مختارات من:

تاريخ .. أم تحريف سينمائي للتاريخ؟

أحمد رأفت بهجت

سينما الشخصية:


فيما يشبه الظاهرة قدمت السينما الأمريكية خلال السنوات الخمس الماضية "1989 - 1993" عددا غير قليل من الأفلام التي تدور موضوعاتها حول شخصيات حقيقية في مجالات شتى: السياسة، الدين، الفنون، الأنشطة النقابية، الجريمة المنظمة.. فما هو السبب وراء الاهتمام بهذه الظاهرة؟

في اعتقادي أن اختيار هذه الشخصيات لم يتم بطريقة عشوائية لا تزيد على انتقاء المنتجين السينمائيين لطائفة من الأشخاص من أجل التعامل مع سيرهم الذاتية أو مواقف معينة من حياتهم، رغبة في تنويع الموضوعات أو استغلال شهرة أو جاذبية هذه الشخصية أو تلك.. وإنما هو اختيار يعتمد في المقام الأول على ما في كل شخصية من تعبير واضح عن رؤى سياسية تكاد تكون ثابتة.. وإذا ما حدث اختلاف فيها.. فهي اختلافات لا تؤثر على المنظومة الفكرية التي تشكل قوام ما تنتجه السينما الأمريكية عموما. والاتساع العالمي لانتشار الفيلم الأمريكي لا يجعله يكتفي بالاهتمام بالشخصيات الأمريكية. إنما يضيف إليه شخصيات عالمية وقومية ما دامت مثار اهتمام أمريكي- عالمي أو ترتبط بأحداث كان للأمريكيين دور رئيسي فيها.. ولكنها قبل ذلك أيضا تكون معبرة عن اهتمامات المهيمنين على صناعة السينما في هوليوود.. وهم بطبيعة الحال اليهود.

الروس قادمون

رغم أن الحياة في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أصبحت تصطخب بالأحداث وتزخر بالمناظر المتغيرة وتكاد تنفجر من كثرة الانفعالات العنيفة وتنوعها، فإن ما قدمته السينما الأمريكية في الفترة الأخيرة يكاد يقتصر على فيلم تليفزيوني ضخم بعنوان "ستالين" عن الديكتاتور الروسي ورفاقه، وبعض الأفلام التي تقدم بشكل عابر زعماء من أمثال "جورباتشوف" و"خروشوف". ولم يكن غريبا أن تشارك السينما الأمريكية بعض الدول الأوربية في إنتاج فيلم تلفزيوني ضخم بعنوان "ستالين" 1992 إخراج التشيكي المقيم في الولايات المتحدة "إيفان باسير" في فترة يحتفل فيها العالم بمرور أكثر من خمسين عاما على قيام الحرب العالمية الثانية.. والفيلم لا يركز على انتصار ستالين على النازية، بل على إعجاب ستالين بهتلر.. وبأن الاثنين كانا وجهين لعملة واحدة خاصة في مواقفهما الديكتاتورية وفي معاداتهما المتأصلة للسامية. وفي النصف الثاني من فيلم "ستالين" يظهر خروشوف كواحد من حاشية ستالين. حيث يتعرض لسخريته ومداعباته الثقيلة خاصة عندما يصفه "برأس البطاطا". ومع ذلك يتقمص خروشوف شخصية المهرج البسيط الضاحك الراقص، حتى تأتي اللحظات الأخيرة في حياة ستالين. هنا يبرز خروشوف ما في أعماقه ويحدد موقفه تجاه كل ما ارتكبه ستالين من مذابح: "بدون التطهيرات، الاغتيالات، القتل، بدون ستالين كان يمكننا أن نكون أمة عظيمة".

