كبير من هؤلاء المثقفين أنفسهم منذ عقد أو عقدين من الزمان لنتأكد من أننا لا ندور في المتاهة ذاتها, ونردد الأسئلة نفسها?!
على كل حال لا نريد أن نبتعد عن جوهر الموضوع, وهذه الملاحظات تنبعث من تقدير لأهمية الموضوع ولما بذل فيه من جهد رائع وحرص على تحقيق رسالته البالغة الخطر والأهمية.
فما يحرص عليه هذا الاستطلاع بالدرجة الأولى أن يقدم لمن يعنيهم الأمر من قراء مجلة العربي, الذين لم يكونوا هناك في مكتبة القاهرة الكبرى بالزمالك منحنى لاتجاهات الأفكار والرؤى التي طرحت خلال هذا المؤتمر يقوم على اجتهاد كاتب هذه السطور في اختيار بعض الأبحاث والدراسات التى أتيح له فرصة الإطلاع على أصولها, والتي يمكن أن تمثل هذا المنحنى نوعا من التمثيل في حدود المساحة المحددة لمثل هذا الاستطلاع في مجلة العربي.
عنوان مراوغ
بالرغم من بساطة العنوان الخادعة "مستقبل الثقافة العربية" وحياده الظاهر, وما يلوح من أنه يترك لكل باحث أقصى درجات الحرية ليستجيب له بالطريقة التي تناسبه ودون أن يفرض عليه محوراً بعينه, فإنه بوضعه لكلمة المستقبل في بداية الجملة يشد أنظار الباحثين إلى فكرة المستقبل, وعندما يقدم أي باحث تصوره لهذا المستقبل فإنه سيشف بالضرورة عن تصوره للماضي وللحاضر, للأنا الفرد وللآخر, للذات القومية وللأقوام الآخرين, لمفهوم الهوية والتراث, ولمفهوم التقاليد ومعنى التقدم والنمو والتحديث والإبداع وقبل ذلك كله ومعه مفهوم الثقافة والمثقف ومعنى النمو والتطور بالنسبة للثقافة, ولابد أن يتحدث مادام الحديث عن المستقبل عما يعرف الآن باسم الكونية أو العولمة, وهل تتجلى فقط في السياسة والاقتصاد والعلم والتكنولوجيا? وكيف يكون تأثيرها في الثقافة سلبا أو إيجابا?!
وبسبب من هذا العنوان الذي ربما تم اقتراحه لتأكيد معنى الحرية حدث تكرار في كثير من الأوراق وبخاصة فيما يتصل بتعريفات الثقافة والمثقف, والتراث والعولمة.. إلخ, ومن هنا, وفي إطار ما يحرص عليه هذا الاستطلاع, فسوف نقدم خلاصات أمينة وافية لست أوراق تم اختيارها لأنها تمثل التيارات المختلفة التي سادت المؤتمر على النحو التالي:
* ورقتان تمثلان التيار الذي يرى ضرورة إعادة النظر في التراث لأن في هذا التراث ما يفيدنا في الرحلة إلى مستقبل الثقافة العربية, ولأن هذا ما يحدث في كل نهضة.
* ورقتان تقدمان رؤية نقدية لتجارب التحديث المعاصرة, وتبحثان عن الأسباب في أن هذه التجارب على اختلاف تياراتها وسبلها لم تحقق الآمال المنوطة بها في تحقيق النهضة.
* ورقة تقدم رؤيتها لمفهوم العولمة, وتأثيراتها في حاضر ومستقبل الثقافة العربية.
* ورقة تقدم رؤيتها لدور العلم في تأسيس ثقافة المستقبل.
الموقف من التراث
يرى الدكتور محمود إسماعيل "من مصر" في ورقته التي قدمها بعنوان "التراث وثقافة المستقبل" "مصر" لكي تصبح إعادة النظر في التراث حافزا للتطور والتقدم فلا مناص من أن تتم هذه المراجعة للتراث في شتى جوانبه "الديني والفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والشعبي" وأن تتم هذه المراجعة بروح نقدية قادرة على المصارحة والمكاشفة والإقدام على نقد المتواتر, والجرأة في اقتحام "اللامفكر فيه" ونفض الغبار عن "المسكوت عنه", بهدف التوصل إلى معرفة موضوعية تؤهل لإذكاء الوعي "بالذات" و"بالآخر" في آن معا.
