لعلها كانت إحدى عرائس بحر البلطيق ، خرجت إلى الشاطئ واستقلت، فكان من شعرها بهجة الغابات، ومن نور عينيها ألق الكهرمان ، ومن قشور جسمها صفاء الكريستال.على أرضها صدحت موسيقي شوبان، وتوقد ذهن ماري كوري وكوبرنيكوس، وزهت العمارة القوطية وزخارف الباروك. ولكن المدافع كانت عمياء، فلم تر فيها غير موقع عسكري ملائم للاقتناص أو للانطلاق. ومن ثم كان عذابها، وكانت حيرتها، فاتخذت لعاصمتها شعار عروس بحر ترفع سيفا وتحتمي بدرع. ولما بدا أنها- أخيرا- تستطيع التحرر من ثقل ما حملت، أوقفتها الشدة في موقف الحيرة، وأوقفتنا- حين زرناها- في موقف التأمل.
"سيباستيم " صبي جميل في نحو الثانية عشرة، جريء برهـافـة ولطف، وأليف بعـذوبة مدهشـة، لقيناه على دراجته ونحن نتـوه في الشوارع الصغيرة الملتفة بحي الميناء الجديـد "نوفي بورت" بـ "جـدانسك". كنا نبحث عن محطة المعدية التي تقطع نهر موتـلافا المتجـه نحو خليج جدانسك، نقصد تلك البقعة على الضفة الأخـرى، بين النهر والخليج المفتـوح على بحر البلطيق.
"ويستربلات" شبه الجزيرة التي شهدت في الساعة الرابعة وخمس وأربعين دقيقـة يـوم أول سبتمبر 1939 الشرارة الأولى التي أشعلت الحرب العالمية الثانية.
سيباستيم الجميل الأليف المرهف كـان يقف على دراجتـه في ظل أحد أسـوار البيوت القـديمة المثقلـة بالخضرة، تفرس في وجهينا ثم سألنا: "مرحبا.. هل تتحدثان الإنجليزية" وقلنا- سليمان حيدر وأنا- في نفس واحـد، وبتهلل.. "نعم، نعم " فلقد عثرنا أخـيرا على دليل، بعد أن قررنا مقاطعة كل القنوات السياحية، إضافة إلى أننا لم نكن نرتكن إلى أي عون رسمي بولندي. وكانت إنجليزية سيباستيم البسيطة الصافية كافية تماما، فهى توفر علينا مشقة الحديث إلى النـاس بلغـة الإشـارة وتنقذنا مـن نظرات الشزر عندما كنت أضطـر إلى الحديث بـاللغـة الروسية التي يفهمهـا كثـير مـن البولنـديين ويكـرهـون التحـدث بها. وصف لنا الصبي طريق الوصول إلى محطة المعدية، وماكـدنا نبتعد في الطريق الذي يحف بالشاطىء وتظلله أشجار الكستنـاء البري والحور حتى سمعنـا رنين الأصـوات الصغيرة وراء ظهـرينا "كليـك تن تن. كليك تن تن " لقد كـان سيبـاستيم يلحق بنـا والخرزات الملـونـة (الملضـومة) في أسـلاك عجلات دراجته، تصعد وتهبط مع دورات العجـلات فتصدر هـذا اللحن البهيج الصغير. ولم يتركنـا الـولـد، وظل يمشي بدراجتـه بطيئا إلى جوارنا، يسبقنا ليتأكـد من صحة مسارنا من البحـارة وصيادي الأسماك على الشاطىء الـذي نمشي بموازاته، ويعـود ليطمئننا إلى صحة مسعانا. نحادثه ويحادثنا وكان حديثه عذبا ويشق القلب أحيانـا:- "ما هي مهنة والـدك سيباستيم؟ " - "ليس لي أب لقـد ترك أمي ورحل عندمـا كنت صغيرا جـدا.
أمي تربيني أنـا وأختي وهي تعمل مبرمجة كمبيوتر". لم يكن في حديثه انكسار اليتامى ولا كآبة ذكريـاتهم. لكنني لاحظت حركـة عصبية صغيرة يختلج بها وجهـه الجميل الصافي. لقد كـان يتعلم في مـدرسة للغات، والمدهش أنـه كان يتجه للتخصص في الطبـخ. ويحضر دروسـا عمليـة في مطاعم "جدانسك" وأحيانـا على ظهر سفن الركاب الراسية في الميناء.
لم يتركنـا "سيباستيم " حتى جـاءت المعـديـة، والطريف أنه أسلمنا أمانة لصاحب له التقاه عند المرسى، وشرح لنا الولـد الجديـد جغرافية المكـان مشيرا إلى حوض بناء السفن في الجهة الشرقية حيث بدأت حركة التضـامن، وقال بزهو إن والـده كان يعمل مع "ليش فـاليسـا" وإنه يعرفه شخصيا فقـد أتى إلى بيتهم مـرة على العشاء. ودعنا سيبـاستيم الصغير بتأثر وظل يلوح لنا ونحن نبتعـد حتى صـار نقطة بعيدة.. نقطـة حيـاة صافيـة تمتلك حلما صغيرا .. أن يكـبر ويعمل طبـاخـا على سفينة تطوف بدنيا الله الواسعة البهية، أما الآن فإنه سينتظر بتلهف وصول رسالـة بـاسمـه من بـلاد بعيدة.. من بشر التقى بهم مرة في نهر الحياة وكـانوا متجهين صـوب الشـاطىء الآخر يبحثون عن البقعة التي بدأت منها النار التي أوشكت على التهام البشرية وإحراق دنيا الله الطيبة، منذ نصف قرن ونيف.
