آخر شعراء جيل العظام الإسباني
نقاط التقاء مع عبدالوهاب البياتي
غيب الموت آخر الشعراء الإسبان العظام في القرن العشرين الذين غيروا مسار الشعر الإسباني الحديث
رحل ألبرتي دون أن يمهله الموت لتحقيق آخر أمنية له, وهي اللحاق بالقرن الجديد. غير أن أمنية أخرى, طالما راودته في المنفى, تحققت له, وهي أن يكون رحيله عن دنيانا من مسقط رأسه, بلدة بويرتو دي سانتا ماريا الأندلسية, وهي قرية صغيرة تعج بالصيادين, تقع على مقربة من قاعدة روتا البحرية الأمريكية التي طالما عارض وجودها في حياته. وهي المياه التي تحتضن رماد جثته بعد حرقها وذره فيها عملاً بوصيته.
وكان ألبرتي من بين آلاف المثقفين الجمهوريين الذين اضطروا إلى اختيار طريق المنفى, هرباً من السجن أو الإعدام على يد زمرة الديكتاتور فرانشيسكو فرانكو الذي حكم إسبانيا طوال أربعة عقود بالنار والحديد, أمضاها الشاعر في مناف مشئومة على اتساع اليابسة, توزعت أساسا بين باريس تحت الاحتلال النازي والأرجنتين حيث عاش ربع قرن. منها تسع عشرة سنة من دون جواز سفر تحت حكم العسكر والشرطة, وروما حيث عاد منها إلى إسبانيا في 1977, بصحبة زوجته الراحلة, القاصة ماريا تريسا دي ليون.
عاش رفائيل ألبرتي كل حروب وخطوب القرن العشرين فتركت بصماتها غائرة في شخصيته ونتاجه الشعري الوفير الذي يربو على أربعين ديوانا, إضافة إلى المسرح والنثر من محاضرات ومقالات وسيرة ذاتية تقع في ثلاثة مجلدات تحت عنوان "الغابة الضائعة". لقد غادر دنيانا أكثر المثقفين الإسبان رمزية لبلدهم, على مدى القرن العشرين, ليس على المستوى الشعري فحسب, بل على المستويين السياسي والتاريخي لبلد ذاق مرارة حرب أهلية وحشية شرذمت التقدميين من مثقفيه والكثيرين من أبنائه.
مع لوركا
وقد جمعته صداقة متينة مع الشاعر الأسطورة فدريكو غارثيا لوركا تركت بصمات جلية في شعر وحياة ألبرتي. وبما أنهما أندلسيان, كان لوركا يناديه بابن العم, ويشجعه على مواصلة المسيرة في بداية حياته الشعرية, وكثيرا ما قال له: "أنت أندلسي, والأندلسيون يتمتعون بذاكرة قوية, وقوة الذاكرة من أدوات الشاعر الجيد". وقد لا يعرف كثيرون أن الشاعر الغرناطي اغتيل, عن طريق الخطأ نيابة عن ألبرتي الذي كتب قصيدة ملتهبة ضد الفاشيست بزعامة الجنرال فرانكو ـ نشرت في الصحافة اليسارية وبثتها إذاعة الجمهورية ـ إذ ظنوا أنها لغارثيا لوركا, فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير, وسط حالة التخبط وروح الانتقام العمياء في خضم الحرب الأهلية الإسبانية (1936 ـ 1939), فأسفرت هذه القصيدة عن إعدام الشاعر الغرناطي في الأيام الأولى من اشتعال الحرب التي أجهزت على الجمهورية الثانية في مهدها, وشردت مليونا ونصف مليون إسباني في أوربا وأمريكا اللاتينية, بينهم آلاف المثقفين ورفائيل ألبرتي بالطبع.