ثم يشير الدكتور محمود إسماعيل إلى أن العودة إلى التراث حقيقة تاريخية شهدتها سائر التجارب الإنسانية في كثير من الأمم, وبخاصة حين تواجه الشعوب والمجتمعات تحديات معقدة.
ثم يؤكد الدكتور محمود إسماعيل على أن تجاوز التراث باسم الحداثة أمر غير مقبول معرفيا وواقعيا, فمن ناحية سوف يؤدي ذلك إلى انفراد التيارات الأصولية المتطرفة بالتراث لصياغة مشروعها المعوق للحداثة, كما يتيح الفرصة بالمثل للتيارات التغريبية بأن تمعن في تغريبها وهي تصوغ مشروعها المضاد. ومن هنا ولكي ننجح في صياغة مشروع متوازن وواقعي لمستقبل الثقافة العربية فلابد من قراءة خريطة الواقع الفكري الراهن بسائر اتجاهاته وتياراته وتوظيفها جميعا من أجل تخليق قاعدة فكرية مشتركة ومتفق عليها تجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل في وحدة عضوية تتيح مجالا للخصوصية والتعددية في آن.
وفي هذا الإطار يمكن الإفادة من بعض التجارب التراثية التي نجحت في إقامة نموذج حضاري أسهمت فيه سائر العناصر والإثنيات والملل والنحل, ويدلل الدكتور محمود إسماعيل على صدق رؤيته المستقبلية التي يدعو إليها بنظرة إلى التراث فيقول: "إن نظرة أمينة إلى التراث قمينة بوقوفنا على إيجابيات التعددية الإثنية والمذهبية في التراث فدور الفرس في تأسيس العلم في الإسلام في غنى عن البيان, وما قام به الأتراك في الفنون والعمارة الإسلامية لا يختلف عليه اثنان, والفضل في حركة الترجمة منوط بالسريان, ودور البربر في المغرب والأندلس لا يقل بحال عن دور المشارقة في تأسيس وازدهار الحضارة العربية الإسلامية, بل إن الفكر القومي الحديث يرتبط تاريخيا بجهود نصارى الشام".
أما ورقة الدكتور عاطف العراقي التي كانت بعنوان "نحن وقضية التراث الفلسفي العربي "فترى أن دائرة الفلسفة العربية يمكن أن تشمل ثلاثة تيارات, تيار المتكلمين أو الباحثين في علوم الكلام كالمعتزلة والأشاعرة, وتيار الفلاسفة ابتداء من الكندي في المشرق العربي وانتهاء بابن رشد في المغرب العربي وتيار المتصوفة سواء من مثلوا التصوف السني أو التصوف الفلسفي. ولأن كل تيار من هذه التيارات يختلف عن الآخر في مدى اعتماده على العقل, فإن الدكتور العراقي يرى أن الاتجاه العقلي عند الفلاسفة أكثر فائدة لنا من الاتجاه العقلي عند المعتزلة, فنحن لا ننسى أن المعتزلة حاربوا خصومهم في الرأي بشدة وعنف, لقد مارسوا التعصب والمفروض أن العقلاني لا يتعصب لرأيه, وإذا قيل بأن المعتزلة اتجهوا إلى العقل فهذا صحيح ولكنهم إلى حد كبير جدا قد حصروا العقل في دائرة تأويل الآيات القرآنية, وإذا رجعنا إلى معجم من المعاجم الفلسفية لن نجد من معاني المذهب العقلي قصر استخدام العقل على تأويل النص الديني, ومهما يكن من أمر فإن المعتزلة أفضل فرقة كلامية, وإذا تأملنا بعض ما لدينا من أسئلة الحاضر فإننا نقول لبقية الفرق الإسلامية وداعا.
ثم يقف الدكتور عاطف وقفة قصيرة عند أصل من أصول المعتزلة وهو أصل العدل وذلك حتى يكشف عن دور العقل في تراثهم وكيف يمكن بالكشف عن هذا الدور الاستفادة في عصرنا الراهن من هذا التراث.