العودة إلى اغتيالات الستينيات

وهوليوود في تعاملها مع أحداث الحاضر السياسية أحيانا ما تمضي في خط معاكس لتجمع من أحداث الماضي ما يفيد مواقفها من هذه الأحداث، ففي ذروة انتخابات الرئاسة الأمريكية اتجهت هوليوود نحو اغتيالات الستينيات.. وقد حددنا في مقال " اغتيال كنيدي: السينما والزمن ومغزى الضجة "المنشور في العدد 404 من مجلة العربي، الأساليب المختلفة في التعامل مع هذه الاغتيالات من خلال الإشارة إلى فيلم "ج. ف. ك " 1991 إخراج أوليفر ستون.. وفيه يشير إلى التحالفات المريبة بين البنتاجون والمخابرات المركزية والمافيا والتي أدت إلى جعل "هارفي أوزوالد" كبش فداء لعملية الاغتيال، وينتهي الفيلم بقيام جيش جاريسون "كيفن كوستنر" المدعي العام لمقاطعة نيو أورليانز باتهام الإدارة الأمريكية بالتستر على الحقائق الخاصة باغتيال كنيدي. وكان الاتهام في جوهره موجها إلى الرئيس بوش الذي كان رئيسا للمخابرات المركزية ثم أصبح على قمة الإدارة الأمريكية. ولقد كان رد الفعل تجاه فيلم " ج. ف. ك" بالغ العنف والاستنكار ووصفته أهم المجلات الأمريكية بأنه "تحريف للتاريخ" و"قطعة من البروباجندا" "التلفيق والكذب من خلال الحذف". على أن تصدي بعض أعضاء لجنة وارين - التي باشرت التحقيق في حادث الاغتيال في حينه - كان هو الأكثر حسما في تأكيد اتهام أوزوالد ونفي كل ادعاءات أوليفرستون وبطل فيلمه "جيم جاريسون". ولأن شركة وارنر منتجة "ج. ف. ك" كانت تضع في اعتبارها أن موضوع اغتيال كنيدي هو البيضة الذهبية لفترة بداية التسعينيات.. فقد استكملت مسيرتها مع نفس الموضوع ولكن من خلال شخصية أخرى، هي شخصية رجل المافيا اليهودي جاك روبنشتين الذي قتل أوزوالد، وجاء فيلم "روبي" ليعكس ملامح من حياته قبل موته المفاجئ بعد تحذيره للجنة وارين في فيلم " ج. ف. ك" بأنه: "إذا تمت تصفيتى فلن يكون ثمة سبيل لمعرفة حقيقة الاغتيال. أريد أن أقول الحقيقة، ثم أرحل عن هذا العالم. وإلا فإن نمطا جديدا تماما من الحكومة سيتولى السلطة". ويعاود (روبي) الظهور في الفيلم المأخوذ عن قصة حياته ليضيف خيوطا جديدة في قصة الاغتيال، عندما يتحدث عن علاقة الرئيس بالمافيا. ويشير إلى قصة فتاة الاستعراض مارلين التي كانت عشيقة لأحد زعماء المافيا ثم تحولت إلى عشيقة لرئيس الجمهورية من خلال صديق مشترك للجميع هو المغني الإيطالي الأصل توني مونتانا.. والفيلم بذلك يجسد ما تردد حول علاقة كنيدي بالغانية "جوديث كامبل" حين قدمها له المغني الشهير فرانك سيناترا. واستمرت علاقتهما سنتين انتهت عام 1962 مما