مختارات من:

محمد المخزنجي.. خمسة وجوه للقمر

داليا سعودي

عند نقطة البداية، إذ شرعتُ في مقاربة أدب الدكتور محمد المخزنجي، توقفتُ حائرةً. كحيرته هو يومَ وقف مأخوذًا ما بين بوابة الهند وتاج محل، لفرط ما رآه من عجائب تهز الروح وتُربك القلم إذا ما أراد أن يكتب كل شيء فإذا به مهدد بألا يخطَّ أي ًّ شيء. أظنها الحيرة ذاتها التي تنتاب كلَّ من أراد الكتابة عن منجزه.. أو جزء منه.. أو حتى جزء من الجزء. فمشكلة الكتابة عن هذا الأدب السخي إنما تكمن في استحالة الإحاطة بكامل أسراره، لغناه الباذخ بكل المدهشات الإبداعية المركبة. فهنا مزيج باهر من العلم والفن والحكمة، يصوغه حكيم عارف بدفائن النفس البشرية، ومسافر مستديم في بلاد الله الواسعة، ومفكر متأمل في المخلوقات وسائر المدركات، بروح فنان نقي حريص على الرفعة وعلى العمق في آن، يظل محتفظًا بمزاج أمير صغير ثائر، لا ييأس، ولا يتخاذل، ولا يفقد لحظةً عذوبة الشجن.

لذا تراني حائرة.

... وكعادتي، حين يحزبني أمر، ها أنا أفتح الشرفة على اتساعها، التماسًا لبراح البستان وتطلعًا لأنوار السماء. وهناك، فوق مدارج العشب وذؤابات الشجر، أطل القمرُ في الأعالي.

صاحبتُ قمري الجميل هذا منذ بداية الشهر، حين رحتُ أقرأ قصص المخزنجي، الواحدة تلو الأخرى، وكان هو بعدُ هلالًا ماسي التألق، قادمًا من منزلة المحاق. ثم تابعته وهو يزداد ألقًا وسخاءً في شاكلة تربيع أول، حتى بلغ مرتقى الأحدب المتوهج. وها هو الليلة بدرٌ كامل النور، كامل الاستدارة، وإن بدا لي بوجه إنساني تطل منه الألفة والسكينة. وفي لحظة غامضة، يصح إدراجها ضمن الباراسايكولوجيات، راح سطح القمر يعكس تباعًا بعضًا من أسرار نصوص المخزنجي الفاتنة، فظل يبدل الوجه تلو الآخر، حتى رأيتُ منه خمسة وجوه.

عجيب أمر ذلك الأدب السحري الذي يغير نظرتك للكون وللأحياء وللجوامد. فلا أنتَ أنتَ بعد القراءة، ولا القمر هو القمر.

المدهش

في المدرسة الابتدائية، كان محمد المخزنجي هو ذاك الطفل الملقب بـ «المندهش». دائم الشرود كان في مجلسه الأثير إلى جوار النافذة، متقد الذهن منفتح المسام على ما يحدث خارج الفصل، يلتقط كل ما يشحذ ملكة الخيال، فيقص أثر سحابة سابحة في السماء، أو قطة متقافزة تطارد فراشة. مسروق كأنه من عالمنا المبتذل ليرسم عالمًا موازيًا لنفسه، الدهشة فيه هي أولى مراتب الحكمة، وإن مرت بصعلكة الصبا في أسفارٍ فوق أسطح قطارات أو في عربات مضعضعة. وبمرور السنين، إذ قادته مراكمة الرؤى إلى عالم الأدب، صار «أكسير الدهشة» هو محرك «جهاز القص» في داخلته، ووقود آلة الخيال.

ولاستقطار هذا الرحيق المصفى، كل المصادر سائغة، من مكتشَفات علمية، إلى حالات نفسية، مرورًا بظواهر الكون، وخوارق الحواس وما فوق الحواس. فالمخزنجي، قاصًا وصحفيًا، يدمن نشوة «الأدرينالين»، تلك التي تشتعل في عروقه وفي كتاباته حين يلقي بنفسه في قلب الخطر، لتنتشله المغامرة من وجوده العادي وتدفع به إلى مشارف خافية من عالمنا. فها هو يمضي في ربيع كييف «المزدهر بتوحش» تحت مظلة الرعب النووي الناجم عن كارثة تشرنوبيل، ضاربًا عرض الحائط بتعليمات الوقاية من الخطر الإشعاعي، ليتحرك بحرية في كل الأماكن، وليكتب لنا رائعته «لحظات غرق جزيرة الحوت»... تلك الدهشة العارمة، سيرقى لاستخلاصها حتى قمة إفرست الموشاة بالثلوج «لملامسة مطلق النقاء». ومن أجلها، سيجتاز «حقول القتل» في كمبوديا.. وسيحوم فوق مساقط شلالات فيكتوريا السحيقة.. ويصادف على طول دربه الممتد جنوبًا وشرقًا أفيالًا جن جنونها، وغزلانًا بلون الشفق والرمال، وخيولًا مكتئبة، ودببة عاشقة، وخلائق عجيبة تفاجئك أسرابُها وقطعانها ما إن تطأ عالمه السحري، الحافل بركام كوني من الأصوات والألوان والأعطار.

