مختارات من:

أغنى الأغنياء

محمود المراغي

ها نحن ندخل بئر الأسرار، فلا أحد في العالم يستطيع أن يحصي ما لدى الآخرين.. بالتمام والكمال، وفي كل بقعة من بقاع الأرض.. و.. مع ذلك فإن محاولات أمريكية وغير أمريكية، تجرى من حين لآخر لحصر من أسموهم بالمليارديرات.. أو: الأكثر ثراء في العالم.

والقضية ليست مجرد إثارة صحفية أو علمية.. فالبيانات الصحيحة حولها، حتى لو كانت منقوصة، يمكنها أن تعطي مؤشراً حول مواطن تركز الثروة.. أي الأنشطة.. أي الأنظمة الاقتصادية والسياسية.. أي الشرائح الاجتماعية والسياسية..

السؤال مهم : من هم أغنى الأغنياء؟

في محاولة للإجابة، وفي منتصف 1994، أذيع مسح علمي من هذا النوع.. وصاحبة المسح مجلة متخصصة هي "فوربز" الأمريكية والتي دأبت على تقديم هذه الدراسة سنويا منذ عام 1987.

وعلى الرغم من أن الدراسة تعتمد على ما هو ثابت من بيانات كاعترافات أصحاب الثروات، أو بيانات الأسواق المالية والبنوك وشركات العقارات وميزانيات الشركات وقرارات تأسيسها.. رغم ذلك فإن المجلة الناشرة تضع تحفظا أساسيا وهو أن المعلومات والأرقام المنشورة لا تشمل العائلات الملكية وعائلات رؤساء الدول.. والطغاة !

ربما كان ذلك خوفا، أو عجزا عن الحصول على معلومات كافية، لكن المجلة تبرر ذلك بأن ثروات هؤلاء لم تأت عن طريق العمل الاقتصادي بقدر ما أتت عن طريق السياسة.. و.. من ثم جرى استبعادهم.

على أي حال فما تبقى من مجتمع الأغنياء يستحق الوقفة والتحليل. ونلاحظ أن كلمة مليونير قد تراجعت، فأصحاب الثروات الكبيرة كلهم ممن نطلق عليهم اسم "ملياردير"، المليون أصبح لعبة صغيرة، والمليار هو ما يجذب الانتباه.

في هذه الحدود تلاحظ الدراسة اتساع دائرة الأغنياء بسرعة.. فقد بلغ عدد المليارديرات في 1994: 358 شخصا يمتلكون 765 مليار دولار تقريبا، أي بمتوسط يزيد على الألفي مليون دولار لكل شخص. وقصص الأفراد قد تكون هي الأكثر إثارة، لكنها قد تكون أيضا الأقل دلالة في تحليل قضية الثروة في العالم.

الأول ياباني

في قائمة الأفراد ينتزع الياباني: يوشياكي توسوتومي المقعد الأول من الأمريكيين، وتسجل ثروته 8.5 مليار دولار، بفارق 305 مليون دولار عن الأمريكي بيل جيتس وهو رقم 2 في الثراء.

حدث ذلك على المستوى الفردي، ولكن على مستوى الدول والمجتمعات فإن الأمر يختلف. الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك أكبر عدد من المليارديرات، حيث تضم بمفردها 120 شخصا يمتلكون 358 شركة ومؤسسة عملاقة وثرواتهم تتجاوز 251 مليار دولار، أي أن الولايات المتحدة بمفردها تحتكر ثلث عدد كبار الأثرياء.. وثلث حجم الثروات الضخمة تقريبا.

وفي الترتيب تأتي أوربا الثانية، حيث تضم 91 مليارديرا.. مقابل 36 مليارديرا عام 987 1.. وبما يؤكد الظاهرة التي تحدثنا عنها: ظاهرة النمو المالي السريع، أو ظاهرة التركز المتزايد في الثروة.

داخل الخريطة الأوربية تأتي ألمانيا في المقدمة، وتكاد تحتكر نصف المقاعد الأوربية.