يخلق ربطا جديدا بين المافيا والإدارة الأمريكية. والهدف مرة أخرى هو تأكيد طابع " المؤامرة " على حادثة اغتيال كنيدي. ولم يقتصر دور شركة وارنر على تقديم فيلمي "ج. ف. ك" و"روبي".. إنما حاولت في نهاية عام 1990 الإعداد لإنتاج فيلم عن حياة واغتيال الزعيم الأسود مالكولم إكس بعد أن اشترت سيرته الذاتية التي كتبها الزنجي أليكس هيلي (مؤلف رواية الجذور) وكان من المقرر أن يخرجها نورمان جوويسون. ولكن معركة إعلامية شنها المخرج الأسود سبايك لي ضد مبدأ إسناد إخراج فيلم عن زعيم مسلم أسود إلى مخرج أبيض يهودي، ومتهما هوليوود بأنها " مزرعة يديرها اليهود " أسفرت هذه المعركة عن انتقال حق إنتاج الفيلم إليه. وكانت النتيجة فيلم "الكولم إكس" الذي لعب بطولته دينزل واشنطن وأخرجه وأنتجه سبايك لي. ورغم التحفظات التي يمكن أن يأخذها العالم الإسلامي على بعض أحداث الفيلم التي تغطي حياة مالكولم منذ العشرينيات وحتى اغتياله في فبراير 1965، فإنه في اعتقادي جاء محصلة لمعادلة صعبة تداخلت فيها أموال شركة وارنر التي شاركت بنصف ميزانية الفيلم "20 مليون دولار" مقابل حق توزيع الفيلم في الولايات المتحدة، وأموال بعض الجهات الإسلامية، والأموال التي ساهم بها بعض الزنوج في الولايات المتحدة مع تنافر اتجاهاتهم. ومع ذلك فالنتيجة أفضل كثيرا مما لو كان الفيلم تم إنتاجه بالكامل بواسطة شركة وارنر عن نفس السيرة التي كتبها هيلي. ومازلنا نتذكر الجزء الثاني من مسلسل "الجذور" الذي أخرجه ديفيد وولبير. واعتمد في أحداثه على المزج بين رواية الجذور وسيرة مالكولم إكس. وكانت النتيجة ظهور اكس كشخصية مكروهة من المثقفين الزنوج ومن جماعة أمة الإسلام. ولم يكن مثار إعجاب سوى جماعة النازية الجديدة في الولايات المتحدة لدوره المعادي للسامية! ودعوته إلى العنف ضد البيض. ويبدو أيضا أن قصة اغتيال جون كنيدي وشقيقه روبرت لا يمكن استكمالها بغير الحديث عن جايمس إيدل هوفا "جيمي هوفا" زعيم نقابة سائقي الشاحنات في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أصبحت في ظل رئاسة هوفا تحت سيطرة المافيا، مما جعل هوفا هدفا لحملة المدعي العام الأمريكي روبرت كنيدي في مكافحته للإجرام المنظم، وجعل عائلة كنيدي هدفا لمشاعر حاقدة من هوفا ورجاله. ومع اغتيال جون كنيدي ثم شقيقه روبرت كنيدي، ثم اختفاء هوفا في غروف غامضة في صيف عام 1975 أصبح لقصة هوفا جاذبيتها خاصة أن بداياته كانت تعكس ملامح زعيم عمالي عظيم يؤمن بقضايا ومشاكل العمال في ديترويت ولا بخل بروحه ودمه من أجل الدفاع عنها.

