مختارات من:

من وراء البحار

رفيق المعلوف

تُعلِّلُني بالوَصْلِ والموتُ دونَهُ
إذا مُتُّ ظَمئاناً فلا نَزَلَ القَطْرُ


«أبو فراس الحمداني»


أُحبُّكِ يا لُدَيْنَةُ حبَّ راهِبْ(1)
أَماتَ الحِسَّ واجْتَنَبَ الشَوائِبْ
وفي كَبِدي مَريرُ الشَوْقِ لاَهِبْ
وَتَحْمِلُني إِليكِ الذِكْرَيَاتُ
فَأطْلُبُ أَنْ تُفارِقَني الحَياةُ
لأَشْفِيَ بِالرَدَى وَجَعَ الرَغَائِبْ

***

سَفَحْتُ رِضىً على قَدَمَيْكِ رُوحي
أَجُودُ بِها، فَتَنْزِفُ منْ جُرُوحِي
عَسَى أَلْقَى خَيالَكِ في ضَرِيحِي
كَفَى تَعْذِيبَ قَلْبِيَ في المُحالِ
فقدْ أَغْناكِ بُعْدُكِ عَنْ وِصَالِي
كَأَنَكِ نَجْمَةٌ خَلْفَ المَغارِبْ

***

أُحبُّكِ فوقَ ما تَسَعُ الحَنايا
بلا أملٍ يُطَفِّفُ منْ أَسَايا
فَتَرْصُدُني أبالِسَةُ المنايا
وقد أَعرَضْتِ هازِئَهً بِصدْقي
لكيْ أَنْسى الهَوى فَيَضيعُ حَقّي
وَأغْرَقُ في البَلاءِ، فَلاَ أُعَاتِبْ

***

أُسَائِلُ عنْ غَدي في لَيْلِ أَمْسي
وأَنتِ كِلاهُما في عُمْقِ نَفْسي
أَلاَ، كيفَ السَبيلُ إلى التَأسِّي
وَصَدُّكِ باتَ يَخْبطُ في كِياني
يُعَرْبِدُ ساخِراً مِمَّا أُعاني
ويَتْرُكُني فَريسَةَ ما أُغَالِبْ

***

إِلَيْكِ. إِلَيْكِ وَحْدكِ صُنْتُ عَهْداً
بأَغْلى أُمْنياتِ الْقَلْبِ يُفْدَى
وقد أَصْبَحْتُ بينَ يَديكِ عَبْدَا
يُطارِدُني خَيالُكِ في اللَيالي
علَى بُعْدِ الْمَزارِ، وَلاَ أُبَالي
كأنّي حامِلٌ قَدَري وهارِبْ

***

إذَا طَفَحَ الجَوى أَوصَدْتُ بأبي
وأَطْبَقْتُ الصحائِفَ مِنْ كتابي
ورُحْتُ أَطوفُ ما بينَ الروابي
أُطارِدُ وجهَكِ السَاري وأشْقى
أَهُمُّ بهِ فيَخْلُبُني ويَرْقى
يُشَعْشِعُ ساطِعاً بينَ الكَواكِبْ

***

أَنا وَتَرٌ تَقَطَّعَ فوقَ عُودِ
منَ الحَسَراتِ في غَضَبِ الوجودِ
ولي جَأْشٌ تَحَكَّمَ بالقُيودِ
يُحَطِّمُها ويُبْكيني عليها
وتُرْجِعُني مُكابَرَتي إليها
فأهلَكُ في مُغالَبَةِ التَجارِبْ

***

أنا السيفُ المجرَّدُ للقتالِ
أنا الشوّافُ عَبْرَ دُجى الليالي
أَرومُ الصَيْدَ في غورِ الدِحالِ(2)
تَرَجَّفَتِ القبائِلُ عندَ ذكري
كَلَيْثٍ طالِعٍ مِنْ بَطْنِ قَفْرِ
يُغيرُ على الدَواسِرِ والأشاهِبِ(3)

