طالما عشت معيشي الخاص في عدة مدن، كما عشت معها في الكتابة تفاصيل تشكيلها في اللغة والأحداث والشخصيات، عيشا آخر بَانِيًا لها في أعمال عدة.
عشت بين فاس وطنجة ومرتيل، وهي مدن لا تَعْلُو على بعضها، على الرغم من اختلاف النسيج الاجتماعي وتباين الفضاءات، فكلها تعبر عن خصوبة العيش، ومظاهر تَشَكُّل المجتمع وخصوصية التاريخ، وكلها يمكن أن يستوحي منها الروائي عوالم أعماله، بما يتفاعل في تلك العوالم من شخصيات وأحداث وتفاصيل يومية، وذاكرة هي ذاكرة المدينة، وتاريخ هو تاريخها، من خلال تَبْوِيئِ الأحداث والشخصيات في الخصوصية المحلية، وفي ذلك المَيْسَمِ الخاص، الذي يجعل الأحداث والشخصيات مُتَجَذِّرَةً في واقعها وفضائها المديني، وبكل ما يُشَيِّدُ للمدينة في الرواية، وجهها المتميز، ووجودها الخاص، سواء في واقعها أو في واقع الكتابة الذي يستدعي اللحظات والتفاصيل والمشاهد والتجليات عبر التخييل الروائي، وسواء أيضاً، من خلال تَشْيِيدِ معالم الفضاء، عبر الوصف، والوقوف عند تحولاته عبر مراحل التاريخ.
على هذا النحو من الاشتغال على الكتابة الروائية، أنجزت أعمال روائية عدة اشتغلت على فضاءات فاس وطنجة ومرتيل، فضلا عن فضاءات أخرى لمدن أو لأماكن أخرى.
حضرت فاس كفضاء للتخييل الروائي في ثمان روايات صدرت على فترات متباينة، هي: «أبراج المدينة»، «المباءة»، «مهاوي الحلم»، «خَفْقُ أجنحة»، «الخفافيش»، «زهرة الآس (رواية في ثلاثة أجزاء)، «دم الوعول»، و«حكاية غراب». ولعل المتون الحكائية لهذه الروايات بما تنطوي عليه من أحداث وشخصيات، والتنويع في طرائق وأشكال الكتابة، لا يعنيان أكثر من محاولة الروائي القبض على مدينة منفلتة، متعددة الوجوه، ضاربة في التاريخ، مُتًحَوِّلَة في الزمان، مسكونة بالأسرار، مُتَجَلِّيَّة في التجليات. وهو ما يُبْرِزُ عجز الروائي عن احتوائها في رواية واحدة. إن ذلك هو ما يُبَرِّرُ هذا الكم الروائي، ومُرَاوَدَتَهُ لمدينة هي الأخرى ترَاوِدُ الكتابة وتغريها بمحاولة فَكِّ شفراتها وتدفع بها نحو التنويع في مجالات الكتابة.
فاس بالنسبة لي ليست حنينا إلى مدينة ولدتُ فيها وعشتُ طفولتي بين أحيائها ودروبها. إنها أَبْعَدُ من ذلك. إنها فضاء مسكون بالدهشة والحيرة والسؤال، هو ما يُحَفِّزُ الكتابة الروائية على مُقْتَرَبِ من مُقْتَرَبَاتِهَا.