لكمة فاليسا غير القاضية
على ظهر المعدية كانت هناك بضع سيارات، وميزنا من بينها سيارة ليموزين سياحية يركبها بعض الألمان ممن ينزلون معنا في نفس الفندق، وكنا متعبين لأننا مشينا كثيرا. ولقد لمنا أنفسنا للحظة لأننا لم نأخـذ سيارة رغم قفزة الغلاء في أسعـار كل شيء. وبينما كنا نبحـث عن محطة الباص المتجه إلى "وستر بلات" امتقعت الدنيا فجأة وانهمر مطر غزير فأخ ذنا نركض حتى وقفنـا تحت مظلة البـاص المجـاورة لمدخل إحدى ورش الميناء، وتحت المظلة رحنا نتأمل الدنيا الموشاة بالمطر فتلاشى لـومنا لأنفسنا، فلقد أخذت أراجع المشاهد التي وقعت عليها أعيننا، وما كـان لنا أن نراها لولا أننا سعينا إليهـا مشيا على الأقـدام. إنها الصـور العميقـة التي لا تراها أعين السياح والتي ردت على سؤال مكثت أسأله لنفسي منذ وطأت أقدامنا أرض مطـار جـدانسك الصغير البدائي والـذي انكسرت فيـه حقيبتي لأنها وقعت مع غيرها من زحام عربة اليد الحديدية، إذ لم يكن في المطـار سير كهربـائي لنقل الحقائب، هذا في ميناء بلـد كـان جزءا من استراتيجيـة حرب الصواريخ العابرة للقـارات ومضـادات حـرب النجوم! كـان السؤال: لماذا جـدانسك بـالذات هي التي بدأت تمرد العمال على حكـم الحزب الشيوعي الذي تصرخ وتغني أدبياته بأنه حزب العمال.. لماذا جـدانسك؟... ولم أجـد الإجـابـة بـالطبع في الجولات السيـاحيـة المنظمة التي قمنا بها على مـدى يـومين، لم تكن الإجابـة متاحة في مركز المدينة الـذي يشعرك بأنك تمشي في القرن السادس عشر. البيوت ذات الطراز الجـيرمـاني والألـوان الفـاتحة وزخـارف الجص والعليات وأسقف القرميد. صناديق الزهور وستائر الدانتيلا، المقاهي ذات الشرفات الخفيضة، تفرعات نهر موتلافـا التي تمخرهـا الزوارق البيضاء. هـذا القلب القديم للمدينة الـذي يبدو وكأنه راجع إلى ثـلاثـة أو أربعـة قرون ماضيـة ليس إلا إعادة بنـاء للقـديم الذي دمرتـه بنسبة 90% القوات الألمانية الغازيـة ابتداء من عام 1939، ثم القوات الـروسية المحررة عام 1945. كل هذه الأبهة القديمة المتجددة لم تكن لتجيب عن سؤالنـا حـول مبـادرة عمال جدانسك بـالتمرد على حزب الطبقة العاملة. لكن جولتنا على الأقدام وفي المواصلات العامة هي التي قدمـت مشروع الإجابة. فما إن ركبنا الترام رقم 10 حتى بـدا أن هنـاك جـدانسك أخـرى غير تلك السيـاحيـة الساحـرة التي رأيناها في الحي القديم ومركـز المدينة. هنـا تتراجع صور الصبـايا فاتنات الجـمال والثيـاب، والرجـال المتأنقين، والأطفـال الرافلين في ثياب العافيـة والبهاء، وتتزاحم صور العمال المنهكـين وأسرهـم التي تحمل سيماء الإنهاك أيضا. الأجساد التى لا امتشاق فيها والتى ينتفخ الكثير منهـا بفعل أكل البطاطس التي ضخمتها أسمـدة النترات لتكـبر وتسـد جـوع المتعبين الـذين لا قبل لهم بأكثر منهـا، والملابس الخشنة ذات الأذواق البروليتارية الرديئة والأحذية الكبيرة والوجـوه التي تغضنت قبل الأوان. الصبـايـا الفقيرات في فساتين التيل المشجـر التي تشبـه جلابيب المطبـخ بطبعات حائلة وأزهار معوجة. الأطفـال المرقشـة وجوههم ببعض من بقع سوء التغذية، والكبـار الـذين طبعت الخمـور وجـوههم بحمرة ممتقعـة لفرط ما يسكرون لحد الغيبوبة. كل هؤلاء كانوا من حولنا في زحام الترام رقم 10 الذي كان يمضي بطيئا مرتجا في تلافيف حي الترسانة والميناء حيث تظهـر ساحات الورش والبيوت العمالية الكالحة والحوانيت التي تبيع الأشياء الرديئـة الرخيصة. هنا تكمن الإجـابة ونجد تفسيرا لبـدء اشتعـال شرارة التمـرد العمالي في جـدانسك. فـالنظـام الشيـوعي الذي وعد الطبقة العاملة بالجنة الأرضية لم يف بوعده، بينما كان قادة هذا النظام يحلقون بترف "برجوازي " من فائض قيمة عمل "الكادحين " في شقاء الحضيض. ولقد عن لي أن أفتتح مزادا للإجابة في زحام الترام رقم 10، ثم في كل مكـان توقفنا فيـه داخل حي الترسانة والميناء، وكان السـؤال "أي الأيام أفضل؟ في النظام السابق أم الحالي "؟ لم يكونوا يعـرفـون الإنجليزية فكنت أوجه سؤالي إليهم باللغة الروسية التي يعرفها معظمهم (إذ كانت اللغـة الإجبارية الثانية في نظام التعليم إبان الحكم الشيـوعي) وإن لم يبدوا ارتيـاحا للتحدث بها إلا بعد أن أفهمتهم أنني لست روسيا وإن كنت أتكلم الـروسيـة.