لقد ظهرت قصة هوفا على الشاشة في ثلاثة أفلام سينمائية وتليفزيونية ضخمة. ومشاهدتنا لهذه الأفلام تؤكد أن الفيلم التليفزيوني كان أكثرها نضجا حيث يعتمد على الأحداث الحقيقية بمسبباتها ولا يتوارى وراء مخصيات وهمية، ومع ذلك سيبقى أداء روبرت بليك دور هوفا في الفيلم التليفزيوني، وأداء جاك نيكلسون نفس الدور في فيلم "هوفا" أفضل العلامات التي متبقي في الذاكرة، كلما تذكرنا اسم هوفا.

الكاثولوليكية بين الفعل ورد الفعل

في عام 1986 حاول المخرج أوليفر ستون الالتفاف حول شخصية أسقف السلفادور أوسكار روميرو في فيلم "سلفادور" بخلط المواقف واستبعاد كل ما يبرر تميزه وتفرده في مواجهة المظالم السياسية والاجتماعية في بلاده.. وتقديم اغتياله في إطار الادعاء بأن أنصاره في مقاومة الديكتاتورية كانوا من الملحدين "الشيوعيين" واليهود.. بينما كان المسيحيون إما ضائعين أو مستسلمين للحاكم القاتل.. والمحصلة أن هذا الأسقف كما قدمه ستون لا يصلح أن يكون مرشدا لأمته. وفي مواجهة هذا الهجوم كان رد الفعل متمثلا في فيلم آخر أنتجته المنظمات الكاثوليكية " PAULIST" بعنوان "روميرو" 1989.. وفيه تقدم حياة الأسقف روميرو "راؤول جوليا" باعتباره أكثر الشخصيات تأثيرا في تاريخ أمريكا اللاتينية. بل يضفي عليه مسحة "غاندية" وهو يروي قصة نشاطه المناهض للعنف في مواجهة مشاكل مجتمعه: الفقر، والفساد السياسي، والاعتداء على حقوق الإنسان، حتى يتم اغتياله في إطار الممارسات الوحشية للسلطات.

ولا شك أن من بين الأسس المهمة في التعامل مع حياة الشخصيات الحقيقية تأتي في المقدمة "الموضوعية" و"عدم التحيز". أما رسم الشخصية بمواصفات محددة تحديدا مسبقا من منطلق ألمع أو الضد فهو أمر لا يمكن أن يؤدي إلى خلق فن أصيل يكتب له دوام التأثير. ولا جدال أن أفلام أوليفرستون نموذجية للغاية في مجال إدانة الشخصيات الكاثوليكية، فبعد موقفه من الأسقف روميرو نجده يقدم فيلم "مولود في الرابع من يوليو" 1979 وفيه يعاود الهجوم من خلال شخصية حقيقية أخرى هي شخصية "رون كوفيتش" الذي نشأ في نهاية الخمسينيات في ظل أمه الكاثوليكية التي غرست فيه أحاسيس البطولة والوطنية المتطرفة والهلع من الشيوعية. وكلها عوامل تجعله يدفع ثمنا غاليا في مستقبله. فبعد تخرجه من المدرسة الثانوية يلتحق بالبحرية الأمريكية لكي يصبح بطلا أمريكيا في فيتنام ولكنه "عندما عاد إلى الوطن وكان حاضرا جسديا ونفسيا - حيث أصيب بشلل نصفي سفلي وكان يملؤه الغضب والمشاعر المريرة - بدأ يدرك أن " الأفلام الوطنية المبالغ فيها التي شاهدها مرارا والكتب الوطنية التي التهمها التهاما وهو صبي كانت مليئة بالأكاذيب وأدرك أيضا من خلال الطريق الشاق الذي سار فيه أن الحرب ليست أبدا مجيدة " كما كانت تلقنه أمه الكاثوليكية.

لقد حاول أوليفرستون في تقديمه لشخصية رون كوفيتش "تمثيل توم كروز" أن يتملق الواقع بأن يدعي الإحساس العميق لمأساة بطله بجزئياتها الكثيرة المتراكمة.. ولكننا سنجده سرعان ما يعاود الهجوم المباشر على شخصية كاثوليكية أخرى في فيلمه الشهير "J F K" وهي شخصية "ديفيد ميري" الكاثوليكي المتزمت المتشدد تجاه الشيوعية. والذي وجد نفسه يعيش في دوامة المؤامرات السياسية والجريمة المنظمة بعد أن فشل في أن يكون قسيسا كاثوليكيا. ويقدم "ستون" نهايته الدموية وسط تماثيل المسيح والشموع والإيقونات في تفاصيل لا تخلو في جوهرها من سخرية دفينة. وبطبيعة الحال لم يقتصر هذا الاتجاه المناهض للكاثوليكية على أوليفرستون بل إنه يمتد في عشرات الأفلام الأخرى.. ومع ذلك ستبدأ نغمة تنحو تجاه التوازن مع الكاثوليك بعد المصالحة النهائية بين الفاتيكان وإسرائيل وتبادل العلاقات الدبلوماسية بينهما، هنا ستقدم لنا السينما الأمريكية استثناءات كاثوليكية تستحق المناصرة والاحترام، ولا مانع من أن تحتفي الجماهير بها ما دامت تقدم في إطار القضايا اليهودية الشائعة.