ولد رفائيل ألبرتي في السادس عشر من ديسمبر عام 1902, في بلدة بويرتو دي سانتا ماريا, من أعمال مدينة قادش بإقليم الأندلس, إلا أنه اضطر إلى الانتقال مع أسرته للعيش في مدريد, فكان لهذه الهجرة وقع سييء في نفسه, إذ شعر بغربة في المدينة, تذكرنا بأثر غربة شعراء عرب وموقفهم من المدينة مثل عبدالوهاب البياتي وأحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح جاهين.. وتجلت هذه الغربة في ديوانه الأول "بحار في اليابسة", الذي حمله إلى عالم الشهرة من أوسع أبوابها واستحق عليه الجائزة الوطنية للشعر عام 1924, من لجنة تحكيم شكلها رموز الشعر والثقافة الإسبانية سنتئذ.
وفي هذه القرية الهادئة على شاطيء الأطلسي عاش طفولته وجزءاً من صباه حيث درس مع اليسوعيين في مدرسة سان لويس دي غونثاغا التي لا تزال قائمة إلى اليوم, إلا أنه تعثر في دراسته إذ لم تكن تستهويه, وكان يفضل الرسم عليها, إلى جانب هربه مع الصبيان والذهاب إلى الحقول لمصارعة الثيران. فقد كان يريد أن يصبح مصارعا, وهي الرغبة التي مثلها خير تمثيل في نتاجه الشعري لاحقاً وحملته على صداقة اثنين من العاملين في هذا المجال, وهما الشاعر ومربي الثيران فرناندو بيالون وأكبر مصارعي عصره إغناثيو سانشيث ميخياس الذي أشركه, مساعدا له, في مصارعة له في مدينة بونتبيدرا بغاليثيا عام 1927. ثم خصه ألبرتي بمرثية طويلة على أثر مصرعه في الحلبة. وبذلك أضيفت هواية المصارعة إلى الرسم ليكونا أهم هوايتين فاشلتين في حياته, وإن كان قد عاد إلى الرسم في منفاه بالأرجنتين.
تشكلت شخصية رفائيل ألبرتي الفكرية في تلك الفترة في القرية, في الأندلس الفقير, فإلى جانب ما ذكرناه آنفا, كانت التفرقة بين التلاميذ الأغنياء والفقراء في المدرسة اليسوعية سببا في تمرده على الدين والكنيسة في وقت لاحق من حياته, وهو ما صبغ مسار حياته والكثير من أشعاره. قد اعترف في سيرته الذاتية بأن تلك المدرسة علمته الكراهية, الكراهية الطبقية.
هذا بالإضافة إلى نشأته في إقليم الأندلس الفقير حيث كان شاهدا على انتفاضات الفلاحين اعتراضا على البؤس الذي كانوا يعيشون فيه. لهذا لم يكن غريبا أن ينتمي الشاعر في مطلع شبابه إلى الحزب الشيوعي ويحتل مراكز متقدمة فيه, وقبلها شارك في المظاهرات ضد حكومة الديكتاتور بريمو دي ريبيرا, رغم أنه كان من أسرة ذات أصول برجوازية كانت تعمل في تجارة النبيذ.
تأثيرات أندلسية
وسيظل إقليم الأندلس بمعناه المحلي, الطفولة, والواسع, إسبانيا, بما في ذلك بحر القرية, إلى جانب التصوير عناصر حنين كامنة وفاعلة في شعر ألبرتي وفي حياته, خاصة في المنفى. ولهذا أوصى بحرق جثمانه ونثر رماده في مياه البحر الذي شهد طفولته وصباه. كل هذا تشكل في صيغة البحث عن الذات لدى الشاعر, إلى جانب الحنين إلى الفترة الغضة من حياته, الطفولة, وإلى الماضي الضائع لأسرة كانت ميسورة ثم أدركها الفقر بسبب الخسارة التي لحقت بتجارتها. ثم تحول هذا البحث في أعماله التي كتبها في المنفى إلى البحث عن وطنه الضائع, إسبانيا.
