مختارات من:

مكوك يستكشف أغوار الجسد

عزت عامر

عرف الإنسان مركبات الفضاء، لكنها المرة الأولى التي يستخدم فيها مكوكا يبتلعه الإنسان ليتسلل إلى الأمعاء الدقيقة لاستكشاف أسرارها وعلاج ما يصيبها من أمراض.

هبطت مركبة الفضاء "أبوللو" في يوليو 1969 على القمر للمرة الأولى في التاريخ، وأحضرت في الأرض أول عينة من صخور القمر، وبعد 25 عاما استوحى العلماء نفس التقنية، مع التصغير الفائق للأبعاد، لتصميم "كبسولة" تدخل في القناة الهضمية، لتعود بعينة صغيرة من الغشاء المخاطي للأمعاء الدقيقة.

وتعتبر هذه هي المرة الأولى التي يمكن اقتطاع مثل هذا النسيج الحي بلا عنف ومن المكان المطلوب، بهدف استكشاف الاحتمالات المرضية وإجراء العلاج الملائم. ويتعلق الأمر هنا بأول سابقة طبية وتكنولوجية، فالأمعاء عضو بالغ التعقيد يقوم بوظائف ميكانيكية وتحولات غذائية أساسية لهضم الأطعمة.

والأمعاء الدقيقة موقع لأمراض تصل بعضهـا أحيانا إلى درجة عالية من الخطورة مثل: الإسهال والالتهاب المعوي والانسداد والفتق والأورام والسرطان. وهي موطن لعدد من الطفيليات والأميبا والديدان المستديرة والمسطحة. وبعكس المريء ، المعدة، الأثنى عشر القولون والمستقيم التي يسهل الوصول إليها وفحصها بالإندوسكوب (أداة لفحص الأجزاء الداخلية في الجسم) ، فإن الأمعاء الدقيقة تعتبر من آخر المناطق المجهولة في جسم الإنسان. وتمثلت المشكلة دائما في كيفية التوصل إلى علاج فعال لأمراض الأمعاء الدقيقة، بسبب عدم معرفة الطريقة التي يتطور بها المرض. وازدادت أهمية التوصل في وسيلة يمكن بواسطتها الولوج داخل هذا العضو، لتشخيص الأمراض بشكل مباشر، والتوصل بشكل خاص في معالجة هذه الأمراض في موقع حدوثها. هذه هي المهمة التي وضعت على عاتق هذا المكوك الجديد.

مغامرة بدأت في الثمانينيات

يعود تاريخ هذا الإنجاز العلمي في عام 1986، عندما باح البروفيسور جاك - فيليكس جرينييه مدير قسم جراحة الجهاز الهضمي في مستشفى ستراسبورج المدني في فرنسا، بسر طريقة جديدة لاستكشاف المعدة والأمعاء للمهندس ألين لأمبير الباحث في مؤسسة INSERM الفرنسية. وتتمثل هذه الطريقة في تطوير " كبسولة" أمكن إنتاجها صناعيا هذه الأيام فقط.

ويمكن ابتلاع هذه الكبسولة مثل قطعة "الملبس" واستعادتها بعد عملية الإخراج. وتشبه هذه الآلة البلاستيكية حبة دواء محاطة بالإلكترونيات، ويبلغ طولها أربعة سنتيمترات وقطر محيطها سنتيمترا واحدا، ويحيط بها حلقة من الجيلاتين تذوب عند مرورها بالمريء ويظهر مكان الطبقة الذاتية عجلة مسننة متصلة بأسفل "الكبسولة" على غرار مجموعة الهبوط في المكوك .

وتماثل هذه الكبسولة المكوك الفضائي تماما في جزأين من أجزائها، الأول هو وجود معاير قياسي (يحتوي على حساس يحدد المكان ومرسل ومصدر طاقة) ، وثانيهما أربع وصلات يمكن تغييرها تبعا للمهمة المزمع أن تقوم بها الكبسولة "المكوك".

ويتحرر حساس المكان، وهو عبارة عن العجلة المسننة، عندما يصل المكوك إلى المعدة. حيث يظل في حالة تشوش بسبب تقلصات المعدة حوالي ساعة. ويدخل المكوك إلى فم المعدة الذي يصل بين المعدة والأمعاء الدقيقة ، حيث تدفعه المواد الغذائية. ويتقدم المكوك في رحلته خلال قناة الأمعاء الدقيقة الضيقة التي يبلغ طولها عدة مترات، ليعبر على التوالي الأثنى عشر، الصائم (الجزء الأوسط من الأمعاء الدقيقة) ثم اللفيفي (طرف الأمعاء الدقيقة)، حيث تلتصق العجلة المسننة بالأغشية الداخلية للعضو، لتتابع كل تعرج داخل الأمعاء. ويسجل هذه الحركة الميكانيكية جهاز إلكتروني، حتى يصل المكوك إلى القولون.