لذلك كان ظهور شخصية الألماني - الكاثوليكي أوسكار شندلر في فيلم ستيفن سبيلبيرج الأخير "قائمة شندلر" 1993، له مبرراته ودوافعه.. ويوحي لنا سبيلبيرج أن شندلر لم يكن في البداية كاثوليكيا مؤمنا بدليل أن زوجته المتدينة ترفض انتهازيته وانحرافاته واستغلاله لليهود. وتتركه في قمة جبروته وتسلطه ليعود إليها في النهاية بعد أن استرد إنسانيته. ويكون اللقاء بينه وبين زوجته داخل كنيسة كاثوليكية حيث كانت الزوجة تؤدي صلواتها.. ثم تستكمل الرسالة المرسومة بحذق وذكاء بالمشهد الأخير من الفيلم حيث نرى عشرات اليهود من الرجال والنساء يدخلون المدافن الكاثوليكية في القدس من أجل زيارة مقبرة شندلر بعد أن نقل اليهود جثمانه من فرانكفورت بعد وفاته عام 1974 إلى القدس، ليؤكد دفنه هناك تبادل الشكر والعرفان بين كاثوليكي ناصر اليهود أثناء حياته، فناصروه هم بعد موته بدفنه في مدينة الأديان المقدسة التي يحكمونها!.

فنانون وأدباء أشهرهم "شارلي"

والانشغال بحياة الفنانين والأدباء أمسى عاملا مسيطرا على الموضوعات السينمائية سواء التي يتم إنتاجها في هوليوود أو بعيدا عنها فيما يعرف بالسينما الأمريكية المستقلة والتي كثيرا ما نلاحظ اعتمادها على الجانب التوثيقي. أما هوليوود فقد كان منهجها هو أن تروي قصة عصر أو فترة معينة من خلال حياة كبار الأدباء والمفكرين والفنانين، على اعتبار أنه ليس أكثر تأثيرا من رواية المواقف العامة التي تستخلص من الحياة الخاصة. والعيب في هذا المنهج هو أن التركيز على مواقف بذاتها يؤدي إلى خلخلة في ملامح بعض الشخصيات وأحيانا تشويهها. ومع ذلك فقد قدمت هوليوود خلال السنوات الخمس الماضية، بعض المعالجات المبتكرة لبعض الشخصيات الفنية والأدبية..

في الفيلم المأخوذ عن حياة الفنان شارلي شابلن، والذي أخرجه سير ريتشارد اتنبرو (مخرج "غاندي") عام 1992 بمناسبة الذكرى المئوية لوفاته، ورغم محاولة كاتب السيناريو وليام بويد عرض تفاصيل من أحداث حياته منذ طفولته وحتى وفاته، فإن التركيز الأكبر كان في محورين : الأول إقصاء كل ما لصق به من فضائح سلوكية من أجل نفيها أو تبريرها أو التأكيد على أنه كان ضحية لبعضها. أما المحور الثاني فيركز على تعاطفه مع اليهود رغم أنه على حد قوله داخل الفيلم لم يحدث له شرف أن يكون يهوديا، وبأنه نادرا ما اهتم بأفكار يهودية بسبب أخيه سيدني لأنه نصف يهودي حيث كانت أمهما واحدة ولكن لهما أبوين مختلفين. وعلى أساس المحور الثاني أصبح لشارلي الحق في إدانة المجتمع الأمريكي من موقفه المتخاذل من النازية قبل دخول الولايات المتحدة الحرب، وأن يصبح هو العبقري الذي تنبأ بأخطار النازية عندما قدم فيلمه "الديكتاتور العظيم" الذي بدأ العمل فيه عام 1938. ويدعي الفيلم أن شقيقه سيدني كان رافضا لإنتاجه، مما أدى إلى مناقشة كادت تصل إلى حد المشاجرة بينه وبين شارلي!.

