مختارات من:

مواجهة مع القدر

شريدة المعوشرجي

أم محمد امرأة مؤمنة صابرة فقدت زوجها ورفيق دربها خلال الاحتلال العراقي الآثم لدولة الكويت ومازالت لاتدري هل هو حي فتنتظره, أم ميت فتبكيه, فقبيل الانسحاب العراقي من الكويت صدر قرار للقوات العراقية الغازية باعتقال أكبر عدد يمكن اعتقاله من الكويتيين وترحيلهم إلي العراق لاستخدامهم كورقة مساومة أثناء المفاوضات.

ولاتزال تذكر ساعة الاعتقال وتتمنى لو أنها لم تأت أبدا.

كان قد عاد للتو من صلاة الجمعة والتي أداها في المسجد القريب. وكانت قد أعدت سفرة الغداء والذي خلا كعادته في تلك الأيام المظلمة من الإدام (اللحم أو السمك), واقتصر على الأرز والبطاطس والباذنجان.

جلس الثلاثة حول السفرة, هي وزوجها وابنهما محمد, والذي كان يبلغ الثانية عشرة.

وفي هذه الأثناء وقبل أن يمد أبومحمد يده إلى الطعام سمع طرقاً على الباب الخارجي ونداء من جاره أبي سالم.

فقام مسرعا إليه:

ـ السلام عليكم.

ـ وعليكم السلام ورحمة الله, تفضل يا أبا سالم.

ـ شكرا, إني في عجلة من أمري, ولكني حصلت على بعض أكياس من الخبز وأحببت أن أوزعها على الجيران, وهذا هو نصيبك منها.

ـ جزاك الله خيرا وأكثر من أمثالك.

انصرف أبوسالم متوجها إلى بيت آخر من بيوت الحي ليكمل عمله الكريم وظل أبومحمد واقفا في مكانه ينظر إليه بإعجاب وتقدير.

وقبل أن يدخل بيته ويعود إلى غدائه وأسرته التي تنتظره رأى سيارة نقل جماعي تقف أمام بيته وينزل منها جندي عراقي يحمل في إحدى يديه رشاشا والأخرى عصا غليظة.

شعر أبومحمد بخوف شديد, وأحس بشر مقبل, فهؤلاء الناس لايرعون في مؤمن إلاً ولا ذمة, لايخافون الله ولايخشون من رادع من ضمير فقلوبهم سوداء مظلمة استمرأت الباطل وعشقت الظلم.

ـ لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم, اللهم استر علينا بسترك واحفظنا بحفظك, قالها في سره وهو يسمع الجندي العراقي يصرخ في وجهه بكلام بذيء قبيح. وبحركة لاإرادية, سحب الباب الخارجي ليغلقه على أهله صونا لهم وحماية, فهذا كل ما يستطيع أن يقدمه لهم.

ولم يمهله الجندي طويلاً فحال اقترابه منه هوى عليه بضربة من العصا التي يحملها وهو يصرخ في وجهه هيا يا كلب اسرع إلى السيارة.

قال له بصوت خالطه الخوف والألم, إلى أين? ما الذي فعلته? ما ذنبي? إنني لم أفعل شيئا!

ورد الجندي بصوت غاضب ونبرة مستهترة: اسكت ياابن الكلب, ولا كلمة.

أخذ أبومحمد يتوسل إليه ويستعطفه فما كان منه إلا أن عاجله بضربة أخرى على عضده الأيمن كادت أن تكسره, فصرخ من شدة الألم, وهرعت أم محمد وابنها إلى الخارج فزعين لدى سماعهما صرخته, وكاد قلبها أن يقفز من صدرها وهي ترى زوجها الطيب المسالم الكريم يسير بخطوات ذليلة تجاه سيارة النقل العام والجندي الفظ يدفعه بشدة إليها وهو يكيل له السباب.

انطلقت إلى زوجها كاللبؤة الجريحة واحتضنت زوجها وكأنها تريد أن تفتديه بنفسها وصاحت في الجندي:

ـ حرام عليكم أليس في قلوبكم رحمة? أليس فيها شفقة? ماذا فعلنا لكم?

لن يذهب زوجي معكم, اقتلني إن أردت, لكن لن أتركه.

ورفع الجندي الظالم عصاه وهم بضربها, فانطلق ابنها محمد صارخا.. لا.. لا.. أماه.. أماه, وامسك بيد الجندي ليمنعه فأخذه الجندي ووضع فوهة رشاشة على رأسه وقال لها: ابتعدي وإلا قتلت ولدك وأتبعته زوجك.