" بدوا ودودين كشأن بسطاء الأرض جميعـا، وكانوا يتهيبون في البـداية ثم يتزاحمون حولنا.
"لا الآن، ولا من قبل " كـانت هذه هي الإجابة الشاملة، ولقد أكدتها آخر الصور قبيـل ركوبنا الباص المتجه إلى "وستر بلات " فمن بوابات مصانع الأسمنت والفولاذ وورش الترسانة البحرية رأينا أشقياء الأرض الذين استخـدمتهم الشيـوعية وباعتهم الرأسمالية، وقد كانوا ينبعـون من عوالمهم السفلية في (عفاريت) الشغل، معفرين حتى العظام بتراب الأسمنت أو ملطخين حتى الجفون بالسناج. هؤلاء هم الذين بدأوا شرارة التمرد بقيادة فـاليسا، ومسـوغات قيادة فـاليسـا كانـت بسيطة وخشنة، بساطة وخشـونة هؤلاء العمال أنفسهم، ففي أحـد الإضرابـات العمالية بجدانسك جاء مـدير المصنع ليهدد العمال فـما كان من فاليسا إلا أن برز له من بين الصفوف ووجـه إليه لكمـة طرحته أرضا، ورفعت هذه اللكمة فاليسا إلى مرتبة القيادة. بالطبع لم تكن اللكمة هي المؤهل الوحيد لإيصال فاليسا إلى موقعه، فقد كان هناك تاريخ طويل من الشعور بالمرارة لدى العمال البولنديين الـذين لم يكن الشيوعيون بينهم إلا صنائع (موسكوفية) في معظم الأحوال، وموسكو الحمراء لم تكن إلا تسلطا روسيا على بولنـدا رغم تغير الألوان وتبديل الشعارات. فلـو بـدأنـا من معاهدة عدم الاعتداء التي وقعها ستالين مع هتلر في 23 أغسطس عام 1939 (أي قبـل انـدلاع الحرب العـالميـة الثـانيـة بأسبوع واحـد) لاكتشفنـا روح القيصرية خلف لافتـة الشيوعية، إذ إن ستالين اتفق مع هتلر على تقسيم بولندا واقتسام شعبها بـين روسيا وألمانيا كـما توزع الأغنام. وبعد أن هجم هتلر على جدانسك ووارسو هجم ستالين على الجزء الشرقي من بولندا في 17 سبتمبر 1939 وابتلعها في نوفمـبر من نفس العام وتم ترحيل مليوني بولندي إلى سيبيريا وكـازاخستان ما بين عامـي 1939 - 1940 لتغيير التركيبة السكانية للجزء البولنـدي الـذي احتلتـه روسيـا. ثم إن الحزب الشيوعي البولنـدي (حـزب العمال) خرج مبـاشرة من عباءة موسكـو- ستـالين في ينـاير 1942. وبعد أن تـرك تشرشل وروزفلت بولندا لتكون تحت سيطرة روسيا في مؤتمر يالطا- فبراير 1945 تم تنصيب حكومة بولندية في موسكو في يونيو 1945 وأرسلت جاهـزة إلى وارسو! هكذا زرعت الشيوعية السوفييتية قسرا في بولندا، ومع زيادة الأسعار واستفحـال الـديون وانتخاب جون بـول الثاني البولندي- بابـا للفاتيكان عام 1978، نضج الغضب البولندي على خليط من نار الغليـان الـداخلي والتربص الخارجي، فشلت الإضرابات بولندا في أغسطس 1980 بادئة من حوض بناء السفن المسمى (لينين) في جـدانسك شمالا إلى مناجم الفحم في الجنـوب. وكانت حـركة التضامن، وكـان ليش فاليسا، وكـان عدد المنضمين إلى الحركة 10 ملاييـن عامل يمثلون 60 %.
" من قوة العمل البولندية. والمدهش أنه كان من بينهم مليون من الشيوعيين وجميعهم ضـد الحزب الشيـوعي البولندي!، ثم كان الصراع حتى حل الحزب الشيوعـي نفسه في يناير 1990، وفي نـوفمبر من نفس العام كان اختيار فاليسا أول رئيس غير شيـوعي لبـولنـدا في انتخـابـات تكميليـة مع منافس بـولندي مهـاجر ومليـونير هبـط على وارسو (بـالبراشـوت) قادمـا من أمريكـا، وكان شعـاره الانتخـابي "ديمقراطيـة الفلوس " وكـاد بهذا الشعـار أن يفوز على فـاليسـا لكنـه أخفق.
ولعل فـاليسـا ظل بسيطـا لكنـه في النهـايـة محاصر في نقطـة التقـاطع المحيرة حيرة بـولنـدا نفسها، بين محور الشروط الرأسمالية المستجدة والخاضعة لمنطق الرأسمال العالمي وبارونات الانفتاح الجدد وبين نداء السواد الأعظم من معذبي الأرض الذين طلع من وسطهم. ولقد استشعرت حيرة فاليسا عندما وقفنا في الفناء الأمامي للبيت الأبيض البـولنـدي على مبعدة أمتـار من حيث ينـام فـاليسـا ويصحو. لم يكـن هناك إلا عدد لا يزيد على أصابع اليد الواحدة من أفراد الحرس، عمليا لم يكن هناك ما يهدد فاليسا، لكن لا بد أن هناك ما يؤرقه بين زمن اللكمة الماضيـة ولكمة أخرى فشل في تسـديـدها للفسـاد والقسوة الرأسماليـة التي تجتاح بولنـدا وتعصف ببسطاء أهلها.