لقد تفرع عن أصل العدل ذهاب المعتزلة إلى القول بحرية الإرادة الإنسانية, وإلى القول بالحسن والقبح العقليين كما قالوا بالصلاح والأصلح, لقد ترك لنا المعتزلة مئات الصفحات في كتبهم ورسائلهم التي تقوم على فكرة أن الله قد خلق لنا عقولا نستطيع بمقتضاها وعلى أساسها التمييز بين شيء يعد خيرا وشيء يعد شرا, شيء يعد حسنا وشيء يعد قبيحا, لقد قدم المعتزلة الكثير من الأدلة على أن الله تعالى قد أتقن كل شيء صنعا, وبينوا كيف يرتبط كل موجود بالموجود الآخر, فالعالم إذن لم يوجد عبثا أو مصادفة, بل إن الله تعالى قد خلق العالم على أحسن صورة ورتب العلاقات بين كل موجود والآخر ويتجلى ذلك في البحار والأنهار والمحيطات والنجوم والكواكب, ثم يشير الدكتور العراقي إلى ملاحظة تقول: "إن درجة الاقتراب أو الابتعاد عن العقل إنما يحددها مدى التزام المفكر أو ابتعاده عن التأويل", ثم يقول: سوف نجد اختلافا بين الفلاسفة والمفكرين حول قضية التأويل فابن سينا على سبيل المثال في دفاعه عن القول بأن "البعث" سيكون فقط للنفس أو الروح دون الجسم نجده يقوم بتأويل الآيات التي نجد فيها ذكرا للثواب أو العقاب الحسي الجسمي, وعلى العكس من ذلك نجد الغزالي ينقد موقف ابن سينا بل يذهب إلى تكفيره لأن الآيات الخاصة بالثواب والعقاب من الآيات المحكمات ومن هنا لا يكون من حق الفيلسوف ـ فيما يرى الغزالي ـ القيام بتأويلها.
تجارب التحديث
وتحت ورقة بعنوان "نحو ثقافة عربية جديدة ومختلفة" بقلم الدكتور محمد جابر الأنصاري "من البحرين" يرى الباحث أنه في عام 1938 أصدر طه حسين كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" وإذا كان لهذا الكتاب المثير للجدل من دلالة ومن موقع خاص في ديالكتيك الفكر والواقع في تاريخنا المعاصر, فإن مؤرخ الفكر يستطيع أن يلحظ في مفارقة دالة أنه بعد سبع سنوات من صدوره, ومنذ عام 1945 بدأ طه حسين في نشر فصول من كتاب مختلف بل مفارق تماما للكتاب الأول من حيث الموضوع والروح والتوجه وهو كتاب "المعذبون في الأرض" الذي صدر كاملا عام 9491 لتصادره الحكومة المصرية حينئذ بحجة مساسه بالسلم الاجتماعي.
في "مستقبل الثقافة" كانت رؤية طه حسين رؤية متوسطية عقلانية تربط جغرافيا وحضاريا بين العقل المصري والعقل الأوربي في أسرة واحدة منذ التاريخ القديم, وتنطلق من هذه المقدمة المحسومة لدى داعيتها إلى نتيجة حتمية, وهي "أن نسير سيرة الأوربيين, ونسلك طريقهم لنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها, ما يحب منها وما يكره, وما يحمد منها وما يعاب".
وفي كتاب "المعذبون في الأرض" 1949 يبرز بوضوح ـ بعد المخاض الاجتماعي العاصف للحرب العالمية الثانية ـ الوجه الآخر لمصر الوجه الأكثر واقعية وحضورا واستدامة على امتداد الوجه القبلي والريف النيلي الزراعي, وعبر الهجرة الريفية الكثيفة إلى المدن, المدن التي أرادها طه حسين في لحظة تاريخية من جديد, يحدث هذا في مصر, كما حدث في العالم العربي الإسلامي كله, زحف من الريف إلى المدينة, وكأن الريف يذكر المدينة بوجوده وبمعاناته المفتقرة إلى العدل وإلى التطور, وليعيد الريف في المدينة إنتاج مذهبياته ومسلكياته في أصوليات مازالت إلى يومنا هذا هي الأخطر والأفعل في واقعنا المأزوم, هكذا يصحو طه حسين من حلمه الليبرالي التنويري المتوسطي على هذا الكابوس الاجتماعي الماثل فيطلق صيحة أشبه باستغاثة جيل أشرف على الغرق ويتحول المصلح التربوي الهادئ في "مستقبل الثقافة" إلى محرض سياسي واجتماعي راديكالي في "المعذبون في الأرض" في غضون أعوام قليلة.