لكن الدهشة في عالم المخزنجي، حتى وإن أدارت رأسك، فلن تسلمك للانذهال. ذلك أن صاحبنا لا يغفل أبدا عن تنبيهنا إلى مكمن المعنى العميق في المدهشات. فهو لا يصف لنا روعة تاج محل من دون أن يطلعنا على عدالة السماء التي اقتصت من الإمبراطور «شاه جيهان». ولن يصور لنا جمال كاتدرائية فاسيلي في الميدان الأحمر، من دون أن يخبرنا بما وراء هذه القلعة المهيبة من قسوة آلت بصاحبها القيصر إيفان الرهيب إلى الجنون. وهو لا يحكي لنا عن «الإلهة الحية»، كومارا فيشي الطفلة النيبالية، من دون أن يبين لنا محنتها ما بين الألوهية والعنوسة، ويبدي لنا تماثل حالها مع محنة بلادها الضائعة ما بين الفيضانات الغامرة والقحط الشديد. فالمدهشات المخزنجية ليست محض بُهرج فتان يشاغل الحواس، إنما هي بالأساس دراما كاملة من عِبر روحية والتماعات عقلية لا يقدر على إبصارها سوى أمثاله من أولي الألباب.

ذاك هو الوجه الأول. الوجه المدهش. لاح لي على صفحة القمر.

المتفرد

في متحف تشيخوف، وقف صاحب «أوتار الماء«جاحظ العينين أمام حقيبة مصنوعة من جلد الغزال كانت تخص عميد القصة القصيرة الروسي. هي ذات الحقيبة التي حلم بها المخزنجي وهو طفل في العاشرة وألح على أمه في طلبها. مثل تشيخوف سيصبح طبيبًا، ومثله سيمتلك «كنزًا من الذهب السحري» في يمينه. موهبة ستكون هي الكفاية والعزاء. ومثل المخزنجي، كان تشيخوف بشهادة جوركي «رقيقًا في حيائه، جميلًا في بساطته، يحب كل ما هو أصيل، وجوهري، وصادق»،‏ «ويكره الطنطنة، والزينة الزائفة المسرفة». هو أيضًا كان نقيًا في تواضعه، مسالمًا يكره الصدام، مع مقدرته التامة على التصدي لأي قوة ظالمة بصلابة لا تلين.

تشيخوف والمخزنجي، كلاهما شب وسط مناخ سياسي مستبد، وكلاهما يظهر معرفة عميقة بعذابات الإنسان، كلاهما بدأ بالقصة شديدة التكثيف شديدة التركيز عالية التوتر، فـ«الإيجاز قرين الموهبة»، كما كتب تشيخوف. لكن سمة المخزنجي هي زاوية الإبصار فائقة الرحابة التي تُدخل الكون كله في حيز القصة المقتصد. فالهمُّ الإنساني سابق عنده ومقدمٌ على الهم الاجتماعي، وإن تجاورا في طبقات النص. ولعل هذه النظرة الرحبة السمحة هي التي تنفي عن أجوائه وعن شخصياته، مهما اشتدت عتامتها، ما نلمسه عند القصاصين عادةً من يأس وسأم وسوداوية وانحطاط روحي. فأبطاله لا ينتحرون، حتى وإن بلغ بهم القنوط أن يلفوا المشانق حول أعناقهم ويعلقوها في شباك الزنزانة الضيقة، فهم أبدًا لا يقطعون الحبل. ويتشبثون بالحياة.. «فالحياة طيبة برغم كل شيء». وهو حُسن ظن نادر بين أعلام القصة القصيرة، يتفرد به المخزنجي دون غيره.

فها هو قد أفلت حقيبة تشيخوف الملأى باعتادية الملل، وخلع معطف جوجول الهزلي المهلهل، وتحاشى جرائمية إدجار ألن بو المجانية، ونجا من هلاوس موباسان الذهانية، وسلم من اكتئابية همنجواي المهلكة، ونأى عن تهكمية يوسف إدريس الصاخبة، وطفا فوق سلبية مجايليه النمطية. ليكون هو نفسه: ذلك المتفرد بالأمل.