ذاكرتي الطفولية، تعيدني إلى الأحياء العتيقة والدروب التي سكنت فيها مع أسرتي، وما كانت تلك البيوت التي سكناها، بالرغم من من الفقر، سوى بيوت تحمل تاريخها وقد عَمَّرَتْ لعدة قرون. عندما كنت فتى صغيراً كانت جدتي تأخذني إلى بيوت أخرى وإلى الأضرحة والزوايا والمقابر. تَشَرَّبْتُ في تلك الطفولة الكثير من اللغات والرؤى والأقاويل. عندما أصبحت يافعاً، أخذت أتجرأ على جولان يومي في تلك الشوارع والطرقات العتيقة التي تُشَكِّلُ شرايين المدينة، وكنت أطل على عتمة الدروب الضيقة ناظراً إلى أبواب المنازل، وبمعرفة أخرى كنت أتصور ماوراء أبواب تلك المنازل التي تشي بالبلى والعتاقة من حدائق ونافورات وغرف تعلوها غرف. أدمنت على ذلك التجول. في الأسواق كنت أتطلع إلى وجوه النساء والصبايا المُلَثَّمَةِ والعيون فيها حَوَر. ما أصبحت في بداية شبابي الأول حتى بدأت أقصد حديقة «جنان السبيل»، التي ترجع إلى العصر المريني أتحول بين خمائلها وبحيراتها وسواقيها ثم أجلس إلى كرسي لكي أقرأ. سرعان ما اكتشفت «دار الدبيبغ»، المدينة الأوربية التي ترجع إلى العهد الاستعماري، وما الجنان الفاصلة بين فاس العتيقة وبين فاس العصرية سوى مسافة ضرورية للفصل بين المدينتين.
وليست هذه هي فاس، إنها تقع في مُتَعَدِّدِ ما يمكن أن تكتشفه الكتابة الروائية لِتُجَلِّيَه أمام القراءة. إنها مدينة سطوحها ليست هي أغوارها. لذلك كانت الكتابة الروائية تسعى نحو مُقْتَرَبٍ لذلك الغور.
أما طنجة، فقد حضرت في أعمالي الروائية كمدينة زاخرة بتاريخها ذي الأبعاد الأسطورية، وبكونها كانت مدينة دولية تعايش فيها الأجانب مع سكانها بكثير من التسامح الديني والانفتاح على الآخر وتوسيع معنى الهوية ليصبح لها المعنى الإنساني. حضرت طنجة في أربعة أعمال روائية هي: «مغارات» (ترجمت إلى الفرنسية والإسبانية) ، «ضحكة زرقاء»، «امرأة من ماء»، وفي روايتي الأخيرة، الصادرة في هذا العام 2009، «أبنية الفراغ». عشت في طنجة لفترات متقطعة، لكني كنت قد زرتها لأول مرة وأنا في الثامنة عشرة من عمري مع جدي، وكان عمري سبعة عشر عاما.
بعد ذلك تَعَرَّفْتُ على صديقي الكاتب محمد شكري، الذي أدخلني إلى عوالمها الليلية والنهارية، ثم أقمت فيها بعد ذلك لبعض الشهور. كنت خلال هذه العلاقة مع طنجة أصغي إلى أصوات «الطنجاويين» وهم يَتَمَلَّكُونَ لغتهم الخاصة في الحكي عن سيرتهم وسيرة مدينتهم، وكنت أجوب مجتمعها الذي يتكون من نسيج اجتماعي خاص، وفي تاريخها المنسي، وفي أسرارها كمدينة عاشت التاريخ وتعاقبت عليها مظاهر العيش ومظاهر المعمار ومظاهر أخرى مسكونة بالأسرار، وكل ذلك كان موحيا للكتابة الروائية، منْعِشًا لتجاذباتها بين الأحداث والشخصيات.
مدينة مرتيل، التي أعيش فيها، الواقعة على الأبيض المتوسط، القريبة من سبتة، لم تمنحني الكثير من الأعمال. لم توح لي بالشيء الكثير. لكني عندما كتبت روايتي "كائنات محتملة"، سعيت إلى تلمس الكثير من تاريخها وعيش الإسبان بها جنبا إلى جنب مع من جاءوا للعيش فيها من المغاربة. لم تكن المدينة سوى ثغر بحري أقيم به بُرْجٌ لِصَدِّ هجمات البرتغال والإسبان عليها، لكنها واقعة على القرب من قبائل جبلية عرفت بمقاومتها للاحتلال. في «كائنات محتملة» (ترجمت إلى الإسبانية)، شَيَّدْتُ مدينة من الفراغ. أسميتها: «زرقانة»، مستمداً اسمها من زرقة البحر ومن زرقة عيون سكانها. من تاريخها الذي رواه المؤرخون كتبت تاريخها من المتخيل الروائي. في رواية أخرى توجد قيد النشر، عنوانها: «خطوات المسافر»، تقاطع فضاء مرتيل مع فضاء إشبيلية، وحيث وجد في شخصيات الرواية إسبان عاشوا في مرتيل ومغاربة هاجروا إلى إشبيلية.