وهذه الاشكالية لا تقتصر على تجربة طه حسين وحده ككاتب فرد, وأنما تشمل قطاعا عريضا من فكرنا التحديثي ومازالت من أخطر, إن لم تكن أخطر المعضلات التي تواجه الفكر العربي والثقافة العربية على الإطلاق بين وعي نظري تجديدي يريد استباق الزمن والتعويض عن التخلف بأفكار ومشروعات مستمدة من تجارب العالم الحديث المتقدم, وبين قاع سوسيولوجي يشكل قاعدتنا الاجتماعية العربية وبناها المجتمعية المتوارثة بخصائصها المتعينة, وهي قاعدة لم تستجب نهضويا بعد لأي من مشروعات الإصلاح أو الثورة أو الصحوة المتداولة في عالمنا العربي الإسلامي جيلا بعد آخر ومحاولة بعد أخرى, ثم يؤكد الكاتب في ورقته على الفجوة بين التجديد الذهني في الثقافة والفكر لدى المثقفين وبين التخلف الراسخ المتفشي في القاعدة الشعبية العريضة التي لا يخاطبها ولا يعنى بها أحد.. وهذا ما تنبه إليه طه حسين عدنما كتب "المعذبون في الأرض" وقبله حسين هيكل عندما كتب "حياة محمد" وسلامة موسى عندما بشر بالاشتراكية ولكن خطاب هؤلاء جميعا كان يصب في شريحة صغيرة من المثقفين والمتعلمين, الثقافة العربية الجديدة المنشودة هي التي يتجه خطابها إلى القاعدة العريضة من الشعب, وهي القاعدة التي أجهضت محاولات النهضة الأولى العاجزة عن تمدين الريف والتي أدت إلى ترييف المدن.
ويقدم الدكتور تركي الحمد "من السعودية" في ورقة بعنوان "نحو إطار معرفي للثقافة العربية" نقدا أو فلنقل تقويما للتيارات الثقافية الثلاثة التي ظهرت بعد صدمة الغزو الأوربي للعالم العربي والإسلامي في القرن التاسع عشر.
التيار الذي ينادي بالعودة إلى الإسلام الصحيح, والتيار الذي ينادي بأن نأخذ بأسلوب الحضارة الأوربية في كل شيء لنصبح أندادا لهم في كل شيء والتيار التوفيقي "أفضل ما عندنا وأفضل ما عندهم".
يرى الدكتور تركي الحمد أن النهضة ـ أي نهضة ـ إنما تحدث كاستجابة ناجحة لأزمة حادة أو أزمات تواجه المجتمع أو الأمة, تعجز الحلول الجاهزة التي تملكها الثقافة السائدة عن مواجهتها, وشرط تحقق هذه الاستجابة الناجحة, أن تنجح الثقافة السائدة عند اكتشافها لعجز الحلول الجاهزة القديمة في عمل نوع من القطيعة المعرفية مع هذه الحلول الجاهزة, في الواقع أن الذي يقوم بهذه العملية هم المثقفون أنفسهم.. وفي الواقع أيضا أنهم يقومون بهذه العملية في عقولهم هم, فالقطيعة المعرفية إنما تكون مع طرق تفكيرهم القديمة والتي كانت تنتج الحلول الجاهزة السائدة والفاشلة في مواجهة الأزمة, والنهضة في حقيقتها هي إعادة تشكيل للعقل وآليات عمله في المقام الأول, وهي نتاج لتحول معرفي أولا تتحول من خلاله نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى مجتمعه وإلى الكون من حوله, والعلاقة التي تربط هذه الأشياء بعضها بعضا, وهذا هو لب الثقافة في التحليل الأخير.
والقطيعة المعرفية لا تعني البدء من الصغر, فذلك محال عمليا ولو كان ممكنا نظريا, ولكنه يعني إعادة تنظيم ما هو موجود وفق قواعد جديدة قائمة على نظرة جديدة بما يفسح المجال لإنتاج الجديد.