وداخل خريطة الدول الصناعية تأتي اليابان تالية لألمانيا ثم تقفز دولة من الدول النامية هي المكسيك تضم وحدها 24 مليارديرا، وبما يجعل أمريكا اللاتينية تضم 42 شخصا من هذا الطراز.. أي بما يقترب من نصيب آسيا "عدا اليابان".

و.. هنا أيضا تستمر نفس الظاهرة.. ظاهرة التركز السريع في الثروة حيث لم تضم المكسيك أكثر من سبعة مليارديرات عام 1987.

تبرز على الخريطة كذلك: دول الباسفيك الآسيوية، كما تبرز فرنسا.

الثراء العائلي

وبتحليل الأرقام الواردة في الدراسة نلاحظ أن الثراء كثيرا ما يكون عائليا.. وليس مجرد نتوء فردي هنا أو هناك..

العائلة الأكثر ثراء في العالم تحتكر وحدها حوالي 3% من الثروات التي تم حصرها.. والعائلة المعنية هي "سام والتونش " مؤسسة أكبر متاجر البيع بالتجزئة في الولايات المتحدة الأمريكية وهي محلات "وال مارت ستورز إنك ".. وتمتلك هذه العائلة 23.6 مليار دولار ! بعدها، تتوالى العائلات الأمريكية أيضا.. ولكن مع فارق واسع في الثراء، فتأتي عائلة "مارس" وعائلة" دي بونت " بثروات متواضعة: 9.6 مليار، و 9 مليارات دولار على التوالي!

و.. هكذا تصبح "العائلية" سمة من سمات قضية الثروة في العالم..

فإذا انتقلنا لمؤشر آخر تعطيه الأرقام، فإنه يمكن القول إننا أمام ظاهرة انتفاء النشاط الواحد.

صحيح أن هناك من امتلك ثروته من الصناعات ذات التكنولوجيا الحديثة العالية، مثل: بيل جيتس - ثاني أكبر الأثرياء، وهو مؤسس " ميكروسوفت كوربوريشن ".. هذا صحيح، لكن الصحيح أيضا أن غالبية الأثرياء الكبار متعددو النشاط، فالياباني توسوتومي - الأكثر ثراء عام 1994 - يمتلك حصة ضخمة في شركة قابضة كبرى تعمل في مختلف الأنشطة.. وعائلة دي بونت الأمريكية ذات التسعة مليارات من الدولارات.. تعمل في فروع كثيرة، وإن ختمتها كلمة "صناعات كيماوية ونفطية".. و.. هكذا لم يعد هناك - في معظم الحالات - المصدر الواحد للثراء.. وإنما أصبح الأكثر شيوعا أن يتجه المال للمجالات الأكثر ربحا بصرف النظر عن التخصص، فالتخصص مهمة المديرين والفنيين.. أما صناعة المال فتلك قضية أخرى ذات استقلال نسبي عن الإدارة والأنشطة الإنتاجية.

و.. تبقى ملاحظتان :

الأولى: أن معظم الثروات "الأضخم" تتكون كما الدول الصناعية الكبرى.. وليست في الدول الزراعية أو النفطية.

الثانية: أن المجتمعات الفقيرة تشهد أيضا تركزا في الثروة، وأن أثرياءها يزدادون عددا، وبسرعة فائقة.. ومثال ذلك ما يجري في آسيا وأمريكا اللاتينية واللتين تضمان - بخلاف اليابان - 88 مليارديرا.. وهو ما يعني طبقا للأهمية النسبية في الناتج القومي لهذه الدول النامية ميلا أكبر للثراء وتركز الثروة.. بالقياس للدول الغنية.

الأرقام مهمة، والسؤال: ماذا لو اكتملت جوانب الصورة ؟

إننا أمام مجتمع يمكن أن نسميه: "فيما عدا الملوك والرؤساء".. فإذا أضفنا هذه الشريحة الواسعة، شريحة أهل الحكم، ومن بينها سلطان بروناي الذي احتل مقعد الأكثر ثراء في بعض السنوات، فإن الصورة قد تتغير.

محمود المراغي مجلة العربي سبتمبر 1994

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016