عرف الذكاء بأنه القدرة العامة للفرد على العمل نحو غرض معين وعلى التفكير منطقياً وعلى التكامل مع بيئته بصورة فعّالة, وإذا كانت نظريات الذكاء تعتمد على البحوث التجريبية والإحصائية, فهل استطاعت أن تضع يدها على مكان الذكاء أو ما يعرف بمكوناته بيولوجياً?!
إن كلمة (ذكاء intelligence) التي ذكرها (بيرت) (1955) تعود إلى (ارستوتل) الذي ميّز بين أي الوظائف الانفعالية والخلقية والوظائف المعرفية والعقلية. ومع أن علماء التخصص يدركون تماماً أن أي حركة أو فكرة لدى الإنسان أو الحيوان تتضمن مظاهر انفعالية ومعرفية, إلا أن الجانبين يتمايزان بدرجة كافية بحيث يمكن دراسة كل منهما على حدة, ومع ذلك فإن الأصول التاريخية للمصطلح مسئولة جزئياً عن كثير من نقط سوء الفهم. فقد أوحت لنا هذه الأصول باعتبار الذكاء نوعاً من الأشياء أو الكميات المستقلة في العقل. كما أشار (رايل) إلى أن محاولات وصف الذكاء أو تعريفه لا قيمة لها حيث إنها تتضمن خرافة (الشبح في الآلة), إننا لا يمكن أن نلاحظ الذكاء بصورة مباشرة وكل ما يمكن أن نلاحظه أن بعض الأفعال أو الكلمات أو الأفكار تدل على ارتفاع الذكاء والمهارة أو تكون أكثر فعالية من غيرها.
يذكر (بيرت) أنه لا يساعدنا كثيراً أن نقرر أن الذكاء (صفة) أو حال بدلاً من اسم, ويوجد في الطبيعة عدد كبير من الأمثلة لما يطلق عليه خواص افتراضية لا تتكون من أشياء - مثل ذوبان مادة كيميائية في سائل, أو التوصيل الكهربي في دائرة كهربائية. ومع أنه لا يوجد اتفاق تام على طرائق قياس هذه الخواص إلا أنه من المؤكد يمكن تعريفها في صورة عمليات محددة, بينما لا نجد مثل هذا التأكيد على صياغة الذكاء إجرائياً. ومع ذلك يمكن أن نعتبره تكويناً مفيداً, أي أنه شيء ما يساعدنا على تفسير السلوك على الرغم من افتقاده للملاحظة المباشرة واتسامه بالغموض.
ويشير (جوزلين) إلى أن القدرة على لعب كرة القدم هي أيضاً تكوين إلا أنه يمكن تحديد الأفعال التي تتطلبها بصورة أسهل منها في حالة الذكاء, وفي الواقع فإن نسبة كبيرة من النظرية السيكولوجية تقوم على تكوينات فرضية مثل الإدراك والارتباط والتصوّر والغريزة والحافز, وغيرها, ولكننا يجب أن ندرك ما نفعله عندما نستخدم هذه المصطلحات وأن نحاول, بصورة دائمة ترجمتها إلى العمليات أو السلوك الذي يمكن ملاحظته ويدل عليها. ولذا يشير (جينسين) إلى أن الذكاء, أو العامل (g)(1), تكوين صادق لشرح السلوك مثل (المورثات) في (البيولوجيا) أو الذرات في الفيزياء.
لقد تداخلت الأفكار التي تتعلق بالملكة الأساسية أو نوعية العقل لحد كبير, لكن كتّاباً كثيرين أكّدوا بشدة على التفكير المجرد (من أمثال بيرمان) وحل المشكلات والقدرة على التخطيط من أمثال (بورتس) والانتباه والقدرة على التكيف والقدرة على التعلم والاستبصار وإدراك العلاقات من أمثال (سبيرمان). لكن لا يستطيع واحد من هذه الأوصاف أن يخبرنا أي نوع من السلوك أو الاستجابة لفقرة ما في اختبار معين يكون مثالاً جيداً أو مثالاً فقيراً للذكاء.
مكونات الذكاء
يرى (بينيه) أن الذكاء يتكون من مجموعة معقّدة من الخواص تتضمن:
- الاهتمام بالمشكلة وتوجيه العقل نحو حلها.