التحكم في وظائف المكوك

ويمكن للمكوك عبر رحلته الطويلة أن يتقدم أو يتراجع تبعا لحركات الأمعاء الدقيقة، ويرسل مغناطيس موضوع في العجلة المسننة بيانات إلى جهاز إلكتروني خارجي، لتحدد هذه البيانات ما إذا كان المكوك يتقدم أو يتراجع. وبفضل هذه الأجهزة أمكن ، للمرة الأولى في تاريخ الطب ، قياس أبعاد الأمعاء الدقيقة في أثناء عملها. وهي خمسة أمتار فقط وليست سبعة أو ثمانية ولا يكتفي دفتر يوميات المكوك بتدوين موقع ومسار الرحلة عبر الأمعاء، لكنه يوضح أيضا بواسطة تجهيزات قابلة للتبديل، التحول الغذائي والبناء الداخلي للأمعاء الدقيقة.

وتسمح هذه التجهيزات بسحب عينة من السائل المعري، أو وضع منتج كيماوي في مكان محدد على مسار المكوك (سيان كان دواء أو سائلا يمكن تتبع أثره بأجهزة طبية خاصة)، أو اقتطاع نسيج حي من الغشاء المخاطي للأمعاء الدقيقة. وتوضع هذه التجهيزات في مقدمة المكوك، حيث يتم تغيير وظائفها بواسطة التحكم عن بعد بالوسائل المغناطيسية. ويجرى الاختبار داخل المستشفى، لكن المريض يمكنه أن يمارس جميع أنشطته بطريقة طبيعية ويبتلع المريض المكوك "الكبسولة" مستعينا بكوب ماء صباح وصوله إلى المستشفى.

استخدامات طبية عديدة

وأثبت الباحثون فعالية هذا المكوك بعد إجراء 300 تجربة على الكلاب وعشرات من التجارب على الإنسان في ستراسبورج. ولا يقتصر استخدام المكوك على الاستفادة منه كاداه طبية دقيقة ، لكنه يستخدم أيضا في أغراض الأبحاث ويستعان به أيضا في علاج مرضى السكر، مع مراعاة إعطاء الإنسولين بالحقن وليس عن طريق الفم تجنبا لضياع أثره داخل المعدة وعند توصيل الأنسولين إلى مستويات الأمعاء الدقيقة المختلفة، يمكن التأكد عندئذ بأنه تم امتصاصه عند مستوى اللفيفي (طرف الأمعاء الدقيقة). ويمكن بهذه الطريقة تصور تجهيزه قادرة على العمل بشكل منتظم عند هذا المستوى. ويسمح هذا الإنجاز أيضا بتصور تجهيزه مماثلة تنقل أدوية معينة للتخلص من طفيليات الأمعاء الدقيقة المتسببة في الإسهال، الالتهاب المعوي وأنواع الدوسنتاريا الأخرى. ويسمح اقتطاع جزء من النسيج الحي بمعرفة أسباب الاضطرابات الهضمية في الأمعاء الدقيقة. وأوضح اختبار هذه الاضطرابات عدم توافر الزغبات (أو الخمائل) المعوية، مما يعوق عملية امتصاص المواد الغذائية. ويتوقع العلماء تطبيقات واسعة لهذا "المكوك" تتراوح بين نقل الحرارة وتغيير تركيز الأنزيمات، والتأثير على النشاط الكهربائي في عضلات الأمعاء، وكل العوامل المؤثرة على الكيمياء الحيوية. هذا بخلاف التوقعات العلمية التي تدرس إمكان وضع كاميرا بالغة الصغر في المكوك، مما يفتح آفاقا علاجية واسعة.

وعلى الإجمال يمكن تلخيص آليات عمل الكثير ووظائفها بالتالي:

1- الكبسولة تماثل مكوك الفضاء لاحتوائهـا على معاير قياسي ورأس قابل للتغيير، يبتلعها الإنسان لتلقي مزيدا من الضوء على بنية الأمعاء الدقيقة وطرق علاج أمراضها.

2- يتم ابتلاعها مثل "البومبون" وعند وصولها إلى الأمعاء الدقيقة، يمكنها أن تسرب جرعة من أوكسيد الباريوم وهو منتج كيماوي لتحديد المسار يستخدم في أجهزة التصوير بالأشعة. وتأخذ الكبسولة جزءا من السائل المعوي أو النسيج بغرض التحليل ويمكن التحكم في هذه العمليات بدقة، حيث تسمح العجلة المسننة بقياس المسافة التي تقطعها الكبسولة داخل الأمعاء الدقيقة.

3 - يتحرر مكبس الكبسولة عند الوصول إلى الأمعاء بواسطة مغناطيس موضوع في بطن المريض وينتج عن حركة المكبس فتح ثقب يسمح بخروج السائل تحت تأثير - الضغط .

4 - تستخدم نفس التقنية السابقة، مع فارق وجود خزان الكبسولة في حالة تفريغ.

ويسمح إطلاق حركة المكبس بامتصاص 0.7 مليمتر من السائل الموجود داخل الأمعاء.

5 - توجد نافذة في الخزان الفارغ، يتم إغلاقها في بداية رحلة المكوك بواسطة غطاء يفتح في الوقت المناسب (عند تشغيل مغناطيس)، ويتم امتصاص جزء من النسيج المعوي الحي، يقطع بواسطة نصل حاد يرتفع بعد دورانه ليغلق النافذة.

عزت عامر مجلة العربي يوليو 1995

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016