كانت صور العمال في شقوتهم وعفـاريتهم المزيتة والمغبرة هي آخر صور وقعـت عليها أعيننـا قبل أن نركب الباص الأصفر المتجه إلى وستربلات تحت وابل من المطر، وبين ضفتين من الغابات والزهور.
في مسرح الزمان المكشوف
على شـاطىء بحـر البلطيـق، وبـاتجاه قمة شبـه الجزيـرة التي تشكـل لسـانـا ممتـدا داخل خليج جدانسك، مضينا راكضين تحت المطر. استرحنا قليلا داخل طابية عسكرية صغيرة وسط الغابة تحمل جدرانها بعض آثار طلقات نـيران الحرب الثانية، وبعد أن انقطع المطر واصلنا مسيرنا في الطريق الصـاعد وسط الأشجار نحو قمة وستربلات. ورأينـا النصب الجرانيتي الداكن، القبيـح قبح الحرب نفسها. مكثنا نصعد حتى انقطعت أنفاسنا عند القمة فارتمينا نستريح ونرنو إلى (بانوراما) المنظر الساحر: ها هو خليج البلطيق، وهناك البحر، وهذا هو مدخل الميناء حيث وقفت السفن الألمانية الحربية تلقي بحممها، وعلى مد البصر كانت تترامـى بيوت جدانسك متفاوتة الارتفاعات متباينة الألوان، لكن لون القرميد كان يكشف عن تميز المدينة القديمة، بينما الخضرة في كل مكان كأنها غابة تمد أطرافها نحو البحر.
تنفست هواء الشمال الرائق، ونسائم بحر البلطيق وعبق الغابة البولونية، وزفرت تأثرا وشجنا وأنا أطل على خشبة المسرح الخالية التي جرى فوقها أحد أشد فصول الدراما البشرية دمـوية وجنـونا. ووجـدت نفسي (أفهم) أو أتصـور أنني أفهم مـا مر عليّ من تاريخ هذا المكان، وهذا البلد، فزيارة الحاضر عون لا مثيل لـه من أجل فهم أصفى وأعمق للماضي، وعلى خشبة المسرح الذي غادرتـه البوارج وزوارق الإنزال وتلاشت من سمائه ألسنة اللهب وسحائب الدخان رحت أستعيد، لا تاريخ الحرب العالمية الثانية وحده في هـذا البقعة، بل تاريخ هذا البلد الذي كنت أقف على إحدى قممه الجغـرافية والتاريخية.
"إنها مفتاح كل شيء"- كانت هذه هي العبـارة التي وصف بها نابليون جدانسك، ولعلها صنعت أصداءها في (دماغ) هتلر فبدأ بها اجتياحه الجنوني، رغم أن هناك من الأسرار ما يوحي بأن الحمقى يقعـون في مصايد التاريخ لتنفيذ مخططات كونية جهنمية دبرها شيطان عالمي أو شياطين عدة. لم أر في جدانسك وحدها "مفتاح كل شيء" كما قال نابليون، لكنني وجـدت في بولنـدا جميعها المفتـاح لفهم مـا استغلق من أمر أوربا والأوربيين، ومن ثم الغـربيين الذين لا أخفي اعتقادي في أن أنـانيتهم كانت طريق الشر الذي مشت عليه طويـلا وكثيرا الأقدام العارية للإنسانيـة المعذبة، والأمر هنا لايقتصر على شعوب الجنوب التي استعمرهـا واستغلها البيض، بل تعداه إلى الجنس الأبيض ذاته، فأنانية هذا الجنس لم تمنعه من أكل لحم أشقائه البيض عندما كانت تستبـد به الشهـوة والفجعة. وتـاريخ بـولنـدا خـير دليل، وجغـرافيتها كانـت موقع الاختبار، وهو اختبار فشلت فيـه- إنسـانيا- تلك الأجزاء من أوربـا التي شاع بيننا إما أنها لاعـدوانية أو أنها راقية أو عظيمة. ألمانيـا وروسيا وحتى السويد والنمسا كلها كـانت سواء في تـاريخ التكالب على لحم بولندا المهيض، فبعد وحدة بـولندية سويـدية قصيرة العمر اشتعلت حرب طائفية على أسـاس من عداء الأغلبيـة البروتستانتية اللـوثرية السـويدية للبـولنـديين الكاثوليـك الروم، وكان الغزو السـويدي المأساوي الكبير عـام 1655، حيث فقـدت بـولنـدا ربع مساحتها وأحرقت قرى وأبيدت مـدن ولقي أربعة ملايين إنسـان (من بين سكان بولندا البالغين آنذاك عشرة مـلايين) حتفهم في الحرب والمجـاعـات واجتياحات الطاعون.
أما روسيا القيصرية، المنغلقة والثقيلة، فإنها كانت كلما تململت تمد مخالـب الـدب وتنهش من لحـم بولنـدا، فعندما أصـدرت بولندا دستورها الليبرالي (وكـان ثاني دستور ليبرالي في التاريخ الحديث بعـد الولايات المتحدة) أرسلت القيصرة إيكاترينا قواتها الكاسرة لتحطيم الليبرالية البولنديـة التي أزعجت نظامها التقليدي. ولم يمض عام 1795 حتى تم تقسيم بولندا بين روسيا وبروسيا (متضمنـة ألمانيا) واختفى اسم بولندا من الوجود لمدة 123 سنة! إذ لم تعد بولندا إلى الظهور إلا بعـد انكسار ألمانيا والنمسا في الحرب العالمية الأولى وانشغال روسيا بحربها الأهلية عام 1917، وتحين المارشال البولنـدي بيلز يودسكي الفرصة لإعلان استقلال بولندا من جديد في 11 نوفمبر عام 1918.