«أنا لن أجن»، تلك هي الصيحة التي يرددها البطل في بداية ونهاية قصة «البستان» وهو يبكي فردوسه المفقود... «في قلب الزحام والضوضاء والغبار سأعود أرى وأسمع». منشدًا: «ولست بالغافل حتى أرى جمال دنياي ولا أجتلي».

فعند المخزنجي، ثمة نور في نهاية النفق... ثمة قمر.

الفنان

في التكوين الإبداعي للمخزنجي، هناك باب دوار بين العالم والفنان. بين الموضوعية المعرفية والذاتية الإبداعية، بين الملاحظة الإمبريقية والإشراقة الحدسية. بين الحياد والتعاطف، بين الانفصال والاتصال، بين الحقائق والحقيقة، بين المادة والروح... وهو القائل: «ما الفصل القاطع بين المتخيل والمحسوس إلا محض غرور. تيه فارغ بما نملكه من حواس، قد تستقبل الكثير، لكنها تعمى عن الأكثر...».

فمنهجه الفكري قائم على التعامل مع الكون على أنه وحدة واحدة، فهو بحسبه «كتاب منظور من إبداع صانعٍ مطلق العظمة، واحدٌ أحد، هو رب العالمين سبحانه وتعالى». ويؤمن المخزنجي بوجوب التأمل بين سطور هذا الكتاب على هدي من المرجعية العلمية الكاشفة، والبصيرة المهيأة لاستجلاء الخفي والخارق. لكنه يظل في هذا المنهج التفسيري حريصًا على ألا يقع في فخ جفاف العلم. فهو يقرأ العلم بعين القلب. فيبصر فيه مكامن الشعر. ليظل متنبهًا إلى أن غايته المثلى هي الأدب.

ويمكن القول بأن الفضل يرجع إلى الدكتور محمد المخزنجي في تخليق شاعرية جديدة تمامًا، تقرب الشُقة البعيدة بين العلم والفن، متفادية في ذلك غرائبية الخيال العلمي السطحي. فهي شاعرية تحوّل جوهر النظريات العلمية وأصول الطب النفسي إلى استعارات فنية مضمخة بعطر غنائي شفيف ودلالات وجودية بليغة. وفي «أوتار الماء»، على سبيل المثال، يخوض أديبنا تجربة غير مسبوقة. إذ يقدم استنباطًا قصصيًا بديعًا لنظرية «الأوتار الفائقة» الفيزيائية. نرى فيه الكون كله كسمفونية واحدة لأوتار متذبذبة تردد جميعها ذات الرنين، تتناقل عبر المكان وعبر الزمان، جوهر الحياة، الذي هو حب وعطاء وسلام بين الكائنات.

في قصص المخزنجي، يبدو جوهر الحياة قادرًا على محو الألم شريطة أن يقاوم الإنسان الضواري التي أطلقتها المدنية الصناعية المستذئبة، وأن يعود إلى صفاء التآلف مع بكارة الطبيعة الأولى، حيث المداواة بلا أدوية..

لكن فنية التعبير وجماليات اللغة التي قدَّ فيها المخزنجي أعماله هي ما يحمل هذه «الشاعرية العلمية» إلى أبعد آفاق الفن. وهو من كتب: «المسألة في القلب، وفي العمق، وفي الشعور، وفي اللاشعور أيضًا، هي.. الفن.

وإني لموقن أن ذروة العلم فن.
و ذروة كل نشاط إنساني هي.. فن..».

في الأعالي، قبل أن يبدل هذا الوجه، انطلق القمر ينشد موالًا.. وسط سماء مرصعة بالنجوم المنصتة..

الثائر

.. ولا يمكن للمؤمن بوحدة الكون، المتآخي مع عناصر الطبيعة، إلا أن يكون ثوريًا. ذلك أن هذا الإيمان يجعل صاحبه واثقًا من أنه يمتلك مع سائر الأحياء قوة مطلقة تتصدى للظلم، وتتحدى الموت، فتتلبسه «روح البطولة والشهادة اللتين هما وجهين لغاية واحدة». وهي حالة رصدها المخزنجي في نموذج حرب فيتنام، حيث قيل إن الأمريكيين قد كسبوا كل المعارك، لكنهم لم ينتصروا، لما كان من الفيتناميين من روح ثورية مستبسلة، فيتساءل أديبنا، في كتابه «جنوبًا وشرقا»، معلقًا: «كيف ينتصر هؤلاء المتحركون بالمسطرة على هؤلاء المتحركين بالأسطورة؟ مواجهة محسومة لصالح من يعتقد أن روحه ستخرج لتنتقل إلى أخ آخر: إنسان أو حيوان أو طير، وما الموت إلا ولادة جديدة. بينما الآخر يعتقد ببؤس أنه ميت بموته».