ثم توضح الورقة بأمثلة عديدة كيف حدث هذا في عصر النهضة الأوربي, وكيف حدث هذا في الإسلام بصفته الحركة النهوضية الناجحة الوحيدة في تاريخنا, وكيف كانت القطيعة المعرفية كما أوضحناها بإيجاز شديد هي الفيصل في تحقيق النهضة في الحالين.
حتى إذا انتهت الورقة إلى محاولات النهضة العربية في العصر الحديث بتياراتها الثلاثة راحت تتساءل هل نجح أي تيار من هذه التيارات الثلاثة في تحقيق قطيعة معرفية تكون أساسا لنهضة جديدة تليق بالأمة العربية الإسلامية في العصر الحديث?!
ولو نظرنا إلى هذه الاتجاهات الرئيسية لوجدنا أنها كلها برغم ما بينها من تناقض ظاهر فإنها تجتمع في الخضوع لذات آلية التفكير, أي أنها تنطلق من عقل واحد فسواء أكان صاحب الخطاب دينيا أو علمانيا "دنيويا" أو بين بين, فإن آلية القياس العقلي حيث يقاس الشاهد على الغائب دائما هي التي تجمع بين مختلف هذه الاتجاهات والتيارات, فالديني يحاول أن يفهم المتغير الجديد أو يصدر عليه حكما بالقبول أو بالرفض بناء على تشابه مفترض بين هذا المتغير ومتغير سابق حكم فيه هذا الإمام أو ذاك فالبنوك وهي مؤسسات حديثة تتعامل بالفائدة, والفائدة تبدو متشابهة مع الربا القديم ومادام الربا محرما فالفائدة ربا إذن, وبالتالي فهي محرمة, نقطة الانطلاق إذن ليست هي ذات الحدث أو المتغير "البنوك هنا" ولكنها العملية الذهنية نفسها التي تتحول إلى هدف في ذاته, وبذلك انقلبت المعادلة.
من هذا المنطلق نستطيع القول بأن هناك بعض معوقات رئيسية تقف أمام ثقافتنا, وتقيدها, وبالتالي تعيقنا عن المشاركة في بناء الثقافة العالمية المعاصرة.. ويمكن إيجازها كالتالي:
أولا: الغلو في تديين الدنيا, ومن المعلوم في الفقه الإسلامي أن الأصل في الأمور الإباحة, والتحريم لا يكون إلا بنص جامع مانع, قطعي الثبوت, قطعي الدلالة, وحتى مع مثل هذا النص, فإن القراءة وفهم النص خاضعان للظروف المحيطة بمن يقرأ وكيف يقرأ, وهذا هو السبب الذي كان يقف وراء تلك التعددية الفقهية والسياسية التي نراها في تاريخ الإسلام ودوله.
ثانيا: التقديس الاختزالي للتراث, والتراث لغة هو الميراث, وهو الموروث الثقافي الذي تلقاه الخلف عن السلف, وهذا الموروث متعدد الأغراض والاتجاهات والمصادر, ولكن كما أن الأيديولوجيا قد اختزلت تعددية التفسير إلى أحادية التفسير في النص الديني فإنها قامت بنفس الدور فيما يتعلق بالموروث الثقافي للجماعة, وبالتالي فإن التراث وفق هذا المعنى يتحول إلى نصوص مقدسة بدورها, ويصبح الاستشهاد بقال فلان موازية ومساوية لقال الله وقال الرسول.
ثالثا: المعادلة المقلوبة في العلاقة بين حلقات الزمن الثلاث, مفهوم المستقبل, وبالتالي مفهوم التقدم في ثقافتنا الأصلية الرسمية غير موجود بالمعنى الذي نراه في الثقافة الغربية الحديثة, فمفهوم التقدم والمستقبل بالضرورة يعني الثقة في إمكانات القدرة الإنسانية على تحقيق أفضل مما مضى, أي أن المستقبل بالضرورة لابد أن يكون خيرا من الماضي, أما في ثقافتنا الرسمية فإن المستقبل لا يعني أكثر من محاولة العودة إلى الماضي استنادا إلى مقولة مالك بن أنس: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما يصلح به أولها, وحتى هذه المحاولة لن تكون إلا نوعا من المحاكاة للماضي, ولكنها لا تستطيع تحقيقه بأي صورة من الصور.