إن ذلك التاريـخ من الانتهاك المتواصـل خلق- في ظني- نزوعا بولنديا خاصا على مستوى سيكولوجية الشعب وطمـوحـه السياسي. وهـو مـا يمكنني تلخيصه في كلمتي الحريـة والرحيل. فـالبولنديون مهووسون بـالحرية ولو إلى درجة الفـوضى وميالون إلى الرحيل كلما استبد بهم الأسى. ومن الطرائف التاريخية التي قد تؤكد ذلك أن بولندا شهدت أغرب نظام سيـاسي في الفترة من 1772- 1795 وهو "الجمهورية الملكية" حيث كـان الـبرلمان البولنـدي (سيجيم) يختار الملك بالانتخـاب! وفي عام 1625 طبق الـبرلمان نظام "ليبروم فيتـو" وفيه كـان صوت عضـو برلماني واحـد كفيلا بحل الـبرلمان أو إبطـال قانون يجري الاقتراع عليه أو إعادة أي قانون جرى الاقتراع عليـه إلى التصويت من جـديـد، ومن ثم لم ينجح هذا البرلمان في تمرير قانون واحـد لمدة ثلاثين سنة! هذا عن عشق الحرية، أما عن السفر.. فيكفي أن نذكر أنـه عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى هاجر إلى الولايات المتحدة أربعة ملايين بولندي من أصل مجموع السكان البالغ عددهم آنـذاك عشرين مليونا. أي أن خمس السكان رحلوا!!.
هكذا كان الماضي، لهذا جاء التضييق الذي صنعته الشيوعيـة العسكرية (على النمط السوفييتي) مغالطة تاريخية لم تنسجم أبدا مع الروح البولندية التي لم تكف عن التمرد حتى كـانت ورقة الـدومينو الأولى التي أوقعت صف الأوراق الأخـرى المهيأة للوقـوع في أوربا الشرقيـة أو الكتلة السـوفييتيـة. فـماذا عن الحاضر؟ وهل تعلن بـولنـدا عن تمردهـا بشكل جـديـد، بعد أن تخلصت من الشيـوعيـة ولجأت إلى الـرأسماليـة فلم تعثـر على الخلاص كما بـدالي من استطلاع رأي البولنديين الذين كنت ألتقي بهم على الأرض، وحتى في الهواء؟. فقـد أخبرتني جـارتي في الطائرة المتجهة من جدانسك إلى وارسو وهي طبيبة فاتنة حديثة التخـرج تدعى فيرا الباتروس: "لم يعد العيش ممكنـا، المرتب لا يكفي لشراء حذاء جـديد.. إنني مسافرة،. ثمة فرصة عمل هناك ". لكنها لم تقل لي تحديدا.. أين، وماذا ستعمل؟.
طيران فوق الأخضر.. وهبوط!
تعجبت. ومازلـت أتعجب من أمر بولندا. فمن حدود بولندا مع ألمانيا، حيـث كانت نقطة دخـولنا، وحتى كراكوف ثم وارسو، لم أر إلا اللون الأخضر.
ومن جـدانسك إلى وارسـو.. لم أر إلا اللـون الأخضر.
وفي كل الاتجاهـات، وعلى كل المحـاور، من الأرض، ومن الجو.. كـان اللون الأخضر.
خضرة غـامرة وفتيـة تمتد لتغطي كل التضاريس التي تهبط وتصعد في مدارج وآفـاق تشرح الصدر وتسر النظر، خضرة مترعـة بـالارتـواء من أنهار وبحيرات يبلغ عددها في بولندا 2561 بحـيرة!!.
خضرة تبارك جنة صيادي الأسماك والحيوانات البرية في منطقة.. ما زوري..، وغابات السهوب في بيالوفيجـا، وتلال سوبوت التي تقبـع بين أشجارها الوارفـة "أوبرا الغابة"، ومرابض الخيول البولنـدية القزمية "تاربـان " في بوبيلتو. خضرة ينبسط منها 19 مليون هكتار من الحقول، وثـمانيـة ملايين هكتار من الغابات.
خضرة هي عماد الحياة، إضـافة إلى قاعدة صنـاعية متطـورة، وأسـاس علمي يقـوم على أكتـاف 430 معهدا للأبحاث العلمية و 89 معهـدا للتعليم العالي من بينهـا عشر جـامعـات، وشعب نشط وجيـد التدريب يبلغ تعداده أربعين مليونا.