شابلن: أعرف هذا الرجل - يقصد هتلر - وقد ولدت بنفس العام. بفارق أربعة أيام. وهو مثلي يمكنه عمل أي شيء.

سيدني: من يريد مشاهدة فيلم عن أدولف هتلر اللعين؟

شابلن: كل اليهود. ليس هذا هو المهم. فهو في النهاية ليس عن هتلر بل عن الصعلوك اليهودي الذي يحل محله. سيدني: ما يحدث في أوربا ليس مشكلتنا، 90% من الأمريكيين يريدون الابتعاد عن الحرب. أتعرف معنى هذا؟ أي 9 من عشرة، هذه ليست مهمتك فأنت فنان كوميدي.

شابلن: أجل يا سيدني. وأنت يهودي.

ويستمر شابلن في مواقفه الحاسمة عندما يرفض استسلام الشعب الأمريكي واستكانته أمام الفاشية الماكارثية وتسلط المباحث الفيدرالية بقيادة إدجار هوفر على مقدراته. ويقرر ترك أمريكا ليعود إليها بعد سنوات طويلة لتهديه السينما الأمريكية جائزتها "الأوسكار" لجهوده العظيمة في صناعة السينما الأمريكية. والفشل الجماهيري الذي حققه فيلم "شارلي" لم يكن فشلا عاديا، وسوف يمضي وقت طويل قبل أن تختفي آثاره السلبية على عملاقين في السينما العالمية هما شابلن نفسه ومخرج الفيلم ريتشارد اتنبرو صاحب التاريخ الطويل في مجال الإخراج والتمثيل.

رجال العصابات في ذكرى لاس فيجاس!

والأفلام التي تعاملت مع الشخصيات الحقيقية من أقطاب الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة الأمريكية تشكل من الناحية العددية رقما لا يستهان به، فقد ظهرت شخصية ماير لانسكي في فيلمي "هافانا" 1995 لسيدني بولاك، "بجزى" 1991 لباري ليفنسون.

.. وشخصية شولتز الهولندي قدمت أيضا في فيلمين: "اقتل الهولندي" 1991 لمناحم جولان، "بيللي باتجيت" 1991 لروبرت بنتون. كما قدمت شخصية رجل المافيا جاك روبنشتين الذي قتل أوزوالد قاتل الرئيس كنيدي في فيلمين "ج. ف. ك" 1991 لأوليفر ستون، "روبي" 1992 لجون ماكينزي. ولا أعتقد أنه من المصادفة أن يكون كل هؤلاء من اليهود، ومن هنا يجب ألا نتوقع أن هذه الأفلام قدمت لإدانتهم أو كشف جرائمهم البشعة ولكن لتقديمهم وفقا للاتجاه السلوكي في علم النفس، حيث كل شيء في سلوك المجرم محكوم عليه من الخارج، أي من البيئة المحيطة به. وهي هنا بيئة معادية للسامية تحميها عصابات المافيا من الكاثوليك الإيطاليين والإيرلنديين. وفي مواجهتها يصبح على اليهودي إما مقاومتها وإما التوحد معها بنفس منطقها الإجرامي.