يذكر أن الشاب رفائيل ألبرتي هاجر إلى مدريد مضطرا, في عام 1917, مع أسرته التي انتقلت إلى عاصمة البلاد لدواعي التجارة. وكان لذلك وقع سييء في نفسه. وكانت تلك الهجرة من القرية الوديعة على شاطيء المحيط الأطلسي والحنين إليها, إلى جانب وفاة أبيه وراء تفجير قريحته الشعرية, وهو ما صوره في أول ديوان له, ووضع غابتها الصنوبرية وسط مياه شاطيء المحيط عنواناً لسيرته الذاتية "الغابة الضائعة".
برز الشاعر أيديولوجيا في الحرب الأهلية الإسبانية, فعندما بات واضحا أن الحرب على وشك الاشتعال انضم إلى الحزب الشيوعي الإسباني, بعد أن كانت تجمعه به علاقة تعاون فقط حتى تلك الفترة, وهو الانتماء الذي سبب له الكثير من المشاكل والعداوة حتى من بعض أصدقائه الشعراء أعضاء جيل الـ 27. ثم شغل منصب أمين عام تحالف المثقفين المناهضين للفاشية التي شارك في تأسيسها في بداية الحرب.
إلا أن أهم ما قام به هو تأسيس مجلات وفرق مسرحية وطبع كتب, كلها مكرسة لمساندة الجمهورية ضد الانقلاب العسكري بقيادة فرانكو. ومن أبرز المطبوعات التي أصدرها وأدارها إلى جانب أصدقاء وزوجته ماريا تريسا ليون كانت مجلة "بدلة العمل الزرقاء", وهي المجلة التي قربت الفن, الشعر من الشعب, وكانت بمنزلة أول التزام للمثقفين اليساريين مع الجمهورية.
وضمن نشاطه الواسع من أجل الجمهورية, نظم في يوليو من عام 1937, المؤتمر الدولي الثاني للكتاب المناهضين للفاشية الذي عقد في كل من مدريد, تحت الحصار, وبلنسية وبرشلونة, وحضره رموز الثقافة الغربية مثل ستيفان رسبندر وأوكتابيو باث ونيكولاس غيين وأندريه مالارو وفيدوف وتولستوي. ولم يقتصر دوره على التنظيم في تلك الفترة إذ نشر قصائد كثيرة ضد الانقلابيين ولمؤزارة قوات الجمهورية, فيها دعوة للشعب كي يهب ضد الفاشية, واقتياد فرقته المسرحية إلى الجبهة بانتظام. غير أن الحرب انتهت لصالح الفاشية وتشرد من تشرد من الإسبان.
كان التزام ألبرتي مع الجمهورية الثانية ومعه جيل الـ 27 نموذجاً فريداً في التزام مجموعة شعرية, وهو الموقف الذي شتت معظم أعضاء هذا الجيل إذ لم يكن أمامهم خيار أفضل من المنفى, ولهذا أطلق عليهم بعض الباحثين تسمية جيل الجمهورية. وفي هذا السياق قال ألبرتي: "لقد جمعتنا الحرب كلنا تقريباً, فيما بعد, في تحالف المثقفين المناهضين للفاشية, ثم شتتنا المنفى".
الرحيل للمنفى
جاء المنفى ليكرس الحنين في حياة ألبرتي, فقد انتزع من مربط الصبا, قريته, ثم من وطنه بأكمله, ولهذا نجد أن الحنين يشكل عنصراً رئيساً في شعره. كان دائم البحث عن الماضي عن القرية وعن إسبانيا وعن الرسم, لهذا كان مساره الشعري بمنزلة بحث عن الفراديس الضائعة. ويبرز في هذا السياق ثلاث محطات أو لحظات شعرية تمثل هذا الهوس: ديوانه الأول "بحار في اليابسة" الذي يسعى فيه لاسترداد فردوس الطفولة, وديوان "عن الملائكة", ذو القالب السوريالي, الذي يمثل البحث عن الذات, البحث عن ماض كان على وشك أن يضيع في خضمه, ثم المحطة الأخيرة وتشمل كل الأعمال التي كتبها في المنفى وفيها يبحث عن فردوس مستقبلي, لكنه معكوس في مرآة اللحظة الأولى, أي الطفولة.