فلماذا يشتكي النـاس؟ بل إن البسطـاء منهم يصرخـون؟ لماذا؟! سألت، فقيل لي إنـه الانتقـال السريع من الاقتصاد الاشتراكـي المخطط إلى اقتصاد السوق الـرأسمالي. ففي عام الإعلان عن بدء تطبيق (الإصلاحات الاقتصادية) ارتفعت الأسعار 250 %. وهبط الدخـل القومي 40%. وقيل لي إنـه الفساد في زمن الانفتاح ومثالـه الصارخ شـابان بولنديـان في العشرينيـات هما يوجيوسلاف بـاجسك وجاسيو رفسكي اللذان أسسـا شركة تجاريـة وظفت خـلال ثلاث سنوات 15000 بولندي وافتتحت لها 200 فرع. وتبين أخيرا أن رجلي الأعمال الشابين احتالا على البنوك البولندية فنهبا- دون ضمانات- ما قيمته 3. 4 تريليـون زلـوتي (وحـدة النقد البولندية) وفـرا إلى الخارج، وقال في شـأنهما ليش فاليسا: "أتمنى أن تعود نقود الشعب إلى بولنـدا".. و"كل من كـانوا في هـذه الشركة سينالون عقاب أفعالهم "، لكن هناك من يقول إن الرشاش يمكن إن يصيب فـاليسا نفسـه، فهـذه الشركـة كانت تسهم في الحملة الانتخابيـة للكثيرين ومنهم فاليسا (ان كان هناك من ينفي ذلك).
الاحتيال، والجريمة، شبح يضع بولندا في مـأزق محير، ففي عام 1993 وحـده سرق 5. 4 تريليون زلـوتي، و 55 ألـف سيـارة، وارتفعت حـالات الاغتصاب والقتـل. ويعلق على هـذه الصـورة المخيفة، مقارنة مع الماضي، "انـدرج رزبلينسكي " أستاذ القانون في جامعـة وارسو قائلا: "لم يكن هناك فقير فقرا ملحوظـا ولا غني غنى ملحـوظا، وكـان حمل السـلاح محرمـا". أمـا الكاتب.. "بيتردو كـازفسكي " فيقول: "إن الجريمـة في ارتفاع يـماثل ارتفاع نسبة اللامبالاة في المجتمع".
وإنه الإحباط.. الإحباط، الذي قـد يدفع بولندا إلى استعادة ما كانت تخلت عنه طوعا، ففي مجال الصناعات العسكرية- كمثال- كانت بـولندا سابع أكـبر دولـة مصدرة للسـلاح في العـالم ونتيجـة (للخصخصة) وتحويل قطاعات الصناعة العسكرية إلى مدنيـة، لم تجن من ذلك إلا الكساد في جرارات وحفارات المناجـم التي أنتجتها- بدلا من الدبابات- رغم امتيازهـا، فصناعة المناجـم البولندية نفسها قد انهارت. كسـاد ومنتجـات لا تجد رأسمالا ولا تكنـولوجيا للتطوير و000. 180 فرصة عمل ضائعة كانت توفرها الصناعات العسكرية. كل هذا قـد يـؤدي إلى رد فعل عكسى. وعـودة عـارمـة وانتقامية من الغرب- الذي أغرى بالتخلي واختفى - إلى سـوق السـلاح، وهـو مـا يعبر عنـه "جـان ستراوس " مديـر فريق الهنـدسـة المركـزي للجنة الإشراف على التجـارة العسكريـة قائلا: "نحن أمة أكـبر من الاكتفـاء بعمل لا شيء أكثـر من الجبن المطبوخ وصناعة السلال".
إنها زمجرة غضب بـولنـدي، وجـدناهـا مكتـومـة ونحن نشاهد مقتنيات المعـرض الحربي في وارسو وهـو يجاور معـرض الفن الـوطني جـدارا لجدار.. كانت طائرات الميج 23 والدبـابات والمروحيـات متعددة الأغراض والصـواريـخ متوسطـة المدى.. كانت هـامدة يأكلهـا الصدأ بينما مقتنيات متحف الفن المجـاور تتألق. فهل يـدوم تقـاسم الانطفـاء والتألق على هـذا النحـو إذا بلغ الإحبـاط مـداه؟ الشك يعتري الجواب وهذا بعض من حـيرة بولندا.
وارسو القديمة الجديدة
من قمـة بـرج "قصر الثقـافـة والعلم " يمكن رؤيـة وارسـو من كل الجهات. في الشرق رأيت قلب المدينة العصري يمتـد بـامتـداد شـارع "الجـيروزوليمسكي " الكبـير حتى ضفـة نهر "فيسوا"، حيث تشرئب البيـوت جمالونيـة السقوف والأبراج وسط أكمـة الشجـر، وفي الشمال مع انحنـاءة النهر كانت كتلـة المدينة القديمـة "ستاريفا ميـاستا " تضيء وتعتم سقوفها القرميدية الحمراء تبعا لمرور السحب فوقهـا. وفي الغرب كـانت الغابـات عميقة الخضرة تمتـد حتى الأفق. أمـا في الجنـوب فقـد وقفت في سكون أبنية وارسو التي يعود تاريخ بنائها إلى ما بعد الحرب العـالميـة الثانيـة ومن ورائهـا تنتصب العمائر العملاقـة وليدة عصر الانفتاح وأظهرهـا كان بنـاء فندق ماريوت المكسـو بـالزجـاج الأزرق الفضي، يبرق ويلتمع في مـواجهـة رسوخ وجسـامة "قصر الثقافـة والعلم " الذي تغير طلاؤه الأبيض المصفر. مـواجهـة ذات مغـزى بـين عصرين، وفلسفتين، وطرازين معماريين يمثـلان أعلى بنايات العاصمة البولندية. فـ "قصر الثقافـة والعلم " بناء أقامه الاتحاد السـوفييتي هـديـة لـوارسـو- في الخمسينيـات- وفيـه تتجسـد كل ملامح عمارة " الـواقعيـة الاشتراكية" من العهـد الستـاليني، بناء هـائل، في طـابقـه الأول الفسيح مسـارح أوبرالية وأخرى تجريبيـة، ومكتبة ضخمـة يقام فيهـا معرض للكتاب كل عـام، وقاعة للمؤتمرات تسمى القاعة المخمليـة وهي مخصصة للمنـاسبات والاحتفـالات الكبرى، وعلى مـدى الطـوابق الثـلاثين تترامى استديوهات للفن وقـاعات للثقافة ومختبرات علمية لكن الكثير من هـذه النشـاطـات أفسحت مكـانها (للبزنس) الزاحف على وارسو كالصرعة أو الهوس. وثمـة لافتات تـوشك أن تكـون استجـداء لرجـال الأعمال حتى يؤجروا مكاتـب في عقر دار"الواقعية الاشتراكية" أمـا ماريوت فهو أفخم فنادق وارسو، وهـو مبني بـاستثمارات أمريكيـة على نمط نـاطحـة سحاب متوسطـة من المعدن والزجـاج تـبرق عاكسة ضوء الشمس كأنها تخايل البناء الواقعي الاشتراكي وتسخر من هوانه على الناس والزمان. والزمن زمن السـوق، نهبط لنجـوس فيه وقـد ضرب حلقته من حول قصر الثقافة والعلم كأنه يمعن في إهانته دون اعتراف لـه بأي فضل أو فضيلة، فثمـة مدينـة للملاهى، وأكشـاك لتجـارة الـرصيف، وأخـرى لعرض افلام الفيديو الإباحيـة، ومطاعم هامبورجر صغيرة، وأرائك تحت الأشجـار تلوذ بظـلالها بنـات الهوى الصغيرات الضائعـات في الفـاصل بـين انسحاب زمن وزحف زمن آخر.