إن "ماير لانسكي" صاحب السجل الإجرامي الذي كان مثارا لأحاديث العالم كله، والذي أقام إمبراطورية القمار على امتداد فلوريدا والكاريبي ولاس فيجاس، نراه في فيلم "هافانا" يعلن قبل سقوط حليفه الديكتاتور باتيستا على يد ثوار كاسترو بأنه يدفع الأموال للجانبين معا، ويعلن كأنه المتحدث الرسمي عن أمريكا: "إن أمريكا هي التي بنت هافانا بعد أن كان باتيستا نفسه يتبول في دورة مياه خارج منزله"، ثم يظهر لانسكي في فيلم "بجزى" وقد تحول من خلال أداء بن كينجسلي (مثل دور "غاندي") إلى شخصية واعية لمعطيات العلاقة بين اليهود والمافيا الإيطالية التي تفتقد القدرة على الخيال والحلم. وبطبيعة الحال تحتل شخصية رجل العصابات "بجزى سيجل" بطولة فيلم "بجزى" الذي رشح لتسع جوائز أوسكار... إن "بجزى" رغم مغامراته النسائية وجاذبيته الطاغية يحترم زوجته " استير" ويحب أولاده... وعكس ما هو شائع عن اليهود نراه لا يحترم المال بل ينفقه بسخاء يصل إلى حد التهور. وفي تعامله مع العصابات يحكم بمبادئ الأخلاق ويقاوم الاستغلال والسرقة والوشاية بكل عنف وقسوة... وبينما يرفض لقب " بجزى" لأنه سوقي يتفاخر باسمه " بنيامين " لأنه من التوراة.. وعندما يذهب إلى هوليوود لإخضاع العصابات الموجودة على الساحل الغربي للولايات المتحدة أو القضاء عليهم يحاول العيش في قلب النشاط الاجتماعي. وتعكس تصرفاته ميولا فنية وأفكارا ثقافية وسياسية تجعله يرفض أن يجد أصدقاء هتلر وموسوليني يمرحون في المدن الأمريكية أثناء الحرب. ويعلن إيمانه بدوره كيهودي في مواجهة النازية والفاشية بل يعد خطة جريئة لاغتيال موسوليني (إذا لم أفعلها أنا من سيفعلها؟) وفي النهاية تأتيه الرؤية ويقرر تحقيق الحلم الأمريكي وخلق أسطورة مدينة "لاس فيجاس" من خلال مشروع متكامل في صحراء نيفادا تقدم القمار وكل وسائل الترفيه بحيث تتوارى أمامه "مونت كارلو" خجلا، وعندما يرفض الإيطاليون النفقات الباهظة لهذا المشروع نجده يردد: " هل سألوا مايكل أنجلو ماذا أنفق على سقف الكنيسة السكستينية، أو شكسبير عما أنفقه على عرض ماكبث" (وهكذا تحولت بؤرة الدعارة والقمار المسماة لاس فيجاس إلى تحفة تتشبه بالآثار الإنسانية الخالدة في الثقافة والفن!).

شخصيات أخرى

ولا جدال أن السنوات الخمس الماضية كانت فرصة لتقديم شخصيات عديدة في السينما. فقد شهدت هذه الفترة الاحتفال بمرور 500 سنة على اكتشاف أمريكا. وظهرت مجموعة من الأفلام الأمريكية والأوربية عن كريستوفر كولومبس، وظهر فيلم عن صانع القنبلة الذرية الأمريكية "روبرت أوبنهايمر" في ظل اتهامات تؤكد أنه كان جاسوسا للاتحاد السوفييتي وكان عنوان هذا الفيلم "الرجل البدين والرجل الصغير" 1995 وظهرت أفلام عن مايكل جاكسون ومادونا، فإذا أضفنا إلى هذه الأفلام ما قدمته السينما المستقلة الأمريكية من أفلام عن حياة الشخصيات الحقيقية وما قدمه التلفزيون الأمريكي بكل شبكاته في هذا المجال، لتأكد لنا أن هذا الاتجاه يمثل كنزا حقيقيا لمن ينجح في استغلاله.

أحمد رأفت بهجت مجلة العربي نوفمبر 1994

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016