تلك هي روح الفداء التي تحرك الثائر في الميدان، والتي يتحرك بها المخزنجي في كتاباته. فمنذ براءة العمر، استخدم أديبنا موهبته في الثورة على من يشهرون القوة دون إعلاء الحق. فكان هذا «الرومانسي الثوري» هو المتهم الأول في مدينته في قضية المتظاهرين في انتفاضة الخبز في يناير 1977. تترامى إلينا أصداء تلك التجربة وغيرها في أعمال قصصية تتركز حول القمع السياسي والقهر الإنساني. فمنذ البدايات في مجموعة «الآتي»، يطالعنا نموذج «الفدائي حمزة»، ذلك النحيف الضئيل الذي كان «نسخة من ملايين الرجال الذين يهرعون عرقى وراء الأوتوبيسات، ويتزاحمون أمام أفران الخبز الأسود، ويتكومون منكسرين أمام أبواب المستشفيات المجانية..»، فما إن تتفحص قدميه، حتى تلحظ «آثار جروح غائرة، وكي بالنار، ورش بنادق فض المظاهرات». وفي مجموعتي «البستان» و«رشق السكين»، يتردد لحن الثورة في قتال المساجين المستميت ضد أسراب الأذى الليلي الأسود، وفي إصرار المسجون 13 على الغناء رغم بطش السجان، وفي قصص الحب الممتدة عبر قضبان سجن الرجال وسجن النساء، وفي اضطرام فناء السجن باحتفال المساجين المحموم بيوم العيد على أنغام فرقة الأيتام المصطخبة، حتى بدا للعسكر الغاضبين «ألا سبيل لتوقيف اللحن أو الصيحات أو الرقص...»

يزداد لحن الثورة طلاوة إذ يردده المخزنجي في استكشافه المستبصر لعالم الحيوان. فمنذ وقت مبكر، ستصور قصصه ثورة الطبيعة على تعسف الإنسان، فتظهر قصة «العميان» طيورًا مهتاجة تنقضّ على أعين البشر، تخترقها وتنهشها، بعد أن أقدم البشر على قطع الشجرة العتيقة التي كانت تسكنها الطيور منذ آماد. وفي «حيوانات أيامنا»، تهاجم الجواميس الملتاثة القرية التي فقدت إيقاعها الحيوي بعد أن ضاع ليلها في وهج أضواء النيون. وفي قصة الأتن، يعاين الراوي حريق روما وقد انتقل إلى ضفاف النيل، بعد أن انتشرت الأتن المشتعلة المملوكة لأم الإمبراطور الشاب التي سعت لتوريثه الحكم. لكن يبقى مشهد الأرانب المسحورة التي تتجمع بالآلاف في الميدان رفضًا للقمع، وتحديًا لأصحاب البيادات الثقيلة والرصاص الحي، من أكثر المشاهد تنبوءًا ورؤيوية.

وفي مقالاته، استمر المخزنجي في ثورته ضد تغول الخونة والعملاء والفسدة، سواء سياسيًا أو أخلاقيًا أو اجتماعيًا، ضد تبوير موارد الوطن، ضد إهدار النهر والغاز والأرض الزراعية، ضد التعصب الديني والأيديولوجي، وضد الغلاة الذين يستهدفون طمس وسطية مصر، والطغاة الذين يتربصون بمدنية الدولة. وهنا أيضًا يلجأ الثائر النبيل إلى أمم أمثالنا ليضرب لنا الأمثال. فيتساءل لماذا تفشت الخلايا السرطانية في جسد الوطن؟ لماذا طمع طائر الوقواق في وراثة عشّ لا يستحقه؟ ولماذا انتشرت في بلادنا مخلوقات شرهة خبيثة كالنسر الخطاف والأخطبوط الممثل والسمندل القبيح والجرذان ذات العيون الدامية؟ لماذا توحش الإنسان وباتت حيوانات أيامنا أكرم خلقًا؟

لماذا؟ أو «باطشمو»؟ كما هتف بها القمر بلسان روسي لا يخلو من استنكار وأسى.