- القدرة على التكيف بأقصى قدر ممكن للوصول إلى نهاية محددة.
- القوة في نقد الذات.
وكتب في مكان آخر أن الخاصية الأساسية هي الحكم أو التي يطلق عليها الحسّ الجيد والحسّ العملي والمبادأة وقدرة الفرد على ملاءمة نفسه مع الظروف المحيطة به, أي الحكم بصورة طيبة والفهم بصورة طيبة والاستدلال بصورة طيبة, وهذه هي الأنشطة الضرورية للذكاء.
ومن هنا نلاحظ أن (بينيه) يشير إلى سمات دافعية بالإضافة إلى السمات المعرفية, وقد تبعه في ذلك وكسلر (1958) الذي عرف الذكاء بأنه القدرة العامة للفرد على العمل نحو غرض معين وعلى التفكير منطقياً وعلى التعامل مع بيئته بصورة فعّالة. إن معظم الآراء الحديثة عن الذكاء أصبحت اليوم أقل تأملاً, وتعتمد على الكثير من البحوث التجريبية والإحصائية وبحوث النمو.
المظاهر البيولوجية
لقد أوضحت أعمال علماء البيولوجيا وعلماء علم النفس المقارن وعلماء الأعراق أن الرابطة بين القدرة على تكييف السلوك وحجم المخ ودرجة تعقيده أقل بساطة من بداية ظهورها. والواقع آن الآليات الفطرية العامة لدى أعضاء نوع معين من الكائنات تلعب دوراً مهماً في السلوك, علاوة على أن التمييز بين الآليات الفطرية والعادات المكتسبة ليس حاداً. وقد ذكر (لورينز) أن سمات الكائن تتضمن أنماطا فطرية, لكنها تظهر تحت ظروف من الإثارة البيئية المناسبة. ويمكننا حتى ملاحظة مستويات معقدة جداً من القدرة على التكييف بين الحشرات, لاحظ مثلاً, العنكبوت في بناء نسيجه, والنحل في بناء خليته, والنمل في تعلم المتاهة, تجدها كلها تبدي من الإنجاز ما يكافئ إنجاز الفئران ذات المخ الأكبر بكثير جداً. وكذلك فإن بعض ما يبدو من قدرات التفكير لدى الإنسان مثل التعميم وإدراك العلاقات وحل المشكلات عن طريق الاستبصار تحدث في صورة بدائية لدى الفئران والطيور وتكون أكثر وضوحاً لدى القرود التي تستطيع اكتساب حتى الكثير من وظائف اللغة.
أشار (استنهاوس) إلى أن تطور الذكاء الإنساني نادراً ما يمكن أن ينسب إلى اتفاق مجموعة من التغيرات الوراثية (التي تكون في معظم الأحيان ضارة أكثر منها نافعة, وقد حاول تتبع أثر التطور التدريجي لأربعة عوامل رئيسية أو أسباب ضرورية للذكاء لدى الحيوانات العليا والإنسان, لكل منها قيمة لبقاء الحياة, ولذا تطورت (هذا حسب رأيه) عن طريق الاختيار الطبيعي وهذه هي:
- ازدياد نوعية وقدرة التجهيزات الحسيّة والحركية وهذه تحسنت إلى حد بعيد لدى الإنسان متمثلة في وقوفه منتصباً وقدرته على الرؤية لمسافات مختلفة واستخدام اليد لتنال الأشياء والحنجرة للكلام.
- القدرة الهائلة على حفظ الخبرات السابقة وتنظيم أو تصنيف هذه الخبرات لإمكان استعادتها بسهولة.
- القدرة على التعميم والتجريد من علاقات الخبرات البصرية.
- القدرة على تأجيل الاستجابات الغريزية الفورية والسلوك الاستكشافي والفضولي والقدرة على عدم التعلم وتعديل التعلم السابق وانعكاس ذلك من صورة حلول مبتكرة للمشكلات.