رابعا: المبالغة في تضخيم الذات, هناك دائما افتراض التوتر في علاقتنا بالآخر, فالآخر في حالة تآمر مستمر ضدنا فهو يخشانا, ويفعل المستحيل من أجل ألا نعود إلى سدة السيادة العالمية, فعللنا ليست ذات مصدر ذاتي, بقدر ما هي نتيجة استهداف تاريخي مستمر وتربص مستديم ولن تقوم لنا قائمة الا بتلاشي هذا الآخر, ولكن كيف يتلاشى هذا الآخر ونحن في هذه الحالة من العلل? وهنا تبرز صفة أخرى من صفات ثقافتنا وعقلها المنتج وهي اللاتاريخية في فهم مسار المجتمعات والثقافات فنحن ثقافة ضمن ثقافات تاريخية عديدة وأمة ضمن أمم أخرى, وبالتالي فما يجري على الغير من ضعف وقوة لابد أن يجري علينا, وإذا كان المراد العودة إلى مجال الفاعلية الحضارية فذلك لا يكون إلا بمفاهيم جديدة معبرة عن المتغيرات التي طرأت.
العولمة والثقافة
وعن ورقة بعنوان "الثقافة/ الوسائط/ السوق" يرى علي حرب "من سوريا" أن العولمة ليست مجرد ظاهرة اقتصادية تقتصر على توحيد الأسواق المالية, ولا هي مجرد عقيدة معاصرة مطروحة في أسواق التداول الرمزي, ذلك أن العالم هو الذي يتعولم من جراء الطرقات الإعلامية, والشبكات الإلكترونية التي تتيح نقل الرسائل والمعلومات بسرعة الضوء, وعلى مدار الساعة, إنه اجتياح العلامات والصور للمناطق المحرمة, والعوالم الحميمة, من هنا لا مكان آمنا بعد اليوم, ولا عقيدة محصنة ولا ثقافة منعزلة إزاء تدفق الصور والرسائل والأرقام العابرة للحدود بين اللغات والثقافات أو بين الدول والمجتمعات أو بين الأقاليم والقارات.
هذه التحولات المتسارعة تغير شروط الوجود بقدر ما تغير بنية الإدراك, وأطر الزمان والمكان, وبقدر ما تغير بنية الإنتاج, وأشكال التنظيم المجتمعي, وعلاقات القوة والسيطرة, أي مجمل علاقات الإنسان بذاته وأفكاره بالعالم والأشياء.
هذا التغير في مشهد العالم يفضي إلى تغيير الثقافة بالذات, فالثقافة لم تعد كما كانت عليه سواء من حيث أطرها ومضامينها أو من حيث وسائطها ومسالكها, أو من حيث آليات تشكلها والقوى المنتجة لها, بكلمة أخرى إن الثقافة الأكثر فاعلية اليوم لم تعد ثقافة الكتاب والصحيفة أو الفكرة والعقيدة, بقدر ما أصبحت ثقافة الصورة والمعلومة, أو الحاسوب وبنوك المعلومات, معنى ذلك أن بنية المعرفة هي التي تخضع الآن للتبدل والتغير بقدر ما تتغير وسائطها وآليات إنتاجها ولا عجب فكل تغير في أداة المعرفة يغير علاقتنا بالمعرفة نفسها.
هل حقا ثمة خطر يحدق بالثقافة والهوية والذاكرة من قبل العولمة والتلفزة والأعلمة? هذا ما يخشاه حراس الهويات والعقائد وحماة التراث والذاكرة في غير مكان من العالم وبخاصة في العالم العربي حيث اعتدنا دوما الكلام بلغة الصدمة والإحباط إزاء ما يحدث مما هو غير منتظر ـ أو غير متوقع.
ويضيف علي حرب: فيما يخصني لا أريد تكرار الأسئلة العقيم حول صلاحية العولمة وجدواها على شاكلة صلاحية الحداثة أو العلمانية أو الديمقراطية وإنما أطرح أسئلة الحقيقة على حراس الهوية وأهل المحافظة, إذن أسأل المثقفين بقدر ما أسأل نفسي, ما هي ثمرة الثقافة التي سادت في العقود الأخيرة, طوال سنوات النضال وراء مشاريع النهوض والتقدم والتنوير والتحرير أو التغيير?