***

وَهَى جَلَدي وَحَطَّمَني الْغَرَامُ
ومِنْ عَيْنَيْكِ أَرْدَتْني السِهامُ
فأُسْقِطَ في يَدي وهَوَى الْحُسامُ
أَتَعْجَبُ كَيْفَ يَنْقَلِبُ الزَمانُ؟!
وكَيْفَ يَكِلُّ عَزْمُكَ أَوْ تُهانُ؟!
ويُصْمي الرِيمُ ناصيَةَ المُحارِبْ؟!

***

هَجَرْتُ الْبابِلِيَّةَ والنَدامى
وإِخْوانَ التَباريحِ الْقُدامى
إِلامَ الصَدُّ عَنْ طَلَبي إِلامَا؟!
لقَدْ عِفْتُ الْحَرائِرَ والْجَواري
وأَقْصَيْتُ الأَحبَّةَ عَنْ دِياري
وفي مَرْسَاكِ أَحْرَقْتُ الْمَراكِبْ!..

***

صَفيُّ الريقِ منْ شَفَتَيْكِ خَمْرُ
ومَوْجُ الدُرِّ في عَيْنَيكِ بَحْرُ
وقد أَوْحى بِفَضِّ الصَدْرِ نَحْرُ
حَبَبْتُ الموتَ في وادي الرُخامِ
أُغَلْغِلُ طالباً كََفَنَ الحَرامِ
فَتَقْتُلُني مُداعَبَةُ الْكَواعِبْ

***

صَبَوْتُ إلى وِصالِكِ يا لُدَيْنَةْ
وأَفْتَقِدُ الصَبَابَةَ كُلَّ فَيْنَةْ
كَشَاعِرِ عُذْرَةٍ يَهْوَى بُثَيْنة(4)
قَضَيْتُ الْعُمْرَ في أَلَمِ الْفِراقِ
فَهَلاَّ جادَ قَلْبُكِ بِالتَلاقي
وَهَلَّ عَلَيَّ وَجْهُكِ في الْغَياهِبْ!؟
-----------------------------------------


- وضع الشاعر اللبناني رفيق المعلوف اللمسات الأخيرة على ديوان جديد يأمل في إصداره خلال السنة الحالية التي أعلنت فيها منظمة اليونسكو مدينة بيروت «عاصمة عالمية للكتاب». ويأتي هذا الأثر الشعري المميز رديفاً لديوانه الشهير السابق «حداء وادي الشجن» الذي يعتبر منطلق العودة إلى التراث العمودي للشعر وأوزان الخليل، وكانت «العربي» سبّاقة إلى التعريف به، كما أفسحت لنقّاده على صفحاتها. وقد خصّنا الأستاذ المعلوف بهذه القصيدة من المجموعة الواعدة الجديدة.
* بعث الشاعر بهذه الأبيات إلى حسناء هام بها خلال انتقاله إلى أوربا هرباً من أهوال الحرب في لبنان سنة 1989، وبقيت هي في ذلك المنقلب من الأرض، لكنها حفرت في قلبه أخاديد من الشوق والحب.
(1) لُدَيْنة: تحريف لفظي لإسم الحبيبة الذي يقع على وزن فُعَيْلةً، مثل أُمَيْمة وبثينة وزبيدة ورُدَيْنَة.. إلخ.
(2) الدحال: الآبار أو المغاور العميقة في الأرض.
(3) الدواسر والأشاهب: من الفرق العسكرية المظفرة التي عملت قديماً في خدمة النعمان بن المنذر ملك الحيرة، ويكني بها الشاعر عن الرجال الأشدَّاء.
(4) شاعر عذرة: يقصد به جميل بن معمر العــذري الذي عرف بجميل بُثينة.

رفيق المعلوف مجلة العربي اغسطس 2009

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016