الإنسان

.. ثم هناك بعد تلك العذوبة الدافئة. وذلك الشجن الجليل. وهذا التخير المرهف للّحظات الإنسانية الهاربة. يفسر البعض ذلك بالقول: مدربٌ هو على التسلل إلى دخائل النفس. مسلحٌ بحيل الطب النفسي، تلك الممارسة العقلية التحليلية النقدية التي تؤهل صاحبها لاستنباط حلول إبداعية للنفاذ داخل كل حالة على حدة.

نعم، لكن أيضًا ثمة تجربة حياتية عظيمة الثراء وراء تلك النزعة الإنسانية المتقدة. فهذا التوق إلى الدفء إنما يعكس رد فعل تعويضيًا لتجارب متواترة من الصقيع: «صقيع زنزانات سجن تجربة المرج ومعتقل القلعة وتأديب القناطر»، وصقيع مدن الجليد الناصعة والبحيرات الوضيئة المتجمدة والغابات الغارقة تحت نديف الثلج الأبيض وحارس الثلوج الذي «يتكون على مهل، على مهل»، وصقيع الروح الذي تصنعه الغربة. وابتراد القلب السجين في منفاه الشمالي.

«جسدك مملوء بالريح والبرد.. وروحك تخيم عليها سحب مخنوقة لا تمطر ولا تنقشع.. من الخارج تبدو أصغر من عمرك لكنك من الداخل تنهار بسرعة مخيفة.. مفاصلك تصرخ من شدة الألم (..) هل فقدت أحدًا تحبه؟ ». كان ذلك تشخيص الطبيب التبتي الراهب وهو يجس نبض كاتبنا. رياح وبرد وثلوج ساكنة بين المفاصل صنعها افتقاده للأحبة إذ هو غائب عن الوطن، رحالة في أصقاع الأرض. عظامه تصرخ منادية إياهم، وهو تائه في حلقة الطائفين بميدان «بوداستوبا» المائج بقرع الأجراس، وبالبخور وتراتيل أتباع الدلاي لاما.

فما الغربة؟ يعرّفها المخزنجي من مسكنه ببيت المغتربين الكبير في العاصمة الأوكرانية على أنها «العيش فى مكان لا تعطى فيه ولا تأخذ عطاءً حقيقيًا وأخذًا من المشاعر... مشاعر لا يحتملها واجب اللياقة، بل تتفجر بتلقائية وتنساب بلا عمد كأنها مياه الينابيع تتفجر لفرط اكتنازها تحت الأرض وتسيل إلى حيث ينتظرها ويتلقفها المنخفض. مرة تكون أنت النبع ومرة تكون المنخفض».

لكن لولا الغربة لما صار صاحب «سفر» ذلك الشغوف لحد التسامي بوحدة الكون الكبير، ولما التفت إلى أوجه التنوع المدهش داخل الإنسان، «ذلك الكون الأصغر»، كما كتب الجاحظ.

لولا السفر، لما وسع المخزنجي أن يبلغ ما بلغه من دقة في ترجمة عالم الطبيعة الأبكم الأصم إلى عالم الحضارة الناطق المعبّر. لولا السعي في الأرض، لما وصل المخزنجي إلى البستان، ولما سقطت تفاحة الحقيقة فوق رأسه، ولما اكتشف قانون الجاذبية بين الكون ودلالاته.

لولا الرحلة، لما تبدت له في الطبائع الإنسانية أمارات وجود الطبيعة الأم، الساهرة في الأعماق جيلًا بعد جيل. رسالة يسر بها لوليده وهو يبثه طاقة الحب الشافية، ويهدهده قائلًا:

«يا بني.. الآباء لا يفكرون فيما يمنحون من ذواتهم للأبناء، لأنها غريزة ذلك الحب الذي ليس مثله في دنيا البشر حب. وهناك أشياء كثيرة في الحياة تمنحنا من ذاتها دونما تفكير أيضًا. تهبنا من أعمارها لنكمل أعمارنا. السحب والأرض والشجر والحيوان والطير والأنهار والبحار والشمس. فلتمنحها حبك ولا تجحد عواطفها، فهي عواطف عالية وإن تكن بكماء ياحبيب قلبي..».


***


وأخيرًا، كفّ القمر عن ألاعيبه. فعدت لمكتبتي بذهن صافٍ وقلب نابض بالرضا. تتردد في سمعي بصوت رحيم رباعية العم «صلاح جاهين» الفاتنة:


«أنا اللي بالأمر المحال اغتوى
شفت القمر نطيت لفوق في الهوا
طلته ما طلتوش إيه أنا يهمني
وليه ما دام بالنشوة قلبي ارتوى»
...

وعجبي !.

داليا سعودي مجلة العربي سبتمبر 2012

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016