لا أخشى الإجابة بالقول: الثمرة هي إعادة إنتاج الواقع المراد تغييره بشكله الأحدث ولكن الأسوأ, أي المزيد من التبديد والاستبداد أو الفوضى والعماء.
ولذا, فالسؤال الذي يُملي نفسه هنا هو: على أي ثقافة نحافظ وعن أي فكر ندافع? إن ثقافتنا السائدة, خصوصا بجانبها العقائدي سواء لدى أهل السياسة أو لدى أهل الثقافة, أكانوا سلفيين أم حداثيين لا تتيح لنا أن ندير خلافاتنا بطريقة سلمية تفاوضية مثمرة, بل غالبا ما نتحاور بالسيف والمدفع ليس فقط على القضايا المختلف عليها بل على القضايا المتفق عليها, كما يتحاور القوميون بشأن الوحدة أو الإسلاميون بشأن الإسلام, في حين نجد أن زعماء الدول الغربية المختلفين لغة وعرقا يمكنهم أن يديروا صراعاتهم حول المصالح والمواقع بصورة عقلانية تتيح لهم الوصول إلى نتائج ترضي جميع الأطراف, لعل الغرب يريد لنا أن نبقى على ما نحن عليه من المحافظة, لأننا لو أصبحنا نفكر على شاكلته لتغيرت موازين القوى بيننا وبينه!
فالأجدر إذن ثقافيا أن نعمل على تفكيك بنيتنا الثقافية وأنظمتنا الفكرية لكي نتحرر من أوهامنا عن الفكر والثقافة والمثقف والإنتاج الثقافي.
العلم والثقافة
وفي ورقة بعنوان "دور العلم في تأسيس ثقافة المستقبل", يرى أحمد عباس صالح "من مصر": يرى أن العلم يشكل جوهر أي ثقافة, والثقافة مع ذلك هي التي تنتج العلم وتطوره, وكما أن الثقافة هي التي تنتج العلم, فإن العلم هو الذي يغير هذه الثقافة ويطورها.
ومن خلال متابعة هذه العلاقة الجدلية بين العلم والثقافة في تاريخ الثقافة العربية تمضي الورقة لتبرهن العلاقة الوثيقة بين غياب العلم والتدهور الثقافي والاجتماعي بشكل عام, على أن الورقة حاولت أن توضح كيف أن المؤسسة الدينية في مواقع مختلفة من البلاد الإسلامية لم تقف عقبة مباشرة أمام البحث العلمي, والمشاكل التي كانت تظهر عن الاختلاف بين الرؤية الدينية والرؤية العلمية هي من عمل السياسة أكثر من عمل الدين أو العلم, وهذه الخصومة بين المنهجين لم يعرفها الدين الإسلامي ولم يتوقف بسببها بحث علمي أو تصادر نظرية علمية, فاضطهاد ابن رشد وحرق كتبه مختلف تماما عن موقف الكنيسة من نظرية "جاليليو" أو غيره من ضحايا الكنيسة, وحتى الموقف من الكتاب المحدثين مثل طه حسين, وعلي عبدالرازق كان في حقيقته لأسباب سياسية.
ومع أنه بعد انكسار موجات النهضة, وهو ما يكاد يشبه القاعدة, يسيطر القلق على الناس ويفتقدون الشجاعة ويركنون إلى الموروث ومقولاته, ويحدث نوع من التقوقع على النفس, وقفل الأبواب دون العالم الخارجي لأن كل الخطر يأتي من هناك.
كان هذا ممكنا فيما مضى, أما اليوم فالعالم لم يعد كما كان, وليس في مقدور أي سلطة اجتماعية أن تغلق الأبواب وأن تعزل أبناءها عن المعارف المختلفة التي تنفجر كل يوم بالاكتشافات العلمية المثيرة.
رحلات الفضاء وما تظهره من معلومات جديدة, تغير تماما في تصور الإنسان عن عالمه, ومراصد الفلك, وحساباتها التنبؤية العجيبة, وتحققها أمام أعين الجمهور المتحلق حول شاشات التليفزيون, ونظريات نشوء الحياة, وتطبيقاتها الداعمة, ومفاهيم للزمن جديدة. حتى في المجال الاجتماعي بل وفي الدراسات التاريخية تظهر حقائق مذهلة. والناس قد تحرروا من الاستقطاب الإيديولوجي بسبب انهيار المعسكر الاشتراكي وتفككه, ومن سجن الأخلاقيات القديمة راحوا يعيدون البحث في كل شيء. حتى فيما كان يعتبر مفخرة قومية كالانتصارات الحربية, أو قيادة كاريزماتية نموذجية. كل هذا يوضع تحت مجهر البحث, ويظهر زيفه وبطلانه أحيانا.