نعبر النفق الموصل إلى ضفـة الشارع الأخـرى حيث المتجر الكبير والمسرح الصغير (ماوي تياتـر) ومحلات البيتزا هوت وكنتـاكي ومكدونالـد، فنجد على الدرج ربات البيوت وأرباب المعاشات والذين فقدوا أعمالهم يعملون في تجارة الشنطة على الرصيف وفرقـة جوالـة صغيرة تعزف " المازوركـا" البولنـدية الـراقصة في أحـد الأركـان تاركـة عنـد الأقـدام قبعة تسأل العطـاء، وفي الظلال هنا وهناك تتسـاحب تجارة العملة والمخدرات وبضاعة الجنس وتتأهب الجريمة للانقضاض فنسرع الخطو حتى نخرج إلى نور الرصيف.
على الرصيف تموج صور شتى، حركة التدفق من الشبـان والشـابـات على محال الأطعمـة الأمريكيـة السريعة، وبـائعات الملابس الرخيصـة اللائي يخبئن وجوههن أمـام عـدسـة الكـاميرا، وشـاب يتربع الأرض منكفئا على كتاب يقرأه وقد وضع على رأسه لافتة صغيرة تقول إنه أصيب بالإيدز دون ذنب وهو يطلب المسـاعدة حتى تمضي أيامه الباقية في الحيـاة بسـلام، وفتاتـان وفتى يـوزعون منشـورا لمجموعـة دينيـة مسيحيـة مقرهـا زيوخ في سـويسرا اسمها "العائلة" تعادي اليهود وتتنبأ بكساد عالمي تنهار فيه العملات وتفلس البنوك وتشتعل النزاعـات فيظهر قـائد يوحـد العالم ويقيم سلاما ظـاهريا ويـدعي الألوهية فيسجـد له كثير من النـاس حاملين رقمـه الألكتروني 666 ليأكلـوا به ويشربوا، لكـن المنشور يحذر الناس من الولاء لهذا الكاذب لأنه بعد ثلاث سنـوات ونصف سيبدأ في إشعال الحروب ومن ثم تجتاح العـالم موجة من الأوبئـة والكوارث والمذابح. لكن بعـد 1260 يومـا بالضبط سيظهر "المخلص " ويقيم العـدل والسلام الحقيقي في العـالم تمهيـدا للقيامة. إنه هاجس الحرب الكـونية والنهايـة الذي يؤرق كثيرا من المحبطين في كل أنحـاء العالم، ولقـد أثقل على صـدورنا في هـذا الجزء من مركـز مدينـة وارسو، فانطلقنـا مبتعدين إلى الجانب الآخر في اتجاه الشمال وعبر طريق "العالم الجديد" (نوفي سفيات). إلى الركن البديع من وارسو والـذي لا تكاد تضاهيه جمالا أي أركان أخـرى في مدن العـالم، إنـه "المدينـة القديمة".. ولكنها ليست قديمة أبدا...