وتمثل الذكريات والحنين محور نتاج رفائيل ألبرتي, الشعري والنثري, وهو حنين تعلوه مسحة من الحزن ترتب على سلسلة من الفشل والخسارات المتراكمة. ففي الطفولة هاجر من قريته فخسر البحر وأول مغامرة عاطفية في حياته, حب الطفولة, والماضي المظلم لأسرته بعد أن فشلت في التجارة, وفشله في أن يصير مصارع ثيران, وهو الحلم الذي يراود "أي طفل أندلسي حقيقي" ـ حسب ألبرتي نفسه ـ وفشله في الرسم, ليختمها بأكبر فشل وخسارة وهي هزيمة جماعته, هزيمة الجمهوريين في الحرب الأهلية التي قذفت به إلى "الشاطيء الآخر" للمحيط الأطلسي, إلى المنفى.
ومن الملاحظ أن مسيرة الحنين هذه في أشعار ألبرتي يمكن تلخيصها في ثلاثة رموز تمثل المحطات الثلاث في حياته: البحر ويرمز إلى الطفولة والمراهقة, والرسم ويرمز إلى المراهقة والشباب معاً, و "الشاطيء الآخر" ويرمز إلى المنفى.. إنه الشاعر الذي عاش حيث لا يريد والذي كان في حالة بحث دائم, بحث عن ما فقده لتعويض إحباطاته وانكساراته. ولهذا فإن الشعر لدى ألبرتي كان تبريرا وتحليلا ذاتيا لشخصه.
غير أن التحدي, وهو رد فعل طبيعي أمام الإحباطات. حمله لاحقاً على البحث عن الضائع ومحاولة استرداده, بشكل أو بآخر, عبر الكلمة المكتوبة. فإذا كان في شبابه قد كتب "بحار في اليابسة" لمحاولة استرداد البحر والقرية, وفي 1927 ارتدى زي المصارعين ودخل حلبة المصارعة مع سانشيث ميخياس لاسترداد هوايته القديمة, وفي عام 1945 كتب ديوان "إلى الرسم" في محاولة لتعويض فشله في أول ميوله الإبداعية, فإنه في ديوانه "أغاني خوان باناديرو", التهكمية الساخرة, حاول النيل من خصومه السياسيين الذين اجبروه على اختيار طريق المنفى.
وفي المنفـى لجأ إلى شاعريته ليسـجـل ذكرياته ووقائع وطنه المفقود وعناصره: البحر القادشي والحرب الأهلية ومتحف البرادو والعديد من الشعراء الأصدقاء, من بينهم غارثيا لوركا وخوان رامون خيمينيث وانطونيو ماتشـادو الذين استلهمهم ألبرتي شعرياً.
كان هذا الشاعر الأندلسي قريباً من القضايا العربية المعاصرة. فمن بين أصدقائه الحميمين كان المفكر الفلسطيني وائل زعيتر الذي اغتيل في روما في بداية السبعينيات فكتب فيه مرثية عميقة. وفي عام 1985 تقاسم جائزة غار ابن الخطيب, في الملتقى العربي الإسباني بمدينة المونيكر ـ المنكب العربية ـ مع عبدالوهاب البياتي وكان الأخير قد خص ألبرتي بقصيدة مطولة مكثفة.
حري أن نشير إلى أن رفائيل ألبرتي كان من الشعراء القلائل الذين اعترفوا بتأثير الشعر العربي على نتاجهم, وهو ما حمله على مقارنة وضعه في المنفى بوضع الملك الشاعر المعتمد بن عباد عندما عاش منفيا في المغرب بعد خلعه من عرش إشبيلية. وكان قد قال لي في أحد لقاءاتنا: "كان كتاب غارثيا غوميث "أشعار عربية أندلسية" ذا أهمية كبيرة لنا جميعاً, وخاصة لي ولغارثيا لوركا, وإن كان لوركا لم يعترف بذلك, وهو ما أثار غضب غارثيا غوميث. إنني تحدثت كثيرا عن أهمية هذا العمل لجيلي, فقد كان اكتشافا, تعرفنا من خلاله على الشعراء الأندلسيين معرفة حقة, بعد طول جهل بهم, فالمعلومات التي كانت متداولة عنهم حتى نشر هذا الكتاب كانت مستخفة وسطحية. بهذا الكتاب اكتشف غارثيا غوميث كنزاً كبيراً.