نحن نتحدث عن الثقافة وهي شيء شامل بالغ الاتساع يتناول كل نشاطاتنا الحيوية والعقلية والنفسية, ويؤسس أخلاقنا وعاداتنا وتصوراتنا عن العالم الذي نحياه. ومع ما في الثقافة من ثبات نسبي, أصبحت تتعرض كل يوم للاهتزاز والتغيير, والكثير من الأنساق الأخلاقية تتفكك أمام أعيننا, وصورتنا وصورة العالم تتبدل كل يوم. فالإنسان الذي كان يرى من وجهة نظر رجال الدين والفلاسفة الملحدين وغير الملحدين كائنا محوريا للكون كله, صار ـ حسب مفاهيم الثورة البيولوجية ـ حيوانا انسانيا له نظامه الحيوي الخاص الذي ينعكس على سلوكه بما في ذلك ملكاته العقلية ومستقبله في الكون.
إن البحث عن الحقيقة هو أبرز سمة من سمات هذا العصر, ولم تعد للأفكار والنظريات القائمة قداسة معينة, فها هو ذا العلم يتجاوز فيزياء نيوتن, بل ويتجاوز نسبية أينشتين, وما من فكرة قائمة إلا ويعاد النظر فيها.. والعلم يلعب الدور الأساسي في تطوير الثقافة, وبأسرع مما يتصور الإنسان, وهل كان "جارسيا ماركيز" يكتب روايته "مائة سنة من العزلة" لو لم يكن قد فكر في لانهائية سعة هذا العالم التي كشفت عنها علوم الفلك الحديثة. وفي تحولات الحياة الاجتماعية في كتابات ماركس وماركوزا وبوبر وغيرهم من الذين ألقوا أضواء كاشفة على سلوك الأفراد والمجتمعات والعوامل التي تحركهم وتحول حياتهم? وهل كان يستطيع تصور دور المصادفة, باعتبارها عنصرا طارئا على نظام ما, لا يلبث أن يغير المنظومة كلها ويقلبها رأسا على عقب, إن لم يقرأ نظرية الفوضى? لقد كتب الكثير من إبداعاته حول تلك الحوادث البالغة البساطة والتي تؤدي إلى تغيير شامل, يصل إلى درجة الفناء أحيانا.. وكذلك الأمر بالنسبة للروائي الإيطالي الذائع الصيت "امبرتو ايكو" وغيرهما كثيرون يدفعهم الاكتشاف العلمي إلى تفكير جديد وفهم جديد, لا يلبث أن ينعكس في إبداعاتهم التي تنتشر بعد ذلك على الساحة الاجتماعية, وتضيف ملمحا جديدا إلى صورة الثقافة القادمة.
والثقافة التي تخلصت من القهر والاستبداد هي التي يزدهر فيها البحث العلمي, ولكم عاشت الثقافة العربية الإسلامية فترات انتعاش وخصوبة لأنها كانت متفائلة وطموحا ومتطلعة إلى اكتشاف العالم وبناء حياة جديدة, ولم يكن أحد يقيم أي عقبة أمام الباحث والعالم, كانوا يبحثون في كل شيء دون أي حرج.
ينقلون عن اليونان القديمة وعن غيرها ويجربون ويطورون الحياة في كل المجالات وكانت حرية العالم بلا حدود وازدهرت حياتهم وطوروا أسلحتهم وأبدعوا آدابهم وفنونهم ولم يجهض آراءهم أو يؤخرها إلا التناحر السياسي وما تبعه من خيبات علمية.
وفي الواقع انه لا أمل لنا في مجرد الحياة العادية إلا باقتحام العصر الحديث, والتعامل مع منجزاته العلمية والتكنولوجيا, ونحن نشهد هذا في المشاريع الكبرى الحديثة, وفيما تتطلبه من خبرات علمية وتكنولوجية لا مفر من الاستحواذ عليها لمواصلة التقدم الذي أصبح قضية حياه أو موت.