وانهارت الأم باكية: أرجوك ارحمنا, فنحن لم نؤذ أحدا, ولم نقترف جرما, فنحن قوم مسالمون نحب الخير ونكره الشر, ألسنا عربا مثلكم, أصلنا واحد وديننا واحد?

ألم نقف معكم في شدتكم? ألم نفتح لكم قلوبنا قبل بيوتنا? هل هذا جزاء الإحسان والمعروف?

وحاول زوجها تهدئتها وطلب منها أن تأخذ ولدها وتدخل إلى المنزل وأن الأمر لايعدو كونه اشتباها وسينتهي بعد إجراء تحقيق سريع وسيعود إلى المنزل بعد بضع ساعات.

كان ذلك آخر عهدها به فقد انطلقت به الحافلة إلى المجهول.

تحررت الكويت من دنس الطغاة وفرح أهلها وكل المحبين للخير والسلام, لكن أم محمد لم يكتمل فرحها ولم تتجاوز غصتها حلقها, ولم تفارق دمعتها عينها, كيف يتم فرحها وحبيبها شريك حياتها أبو محمد لم يعد من رهنه ليرى بلده التي أحب اسمها وعشق بحرها وترابها وقد تحررت من أسر الشيطان وقيد الظلم والعدوان.

كانت تراه في كل شيء في حياتها فقد كان هو حياتها. تراه في ابنها محمد الذي يشبهه كثيرا في الشكل والطبع, وتراه في كل زوايا المنزل في كل أوقات اليوم, كانت تراه في المناسبات السعيدة, وتراه في المناسبات الحزينة, فقد كان عشيرا طيب العشرة, وصديقا مخلصا, وزوجا عطوفا حنونا, كانت تراه في نظرات العطف والشفقة التي تراها في عيون الناس الذين يعرفون أن زوجها لايزال رهينة في سجون من نزع الله من قلبه الرحمة.

ولم يكن لها ما يعزيها في غيبته ولا ما يصبرها على فقده سوى اهتمامها وحرصها على تربية ابنهما محمد كما أراد أبوه أن يكون, ولو قلنا إنها وهبت نفسها لهذه المهمة لما كان في حديثنا مبالغة, فقد حرصت على أن يكون متفوقا في دراسته مستقيما في سلوكه, صادقا في تعامله, مؤمنا بربه, محافظا على شعائر دينه.

وها هي تراه يشق طريقه بنجاح ومثابرة نحو الحصول على شهادة الهندسة فقد أتم السنة الأولى في الكلية وها هو يكاد ينتهي من امتحانات الفصل الثاني من السنة الثانية, فقد أنهى جميع المواد إلا مادة واحدة موعدها صباح الغد, دخل عليها يحمل كتبه والساعة تشير إلى التاسعة مساء.

ـ السلام عليكم يا أمي.

ـ وعليكم السلام.

قبل رأسها وذهب إلى حجرته ليبدل ملابسه وذهبت هي إلى المطبخ لتجهز له وجبة العشاء.

وعلى طاولة الطعام طلب منها أن توقظه في السابعة صباح اليوم التالي لأنه يريد أن يراجع بعض الصفحات المهمة في المقرر قبل ذهابه إلى الكلية. وكرر عليها طلبه وأكد عليها, وذهب إلى غرفته وضبط جرس المنبه على الساعة السابعة زيادة في الاحتياط, ثم ألقى بنفسه على فراشه وغاب في نوم عميق.

دخلت غرفته بعد ساعة كعادتها لتلقي عليه نظرة محبة ولتتأكد من أنه مرتاح في نومته وأن الأمور كلها على ما يرام, أغلقت الباب وذهبت إلى غرفتها لتصلي صلاة الوتر, وبعد انتهائها من الصلاة رفعت يديها كعادتها إلى السماء وتوجهت بقلب مخلص مؤمن بالدعاء بفك زوجها من الأسر والاعتقال وإعادته سالما معافى لها. وتوفيق ولدها في دراسته وحياته, ثم توجهت إلى فراشها بعد أن أطفأت الأنوار وأغمضت عينيها واستسلمت لنوم عميق. وبعد ثلاث ساعات تقريبا قامت فزعة وجلة.

ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, لا إله إلا الله, محمد رسول الله, لا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم, اللهم اجعله خيراً.

وأخذت تستعيذ من الشيطان وتقرأ بعض آيات القرآن الكريم, لكن فزعها ظل مستمرا وركبت جسدها رعشة قوية, مدت يدها إلى كأس الماء الذي اعتادت أن تبقيه قريبا من رأسها ورشفت منه قليلا ورشت على وجهها منه.