إن النتيجة العامة التي تتفق مع البحوث البيولوجية والسيكولوجية الحديثة هي أن السلوك الحيواني لدى الكائنات الدنيا يكون مباشراً بدرجة كبيرة ويتقرر فورياً إما عن طريق التركيب العضوي للكائن (الآليات العصبية والبيوكيميائية الفطرية) أو عن طريق الإثارة الخارجية التي يصبح الكائن مشروطاً لها أو عن طريقهما معاً, بينما تحدث لدى الكائنات العليا عمليات متوسطة في الجهاز العصبي المركزي يكون مداها أكبر, ويتفق هذا مع القياس العملي للذكاء, حيث إن المشكلات العقلية الأكثر تعقيداً التي يمكن أن يحلها أفراد البشر والقرود أو الفئران هي التي تتطلب مزيداً من التفكير الداخلي.
لا يقدم تشريح المخ أو (فسيولوجيته) سوى القليل من المساعدة في فهم طبيعة العمليات العقلية, ويبدو أنه في حالة الجنس البشري لا يوجد إلا ارتباط صغير جدا بين الذكاء وحجم المخ أو مدى تعقيد طيات سطحه أو أي مظهر مميز آخر. ومع أن النمو الهائل للقشرة اللحائية يرتبط بصورة واضحة بتفوق القدرات العقلية لدى أفراد الجنس البشري إلا أنه لا يكون من الممكن تحديد مساحات معينة ذات وظائف معينة فيها عدا المساحات الحسّية والحركية واحتباس الكلام أو أي خلل لغوي يرتبط بمنطقة (بروكا) والمناطق المجاورة من النصف المخي الأيسر.
ولقد أظهرت بعض البحوث وجود تمايز كبير في الوظيفة بين النصفين المخيين فيكون النصف الأيسر مسئولا عن العمليات اللغوية والمؤقتة, بينما يكون النصف الأيمن مسئولاً عن العمليات المكانية والبصرية. ومن المعروف أنه يمكن إزالة أو تخريب أقسام كبيرة من المخ دون أن تحدث آثاراً دائمة على قدرات معينة, وأن الإثارة الكهربائية لنقط على السطح يمكن أن تحدث استجابة حسيّة أو حركية مختلفة جداً.
التفكير والإدراك... أين?!
وفي عام 1958 نشر (بنقليد) مقالاً علمياً يوضح فيه أن إثارة أجزاء من النصف الصدغي يمكنها في بعض الأحيان إحياء خبرات سابقة نسيها الفرد تكون مصحوبة بالهلوسة في معظم الأحيان, ومع ذلك لا يوجد اتساق في الأدلة لأن التجارب أثبتت أنه حتى بإزالة اللحاء الحركي لدى القرود فإن ذلك لا يحدث أي فقدان في المهارات الحركية, لذا يتضح عدم صدق الادّعاء بأن جوانب معينة من الإدراك ومن التفكير وغيرها, توجد في خلايا عصبية معينة.
فتحت نافذة جديدة من الدراسات عندما أمكن تسجيل الجهود الكهربائية الحادثة من أدمغة أفراد أسوياء من البشر, وقد اتضح أن أشكالاً معينة غير عادية من الموجات, وخاصة تلك التي تأخذ الشكل اللاخطي, يمكن أن تكون ذات فائدة تشخيصية - كما في حالة الصرع مثلاً - ووجد أن موجات Alpha السائدة تكون مفقودة بصورة عامة لدى صغار الأطفال لكنها تزداد في الاتساع والمعدل Rate حتى حوالي العمر 12 سنة. ولذا فإنها ترتبط إلى حد ما, بالعمر العقلي, مع أنه على ما يبدو لا يوجد مثل هذا الارتباط مع نسبة الذكاء, أي مع الفروق في الذكاء بين الأسوياء عند أي عمر معين, ومع ذلك يبدو أن جهود الموجات الكهربائية المخية, أي سرعة الاستجابة للجهود الكهربائية الحادثة بواسطة الإثارة الخارجية تكون أكثر احتمالاً. ولقد ساعد ظهور مثل هذه الأشكال الموجبة اللاخطية كثيراً في علاج حالات عدة استعصت على الطب الحديث من قبل بعض الباحثين, وقد سجلت في مجال علاج الحالات الميئوس منها طبيا.