وفي موضع آخر من ذلك الحوار قال: "إننا أبناء إقليم الأندلس كنا نعلم بحقيقة وأهمية هؤلاء الشعراء العرب, ومعهم اليهود, فالشعر العربي وصل إلى قمته في الأندلس, والشعر العبري لم يحقق وجوداً ونجاحا مثل الذي حققه تحت الحكم العربي في الأندلس. لقد تغيرت الحال الآن, فالشعر العربي أصبح معروفا في إسبانيا أكثر من أي وقت مضى, بعد أن اكتشفنا أن عناصر وجذورا مشتركة تجمع بيننا.. إنني أشعر بانتمائي إلى هذا التراث, وإعجابي جم بشعراء مثل المعتمد بن عباد وابن قزمان والمقدم".
وقد كرس ألبرتي إعجابه بالمعتمد بن عباد شعراً ونثراً: فاقتبس أبياتا للملك الشاعر وكتب عدة قصائد عنه خلال سنوات منفاه في الأرجنتين, "إلا أنني لم أزعم مقارنة شعري بشعره, فهو شاعر عظيم, وكانت نهايته مأساوية حيث طردوه من إشبيلية ومات في منفاه في أغمات بالمغرب, وهناك كتب أشعاراً مثقلة بالحنين إلى الوطن الأندلس, فكان يحاور الطيور المهاجرة في رحلتها من إفريقيا إلى الأندلس ويسأله عن ذويه وعن وطنه". وهو ما أكد عليه في إحدى رسائله إلى إميليو غارثيا غوميث ـ لا تزال في منزل هذا المستعرب ضمن مراسلاته الثقافية والدبلوماسية ـ في مرحلة متقدمة من حياته, في منفاه بروما, إذ شبه ألبرتي نفسه بهذه الشخصية الأندلسية.
الوجه الآخر للمنفى
ومما لاشك فيه أن تجربة المنفى الطويلة تركت آثارا إيجابية على ثقافة ألبرتي وعلى نتاجه الشعري. إلا أن قضاءه معظم سني المنفى في بلدان ناطقة بالإسبانية خفف عنه آلام الغربة وأتاح له المواصلة بلغته والتعرف على ثقافات هذه الشعوب بسهولة. لهذا فإن مشاكله بهذا الصدد أقل بكثير من المشاكل التي يلاقيها شاعر آخر يضطر إلى الخروج إلى المنفى في بلد يتحدث أهله لغة مختلفة عن لغته الأم. ورغم هذه القطعية المادية مع إسبانيا كان الجانب الإيجابي لتجربة المنفي أكبر من سلبياته التي لا يستهان بها, خاصة وأنه ظل حوالي أربعة عقود في المنفى, أي استحالة العودة إلى الوطن, وهذه التجربة كانت مأساة في حد ذاتها, ومعروف أن أناسا انتحروا في المنفى لشدة الحنين للوطن, ولكن هذه لم تكن حالة ألبرتي فقد صمد وتغلب على الصعاب. وقد ترك أثراً واضحا في كتبه التي كتبها طوال هذه السنوات.
لم يقتصر نشاط ألبرتي على الشعر, إذ جمع بين فن الكلمة وفن الرؤية, فنظم الشعر ومارس الفنون التشكيلة كالرسم والحفر, وكان الرسم بدايته في عالم الفن التشكيلي, ولكن إلحاح الأسرة حمله على تركه, ونصحه الأصدقاء بالتفرغ للشعر. وقد خص التصوير بديوان "إلى الرسم", الذي ترك أثرا قويا على الشاعر عند معالجة الكلمة الشعرية, فكان أكثر ما ترك بصماته في نفسه وشعره. ومعروف عنه أنه كان يتمتع ببعد بصري قوي, واعترف بأن القصيدة التي لا يراها لا يكتبها. وأن الكلمة والرمز أمر وحد بالنسبة له.