ـ إنها أضغاث أحلام ووساوس الشيطان, قالت لنفسها مشجعة ومطمئنة, لكنها ظلت وجلة.

ما أبشع ما رأت وما أخطره, لقد رأت محمد ينزل من سيارته ويهم بالدخول إلى مبنى الجامعة وإذا بسياة مسرعة تصدمه وتلقي به بعيدا بلا حراك, لقد رأته بوضوح مضرجا بالدماء جثة هامدة بلا حراك, شاهدت تفاصيل الحادث وكأنه يحدث أمامها.

وتذكرت حلمها الذي رأته قبل اعتقال زوجها بليلة واحدة, ولم تلق له بالا فقد رأت في تلك الليلة المشئومة خفاشا بشع المنظر في حجم نسر كبير ينطلق بسرعة كبيرة نحو فناء منزلها ليخطف ديكهم الوحيد ويطير به بعيدا ويختفي عن الأنظار. ولقد قامت فزعة من نومها لكن زوجها طمأنها وهدأ من روعها وقال لها ضاحكا إنه ليس سوى حلم لا معنى له فنحن ليس لدينا ديك نخشى عليه من السرقة.لكن الحلم تحقق وكان الديك زوجها وكان الخفاش البشع نظام البغي والعدوان في بغداد.

إذن فقد تصدق الرؤية ويتحقق الحلم ويضيع أغلى ما في حياتها.

لا يمكن أن أفرط بولدي بسهولة, إنه نور عيني الذي أرى به, إنه نبض قلبي الذي أحيا له, إنه أملي الذي أعيش من أجله ومهمتي التي لا قيمة لحياتي من دونها.

أخذت تفكر بسرعة, وبدا عقلها يشتغل بكل طاقته وكأنها تسابق القدر, كيف تستطيع حمايته? لقد رأت تفاصيل الحادث الذي سيحدث له في الغد إنه مربوط بحضورالامتحان والذهاب إلى الجامعة, إذن لابد لها أن تمنعه من الذهاب حتى لو فاته الامتحان, يمكن أن يعوضه في فصل الصيف أو في السنة المقبلة, لكن العمر إذا ذهب لايمكن أن يعوض. لقد قررت منعه من الذهاب إلى الجامعة, لكن كيف تستطيع إقناعه, لو أخبرته بالحلم فسيضحك منها وسيقول إنه أضغاث أحلام وسيذهب من دون أن يعيره أي اهتمام.

إذن الحل ألا توقظه إلا بعد أن يمضي وقت الامتحان وتضعه أمام الأمر الواقع وتعتذر له بعدها بأي عذر, تسللت إلى غرفته على رءوس أصابعها خشية أن يسمع خطواتها وأخذت ساعة المنبه من غرفته وأغلقت عليه باب الغرفة بالمفتاح وذهبت إلى غرفتها وقد شعرت بشيء من الطمأنينة وأحست ببعض الراحة وظلت ترقب الساعة بخوف وضجر. وقبل أن تبلغ الساعة السابعة صباحا أسرعت إلى غرفته وسحبت كرسيا لتجلس عليه أمام الغرفة من الخارج وظلت ترقب باب الغرفة وتحسب الدقائق حتى أعلنت دقات الساعة الكبيرة المعلقة على الحائط في غرفة الصالون الساعة العاشرة صباحا.

إذن الامتحان انتهي وليس هناك حاجة له في الذهاب إلى الجامعة, الآن أستطيع أن أوقظه وأنا مظمئنة وسأقول له لقد أخذني النوم فلم استيقظ إلا بعد العاشرة إلا ربعا وسيسامحني, إنني أعرف (محمد) لم يغضب مني قط ولم يزعل عليّ أبدا.

وأدارت المفتاح وفتحت الباب وسحبت حبل الستارة ليدخل النور كثيفا من خلال زجاج الشباك الكبير.

ـ ما أجمل هذا الوجه ما أغلى صاحبه, محمد.. استيقظ يابني الساعة الآن العاشرة صباحا, ما أكسلك كيف تستغرق في النوم وأنت تعلم أن وراءك اختبارا, ماذا أقول. شباب اليوم لايمكن أن يعتمدوا على أنفسهم أبدا?

واقتربت قليلا منه وقبلت جبينه وهمست في أذنه برقة وحنان, محمد.. محمد.. قم يابني.. لكنه لم يتحرك.. ولم يرد عليها.. هزته, فلم يستجب, كررت ذلك بعنف, فلم يستجب عندها, علمت أن (محمدا) كان على موعد لايمكن له أن يخلفه, كان على موعد مع القدر.

شريدة المعوشرجي مجلة العربي فبراير 1998

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016