ولقد ادّعى (أرتل) حصوله على معاملات ارتباط تصل إلى (0.6) مع نسبة الذكاء التي يمكن قياسها, الأمر الذي بقى محيّراً لدى الباحث لسنوات عدة لارتفاع قيمة معاملات الارتباط عنده, وهذا يقود - دون شك - إلى التوقف معها, ولم تحصل أي درجة من الاطمئنان عليها حتى عثرنا على تتبعات إيزينك أخيراً لأعمال (Ertl, 6691) حيث أكد وجود ارتباطات موجبة لكنها تكون عادة قريبة من (0.3) وهو ما ذهبنا إلى تقديره قريباً من ذلك نحو (0.28) عبر برنامج رياضي صمم لاختبار وفحص هذا القيم من معاملات الارتباط خاصة(2).
وفي دراسة قام بها (شوكارد) و(هورن) حسبت معاملات الارتباط بين جهود الاستجابة وعدد من اختبارات القدرة, وكانت معاملات الارتباط في معظمها أقل من (0.25) وكانت المعاملات مع الاختبارات غير اللغوية التي اعتبرها (كاتل) مقاييس للذكاء المائع غير مرتفعة عن المعاملات مع الاختبارات اللغوية التي اعتبرها (كاتل) مقاييس للذكاء المبلور(3).
ونؤكد في هذا المقام على أنه يجب علينا ألا نتوقع الحصول على ارتباطات مرتفعة جدا حتى ولو كانت مقاييس (EEG) تمثل الجهود المخية الفطرية بصورة صحيحة, كما يحدث عند بعض الباحثين في هذا المجال - حيث إن مقاييس الذكاء التي نقارن بها تتأثر بدرجة كبيرة وهو ما توصل إليه البروفيسور (Vernon) عبر سلسلة طويلة من البحوث في هذا المضمار. لذلك فإن معاملات الارتباط سواء كانت مرتفعة أو منخفضة سوف لا تثبت أن مخططات (EEG) أو المظاهر الأخرى لوظيفة المخ تتفق مع الأساس الفيزيائي (للذكاء A), ومن الواضح أن التنشئة في بيئة مثيرة قد تؤدي إلى تشجيع النمو العصبي, وبعبارة أخرى قد تنتج خصائص مخية جيدة كسبب لتكون (ذكاء B) جيد(4).
الهوامش:
(1) g- العامل العام للقدرة. ويرى (سبيرمان) أن هذا العامل يوجد بدرجة كبيرة أو صغيرة في كل القدرات المعرفية. ولقد ثبت أنه لا يمكن وحده أن يفسر كل الارتباطات في مجموعة من الاختبارات المختلفة, ولذا ظهرت العوامل الجمعية (Group factors) ويفضل (ثورستون) و(جيلفورد) العوامل الأولية المركبة (Multiple primary factors) - الباحث.
(2) معامل الارتباط (Correlation Coefficient) مقدار إحصائي يعبر عن درجة الاتفاق بين مجموعتين من المقاييس لنفس الأفراد (نسب الذكاء والتحصيل الدراسي مثلا), يمتد معامل الارتباط من 0.0 ويعني (لا يوجد أي اتفاق) إلى + 1.0 ويعني (يوجد اتفاق تام) أو إلى -1.0 ويعني (علاقة عكسية تامة). يرمز لهذا المعامل بالرمز (r) - عن كتاب: سيكولوجية الإبداع, 1997م - الباحث.
(3) يعبر الذكاء المائع عن الكتلة الكلية الارتباطية (Associational) أو الاتحادية من المخ, أي مظاهر العمل العقلي التي تتحدد بيولوجيا والتي تجعلنا قادرين على حل مشكلات جديدة وفهم علاقات جديدة أيضاً. أما الذكاء المبلور فهو يعبر عن المفاهيم والمهارات والأساليب التي اكتسبناها تحت تأثير بيئتنا الثقافية وتربيتنا كذلك. ومن الطبيعي أن يؤثر كل من النوعين في أي عملية عقلية وبمقادير مختلفة.
عن كتاب سيكولوجية الإبداع, 1997م - الباحث.
(4) الذكاء (A) مصطلح من ابتكار D.o.Hebb أطلقه على الجهد الوراثي الأساسي للنمو العقلي لدى كل فرد. أما الذكاء (B) فهو مصطلح أطلقه Hebb على القدرة المعرفية الشاملة التي يمكن ملاحظتها, والتي تنتج عن التفاعل بين الذكاء (A) وطبيعة الإثارة التي تهيئها البيئة التي يربى فيها الفرد. عن كتاب سيكولوجية الإبداع, 1997م - الباحث.