سبق لي أيضا، في روايتي «رحيل البحر»، أن اشتغلت على فضاء مدينة أصيلة، مقيما نوعا من العلاقة بين الوجه التاريخي للمدينة وبين نمط العيش فيها، في فترة كانت المدينة تعرف فيها انقطاع الكهرباء في الشتاء وانقطاع الماء في الصيف.
قلت إن المدن لا تعلو على بعضها في شيء، إلا بما تمنحه للروائي من مساحة للتخييل، وبما تُوَهِّجُ به الكتابة من وَهَج، وبما يتعدد فيها من أشكال الحضور.
بعد كل هذا، لا يسعني إلا أن أعود إلى تأمل العلاقة الممكنة بين الروائي وبين المدينة، وهو تأمل مشفوع بالكثير من الأسئلة التي ولابد أنها في سياقاتها المتعددة تقيم نوعا من الفرق الجوهري والنوعي بين المدينة كما هي، بفضائها المعماري وتاريخها الخاص ونسيجها الاجتماعي، وبين المدينة كما تحضر في الكتابة الروائية، بصوغها التشكيلي المراوح بين أبعادها الدلالية والجمالية.
الروائي قد يكون جَوَّاب آفاق، يَسْتَكْنِهُ سطوح أشياء المدن في بحث عن معانيها الثاوية في أعماقها، وقد يكون وبحكم تقلبات حياته الخاصة مستثمراً لرصيد من المشاهدات والتجليات، وقد يكون مقيماً في مكانه لا يبرحه وفيه يرى الأمكنة الأخرى متجلية أمامه بزخم العيش فيها وبما يطبع ذلك العيش من طبائع وعادات وتقاليد الرواية لها هذا المنحى الاجتماعي، ولكن منحاها الآخر في الكشف الأدبي عن موضوع الفضاء وسحر هذا الموضوع.
الروائي ليس جغرافياً ولا مؤرخاً ولا باحثاً اجتماعياً ولا أنثروبولوجياً، مع أنه يحمل شيئاً من أولئك، برصده للأماكن وما يتعايش فيها من ظواهر اجتماعية وتحولات يعيشها المكان ويعيشها أناس ذلك المكان. إنه بقدر ما يلتقي مع أولئك، ويستفيد منهم، فهو يختلف عنهم في منهج البحث وطرائق التحليل، لأن وسيلته لولوج العوالم هي التشخيص والوصف الروائيان، والتخييل الأدبي لعوالم تنبض بالحياة وتزخر بتقلبات الحياة وصراعاتها. إنه ليس وَصَّافًا ولا عَرَّافًا. إنه صاحب أخيلة يلتبس فيها الواقع بالخيال، والمرئي بالما وراء، والمُشَخَّصُ بالمجرد، والحسي بالمعنوي، والإقامة الجسدية بالسفر الصوفي، والأرضي بالسماوي، والأخلاق باللاأخلاق، والمعنى بمعانيه المتعددة.
المدينة في نظر الروائي ليست جغرافية للشوارع والطرقات والدروب والمعالم المعروفة، بل هي عوالم سِرِّيَّةٌ توجد دوما قيد الاكتشاف، واكتشافها يوجد دوما قيد التجدد، وهو ما يجعل الروائي يكتب أكثر من رواية عن المكان الواحد.
في هذا المعنى الذي تسعى الكتابة الروائية إلى تحقيقه، لابد من الإشارة إلى عنائها في بناء العوالم وبناء الأشكال. إن الرواية ليست فراغاً من المعنى الاجتماعي كما أنها ليست فراغا من التَّشًكُلِ الجمالي. إنها بهما معا، تُؤَسِّسُ لوجودها كرواية.
هل يكون ذلك ممكنا؟
إنه لا يكون ممكنا إلا بخوض مغامرة الكتابة.