ولعل أبرز حدث في هذا الصدد هو تجديده لعضويته في تحالف اليسار المتحد في منتصف التسعينيات. وهناك من قال إن هذه المواقف السياسية المعلنة كانت سبباً في عدم حصوله على جائزة نوبل, رغم أنه كان من المرشحين الخالدين. إلا أن الجوائز المحلية والعالمية التي في جعبته تطول قائمتها, من بينها جائزة ثيربانتيس للآداب التي تعد بمنزلة نوبل آداب اللغة الإسبانية, ويحمل الدكتوراه الفخرية من أكثر من جامعة أوربية وأمريكية لاتينية, وكان آخرها من جامعة مدريد كومبلوتنسي في إطار فعاليات احتفالها بذكرى تأسيسها السبعمائة, ويومها أعرب مجدداً عن دهشته من منحه هذا العدد من الشهادات الجامعية على الرغم من فشله في الدراسة فلم يستطع إتمام دراسته الثانوية في صباه! وفي السنوات الأخيرة رفض جائزة أمير استورياس في فرعها للآداب, رغبة منه في أن تمنح لآخر, وإن كان هذا الموقف قد فسره البعض على أنه رفض منه لجائزة تحمل صفة ولي عهد إسبانيا! وهناك مؤسسة شعرية كبيرة تحمل اسمه في مسقط رأسه تهتم بإبداع الشباب من إسبانيا وأمريكا اللاتينية وتقدم جائزة سنوية في الشعر.
وإذا كان هناك شاعر عربي معاصر يضاهي ألبرتي, على المستويين الأدبي والإنساني, فهو عبدالوهاب البياتي الذي كان نهراً شعرياً حفر مجراه في صخور ومنافي الدهر, وأحد أبرز رواد الشعر العربي المعاصر, خلال النصف الثاني من القرن العشرين, شاعرية وأسلوبا متفردا, إضافة إلى منافيه المتعددة, والتزامه ومواقفه الإنسانية.
جاء رحيل ألبرتي بعد أقل من ثلاثة أشهر على وفاة صديقه الشاعر العربي عبدالوهاب البياتي, إذ كانت تجمع بينهما صداقة تأصلت في أثناء إقامة البياتي في مدريد طوال عقد الثمانينيات, وإن كانت هذه العلاقة قد بدأت في الستينيات في الاتحاد السوفييتي حيث كان يعيش البياتي منفيا بينما كان الشاعر الإسباني يزور قبلة اليساريين آنذاك في صحبة لاباسيوناريا زعيمة الحزب الشيوعي الإسباني. وكانت تجمعني بكليهما علاقة حميمة, وان اختلفت درجتها من شاعر لآخر, فألبرتي إسباني والبياتي عربي, لهذا كان ألمي كبيراً.
إن المتابع لمسار حياتهما يكتشف أبعاداً شاعرية وشخصية مشتركة, ابتداء من النشأة في الريف والانتقال إلى المدينة مجبرين, إلى عاصمتي بلديهما بغداد ومدريد, في مطلع شبابهما, مما أثار فيهما صدمة وحفر بصمات غائرة في أنفسهما, إذ رفضا المدينة والحياة فيها, لزيفها, مما أسفر عن شعور مبكر بالغربة داخل الوطن, انتهى إلى الاضطرار للرحيل إلى مناف عديدة, في أنحاء العالم, مما صبغ نتاجهما الأدبي بصبغة شاعرية تختلف تماما عن دواوينهما المكتوبة قبل المنفى. إلا أنهما لم يستسلما أمام الأعداء الذين أجبروهما على المنفى, بل بعثا منه كالعنقاء.
