وهذا شاعر قتيل على منصة مسورة بشجن مرير وحزن قاس ووجع حاد وشعر محتشد بالتفاصيل اليومية لإنسان القرن العشرين.. وموت متصل بالحياة عبر بوابة الظنون المستبدة بمسرح الناس.
صلاح عبدالصبور.. الشاعر الذي اشتكى قسوة الناس في بلاده وكأنه يعلن عن عجزه عن الدفاع عن نفسه أمام تلك المحكمة المعنوية التي أقامها له العديد من أصدقائه وزملائه من المثقفين فانتهت إلى أن تكون تلك المحكمة وشماً لليلته الأخيرة في خضم الشعر والصداقة والحياة.
كان الشاعر مدعوا ضمن مجموعة من المثقفين في بيت أحدهم، ولم تكد السهرة تبدأ حتى بدأت جلسة المحاكمة التي مارس فيها الجميع تقريبا مهمة الادعاء ضد الشاعر الحزين، وتوحدت الاتهامات ضده على خلفية مسئوليته الوظيفية في حكومة بلاده.
كان المناخ القومي في بلاد العرب ملتبسا في درجة حرارته، تحت وطأة سلام الاستسلام الذي تبناه النظام السياسي المصري آنذاك مع الكيان الصهيوني، وكان المثقفون المصريون يرفضون ما عرف بسياسة التطبيع التي دعت إليها حكومة بلادهم مع العدو التاريخي للعرب، لكن عبدالصبور المسئول عن معرض الكتاب في القاهرة آنذاك خضع للإرادة الحكومية وخصص لدولة الاحتلال الإسرائيلي جناحاً في المعرض بالرغم من عدم إرادة زملائه المثقفين المصريين والعرب، فكان للظنون القومية به طريقها المشروع، وكانت تلك السهرة أداتها في طعن الشاعر بقلب قوميته تحديدا. ولم يحتمل قلب الشاعر المتهم البقاء تحت تلك المظلة المهينة، ولأنه لم يستطع الدفاع، وربما لم يرغب فيه، فقد توقف ذلك القلب فجأة معلنا عن فض تلك السهرة على أنقاض شاعر حزين.
بدا الموت في تلك اللحظة الفارقة فصلا مريرا من فصول الشاعر المراوحة من بين الثورة على مألوف الشعر، والاستسلام لمتطلبات الزمن السياسي، الخاضع لجبروت الواقع الملتبس آنذاك. وكان الشهود أكثر من أن يكونوا مجرد شهود، وأقل من أن يكونوا مجرد جلادين، فظلت نبوءة الشاعر المسالم والمهادن معلقة على حافة الألم كجرح مفتوح على احتمالات المستقبل.
ولد محمد صلاح الدين عبدالصبور يوسف الحواتكي العام 1931 بمدينة الزقازيق المصرية، وفيها تلقى تعليمه في مراحله الأولى قبل أن ينتقل إلى القاهرة ليتخرج في كلية الآداب في جامعة الملك فؤاد الأول، ثم يعمل في سلك التعليم. لكنه ما لبث أن تركه ليعمل في الصحافة ووظائف حكومية أخرى. وفي أثناء ذلك كان يتلمس طريقه الشعري وحيدا. ففي ديوانه الشعري الأول وضع يده على صورته المفضلة للشعرية فكان «الناس في بلادي» هو عنوان الديوان، وهوية الشعر وشجن الشاعر أيضا، وفي تلك المجموعة برز عبدالصبور شاعرا مختلفا ليس على صعيد البناء الشعري الحر والذي سبقه إليه بعض زملائه العرب، وخصوصا في العراق بل على صعيد الرؤية الإنسانية الواعية بمشكلات الإنسان المصري في ذلك الوقت تحديدا، خاصة أن الشاعر أحاط ذلك الوعي بهوامش فنية غير مسبوقة، مزج فيها ما بين الملهاة والمأساة بسخرية سوداء وطرافة مريرة.. ودائما باحتراف شعري بديع. وكان الموضوع الاجتماعي هو موضوعه المفضل الذي دلف إليه من بوابة التفاصيل اليومية، وعبر لغة، على الرغم من فصاحتها، فإنها تميزت بسمت عامي يوحي بالدارج من المفردات ذات الطابع الشعبي الخالص.
وعلى الرغم من حنق النقاد على ذلك الأسلوب الذي تميز به عبدالصبور فإنه أصر عليه في ما أصدر من كتب شعرية بعد ذلك، مكرسا نفسه كأحد أهم الشعراء العرب المعاصرين الذين أنزلوا القصيدة العربية من سماواتها العلوية إلى إسفلت الشوارع الخلفية.
أما إنجازه الأكثر فرادة فتمثل في المسرح الشعري الذي أعاد إليه الروح عربيا، بعد إنجازات أحمد شوقي الرائدة في بدايات القرن العشرين، بكتابته لعدد من المسرحيات التي لم تخرج في همومها العامة عن انشغالاته الشعرية المميزة. ومن أبرز عناوينه المسرحية ؛ «ليلى والمجنون»، و«مأساة الحلاج»، و«مسافر ليل»، و«الأميرة تنتظر»، و«بعد أن يموت الملك».
وحفلت حياته الشعرية القصيرة نسبيا بعدد من الدواوين أكمل فيها ما بدأه في ديوانه الأول ومنها «أقول لكم»، أحلام الفارس القديم»، و«تأملات في زمن جريح»، و«شجر الليل»، و«الإبحار في الذاكرة». وكمن يستشرف موته - أو ربما يستدعيه - نثر صلاح عبدالصبور حياته في عدد آخر من الكتب ذات العناوين التي ترسم خريطة الرحلة ومنها»؛ «حياتي في الشعر»، و«أصوات العصر»، و«رحلة الضمير»، و«على مشارف الخمسين».. حيث انتهت الرحلة فعلا على مشارف الخمسين من عمر الشاعر في ليلة من ليالي العام 1981، وكانت ليلة قاتمة وملبدة بالشكوك السوداء تجاه شاعر الشجن والصمت الحزين.