عبر الطـريق المتقوس بلطـف، وفي ظلال أشجـار الـدلب والحور، وأمـام واجهات البيوت الجميلة الأليفة، وفي وسـط من النظافـة الفائقـة والهدوء كنا نوغل بـاتجاه إحدى معجزات وارسو، فـوارسو التي تنطق بـالبولندية "فـارسافـا" يحكى أن اسمها هذا منحوت من اسمي حبيبين هما فـارس وسافـا، فهي مدينة للحب الذي يبـدع كل جميل وينجز المعجزات .. ووارسو- خاصة في ركن المدينـة القديمة- تمثل معجزة كأسطـورة طـائر الفينيق الـذي ينبعث من الرماد انبعـاثـات بـلا نهايـة وبـلا كلل، فـالملك "زيجموت الثـالث " الذي رأينا مسلته التي يعتليها تمثالـه شاهـرا سيفه عنـد مدخـل المدينة القديمة في ميدان القلعـة الملكيـة السـاحـرة، اتخذ من وارسو عاصمة لبولندا- بعد كراكوف- عام 1596، لتكون بعيدة عن الحدود وعن متناول الغزاة، وتكـون في طريق القوافل التجارية بوسط أوربا. لكن الأوقات الهنيئة لم تدم طويلا إذ جاء "طوفان " الغزو السويدي في القرن السـابع عشر فدمر وارسـو وأباد الكثير من أهلها. ونهضت، ثـم تكـرر الـدمـار والإبـادة في النصف الثـاني من القرن الثـامن عشر. ونهضت، وتكررت موجات التدمير والإبـادة حتى كان آخرها وأكبرها في الحرب العالميـة الثانية، إذ في الفترة من 1939 إلى 1945 تم تـدمير 5. 84 %. من كل مباني وارسو. وكـان النهوض معجـزة رأيناهـا بأعيننا في "المدينة القديمة " الساحرة، ميدان القلعـة الملكية، وميدان السوق، وشارع "فريتا" الذي يقع فيه منزل ماريا سكلود وفسكايا كوري (عالمة الفيزياء الشهيرة والحاصلة على جائزة نـوبل مرتين ومكتشفة عنصر الراديوم المشع)، والكاتـدرائية التي كـان يقيم فيها شـوبـان بعض حفلاتـه الموسيقية، والأخرى التي تضم رفات قـادة وفنـانين وشعـراء منهم هنري سينكيفتش الحاصل على جـائزة نوبل. كأن الروح الدينية لبولندا تتخلل كل إبداعاتها.
تمشينا على مهل في المدينة القديمة، وجلسنا تحت مظلات مقاهي الميدان المفتوحة، وشاهدنا الحفلات الموسيقية المقـامـة في الهواء الطلق.. تأملنـا صفاء الكهرمان العسلي الشفاف- الذي تشتهر بـه بولندا- وألق الكـريستال البولوني البارق بومضات كل ألوان قـوس قزح. لكن بهجـة النظر غذاء الـدهشة كانت كلها ماثلة فيما نتأمله من بيـوت تعرض طرزا معمارية تمتد على مساحة سبعة قرون. رغم أن عمرها أقل من نصف قرن. إذ جـرى تشييدها، جميعـا، وبنفس شكلها القـديم، بعد الـدمار الشـامل الذي لحق بها في سنوات الحرب العالمية الثانية. العمارة هي كنز الخيال الإبداعي للشعـوب، وهي ثقافة حية توشك أن تتكلم، إذ فهمنا شيئا من لغتها.. ولكم نظرت وأمعنت مبتهج الروح وأنا أتأمل هذا الكنز الناطق بالأشكال والألوان في كتلة أبنية المدينة القديمة.. كنز قرون عديدة... فمن القرن الثالث عشر والرابـع عشر كـانت هنـاك الأبنية القـوطيـة (الجرمانيـة) ذات الأقـواس العالية مـدببـة القمم والعليـات المشرئبة فـوق الـدعامات، ومن القرن السادس عشر رأيت طراز عصر النهضة الإيطالي حيث روعة المنظر ودقة النسب والنقوش البارزة والأروقة ذات العمـد والأقـواس المدورة والجص النـاصع المشغول. ومن القرنين السـابع عشر والثامن عشر رأيت طراز الباروك المثقل بسرف الزخرفة وبهرجـة (الديكور) ومن النصف الأول من القرن التاسع عشر أمعنت في عمارة (الارتـداد المتطـور)، حيث أضيف مقطع " Neo " ليـدل على التنـويـع الحديث للطـرز القديمة، فكـان الطراز (الكـلاسيكي الجديد) الذي استخدم طراز العمارة اليونانية والرومانية وتخلص من زوائد زخرفة الباروك والروكوكو ومنه كانت القصور ذات الأروقـة المعمدة عند المداخل، والكنائس التي تشبه هيكل آلهة الرومان "البـانثيون". ومن النصف الثـاني من القرن التـاسع عشر رأيت طـراز الخليط electicism المنتقى من كل ما سبق.
سبعة قرون من الجـمال أعادها البولنديون المولعون بالترميـم والإحياء، فكانـت بهجة للناظـرين. وعلى أطراف هذه المدينة القديمة، وبقرب المسرح الكبير المشيد على نمط الكلاسيكية الجديـدة، كانت آخر انطباعات الجـمال الذي أرتنا إيـاه بولندا... سهرة مع فـرقة "بـولاني " للفن الشعبي.. لقد استقبلونـا على البـاب بـالموسيقى والأزيـاء المزركشـة والغنـاء والوجوه الجميلة الضاحكة و"العيش والملح ".. ثم غمرتنا إيقاعات قرن من الموسيقى الشعبية البولندية " الكوجافياك " و" البولونيز" و" الكراكوفياك "، دورات من الحركة الملونة كانت ذروتها رقصة البولـونيز التي تشبه موسيقاها وتشكيلاتها شرائط من ورق العيد الملون تطير متقـدمـة متموجة، الأيادي في الأيادي والركض مع الموسيقى، مرح لا يستثني أحدا حتى أننا استسلمنـا للأيـادي الرقيقـة التي اختطفت أيـادينا لنركض في الطابور الطويل المتداخل والمتقاطع والملون والمحلق بنغمات البولونيز شفافـة الأجنحة. لحظـات منتزعة من قلب الحيرة التي تمسك بقلب بولندا، ويا لها من لحظات بهيجـة قـالت لنا إن كل الشعوب جميلة عندما تغني، وعندما تغني بولندا الفاتنة تنجاب أمائر حـيرتها وتتألق الفتنـة التي لا مثيل لها في قلب أوربا. فليته يستمر الغناء.