ويتميز البياتي بانهمار وانسياب نتاجه الشعري, ودون توقف طوال نصف قرن, وبتغلبه على كل العثرات التي واجهها شاعراً وإنساناً, ليغوص في أعماق القضايا التي تهم البشرية, ولا يقل عنه في هذه الخاصية الإنسانية رفائيل ألبرتي. وإن كان يفوقه في أنه كتب الشعر لأكثر من سبعين عاماً, نظراً لأنه من مواليد مطلع القرن.
وإذا كان الشعر, والشاعرية, أول ما يجمع بين شاعرين, فإن قلة هم أولئك المشهود لهم بالريادة واحتلال قمة الشعر في وطنهم, وفي الوقت الذي يجمعهم فيه منفى, طويلة سنواته ومتعددة محطاته في قارات اليابسة كما هي الحال لدى هذين الشاعرين, النهرين الهادرين. هذا إلى جانب الحنين إلى الوطن, واصطدامهما بالحياة في المدينة منذ اضطرارهما للهجرة, من الريف إلى المدينة في مرحلة مبكرة من شبابهما, فكلاهما هاجر من قريته إلى العاصمة, بغداد ومدريد, الأمر الذي صبغ حياتهما وشعرهما.
ومن الملاحظ أن عوامل التشابه التي تجمع بين البياتي وألبرتي أكثر من تلك التي تميز كليهما عن الآخر, فالبياتي ولد ونشأ في قرية حتى المرحلة الثانوية حيث انتقل إلى بغداد, فكانت هذه نقطة تحول في حياته, تركت أثرا غائراً في نفسه.
غير أن التأثير والتأثر أمر غير وارد بين الشاعرين, وإن كان كلاهما قرأ الآخر, ولكن في مرحلة متأخرة من تكوينهما الفكري, بالإضافة إلى علاقة الصداقة التي جمعت بينهما طوال سنوات إقامة البياتي في العاصمة الإسبانية.
البكاء على الإطلال
والمتابع لحياة الشاعر الإسباني يكتشف أن تحولاً مماثلا حدث في حياته على أثر انتقاله من قريته بويرتو دي سانتا ماريا إلى مدريد. وهذه القرية ببحرها ألهمته كتابه الأول "بحار في اليابسة" وفيه يبكي وينعي هجرته مع أسرته من القرية إلى المدينة, ويعاتب أباه على هذه الرحلة, في ديوان ولد مشحونا بأنين صبغ شعر ألبرتي جله ليصبح أحد روافده. وهو الديوان الذي حمله إلى عالم الشهرة, وبالتالي إلى مصاف كبار الشعراء وهو في بداية شبابه, إذ نال عليه الجائزة الوطنية للشعر وهو في الثانية والعشرين من عمره.
وموقف البياتي من المدينة, وهو معروف لقراء العربية, ليس أقل رفضا لعنصر المدينة في شعره, إن لم يكن أكثر صرامة في رفضه, عندما يتحدث على لسان أهل الريف ليقول: والعائدون من المدينة: يا لها وحشا ضريرا:/ صرعاه موتانا, وأجساد النساء,/ والحالمون الطيبون.لعل أبرز ما يجمع بين الشاعرين هو حياتهما ومواقفهما السياسية, فكلاهما بدأ حياته السياسية قريبا أو عضوا في الحزب الشيوعي, في العراق وإسبانيا, وانتهى إلى أيديولوجية يسارية والتزام سياسي, ثم الابتعاد عن العمل السياسي النشط, دون حدوث قطيعة, بل ابتعاد عن العمل السياسي المباشر, فشعرهما ظل على مقربة من القضايا الإنسانية التي طرقته في بداية حياتهما الفكرية, ومتابعا لها.
إن ما يجمع بين البياتي وألبرتي أكثر مما يفرق بينهما, رغم انتمائهما لثقافتين متباينتين إلى حد كبير, العربية والإسبانية, وإن كانت الجذور الأندلسية تمثل عنصرا وخلفية مشتركين بينهما.