مختارات من:

فضاء النقد الأدبي

جابر عصفور

عندما نسترجع أحداث هذا القرن النقدية، ونستعيد الإنجازات البارزة التي تحققت فيه، لا نلتفت إلى عدد الكتب أو أسماء النقاد، أو علاقات التواصل التي تابع فيها اللاحق جهد السابق، وإنما نسترجع الأحداث التي استهلت آفاقا جديدة من الوعي وعلاقات مغايرة من المعرفة.

والبداية مرتبطة في تقديري بإعادة اكتشاف "المؤلف" من حيث هو "مبدع"، وتسليط الضوء عليه إلى الدرجة التي تلاشى معها الوجود التقليدي لهذا "المؤلف" مع موجات الضوء الواقعة عليه. لقد ورثنا عن القرن التاسع عشر مفهوم المؤلف الذي صاغ الفكر الأوربي ملامحه في وعينا، منذ أن تنبه هذا الفكر إلى قيمة الفرد، الكائن الإنساني، مع بداية العصر الحديث، وظهور النزعة التجريبية الإنجليزية، والنزعة العقلانية الفرنسية، والإيمان الفردي الذي نتج عن حركات الإصلاح الديني.

هكذا كان المؤلف الفرد، الكاتب الملهم، المبدع الخالق، سر قوة الليبرالية وسبب ضعفها، هو الكائن الذي يصنع التاريخ على عينه، وينوء بأثقال الكون على كتفه، ويعثر في داخله على المعاني الكبرى التي تضفي على كل شيء معنى، كاشفا بتعبيره على أغوار نفسه، مسقطاً هذه الأغوارعلى الوجود الذي أصبح مرآة له.

هذا الكائن المتفرد الذي ورثناه عن القرن التاسع عشر، محاطا بهالة من الغموض البهيج والتسامي الرهيف، هو نقطة البداية التي انطلقت منها سلسلة الكشوف الحاسمة في فضاء النقد الأدبي للقرن العشرين. وبقدر ما كان الهدف من هذه الكشوف هو الاقتراب من الأفق المراوغ لهذا الكائن، والاحتفاء بقدراته الخلاقة، وتأصيل حضوره في الوجود، كانت نتيجة الكشوف نفسها تعرية للسحر الذي أحاط به، وإزاحة للقداسة عن حضوره، وإعلان موته في النهاية. وذلك في موازاة الانتقال بكتابته من مفارقة الإلهام إلى مكابدة الصنعة، حيث الواقع الذي يفرض وجوده، والوعي الذي يؤكد حضوره، واللغة التي تكتشف نفسها وتشير إلى ذاتها في فعل اكتشافها العالم وإشارتها إليه. وكما اقترنت هذه النتيجة باختفاء تيجان القديسين من فوق رأس الكاتب، وتحوله إلى كائن معجون بالواقع، ونتيجة حتمية لعلاقاته، اقترنت بتأكيد مفهوم الكاتب الذي يسعى في الطرقات، يصارع كل تجليات السلطة التي لا تكف عن القمع، مواجها القوة التي تصاعد عنفها العاري في هذا القرن كما لم يحدث من قبل في التاريخ الإنساني.

قارة الأعماق

وكان الكشف الأول الذي استهل به هذا القرن دورته قرين اقتحام قارة الأعماق التي تتبدل فيها الذات، ما بين أقاليم الوعي وأقطار اللاوعي، في أطلنطيس الشعور الذي لم يعد، بعد هذا الكشف، غامضا مخيفا متأبيا على الفهم. وكان سيجموند فرويد (1856 - 1939) صاحب هذا الكشف الذي فض السر المختوم على بوابة القارة السفلية، ففتح الأبواب المغلقة، وأنار الدهاليز المعتمة، كاشفا أسرارها التي كانت محجوبة، فأصبحت متاحة مألوفة، وانتقلت من وضع غامض لا تفسير له إلى وضع العلم الذي ينطوي على قوانين معقولة، وأنساق مفهومة، وأبنية منتظمة من علاقات ليست هيولي غريبة، أو تجمعا عشوائيا من ظواهر متناثرة. وحين ارتبطت الكتابة بعلاقات هذه القارة السفلية، بعد اكتشافها، لم تعد إلهاما من قوى علوية مفارقة، أو مناولة سرية من شياطين وملائكة، وإنما أنساق من العلامات التي تدعو إلى التأويل، وأبنية من العلاقات التي تطلب التفسير. وترتب على ذلك أن استبدل التأمل النقدي المعنى باللامعنى، في علاقات التحول والإزاحة، على مستوى الأعمال الأدبية، وأكد رمزيات الاستبدال، وآليات التكثيف.

ولم يكن من المصادفة أن ينشر فرويد كتابه عن تفسير الأحلام عام 1900 على وجه التحديد، وكتابه عن علم نفس عام 1901، وينشر بعد ذلك بأعوام قليلة ثلاث مقالات عن الجنس، إلى جانب دراسته عن النكات وعلاقتها باللاوعي، فضلا عن دراسته الشهيرة عن الهستيريا عام 1905، فكلها دراسات بدأت مع فاتحة القرن، وظلت علامة على مطلعه، من حيث هي بداية انقطاع حاسم في المعرفة العامة بالإنسان والمعرفة الخاصة بالكتابة. أعني انقطاعا تحولت به المعرفة عن مسارها المعتاد، واتجهت إلى مسار واعد باستكمال كشوف قارة الشعور - اللاشعور التي لم تعد أطلنطيس مجهولة، بل علاقات صالحة لتفسير الإنسان الذي أصبح مفعولا لقوانينها، كما أصبح إبداعه نتيجة لهذه القوانين، وفعلا من أفعال "التسامي" أو " المراوغة " في مواجهة السلطة التي ينطوي عليها اللاوعي.

ولم يكن مصادفة كذلك أن يكمل كارل يونج (1856 - 1961) عمل فرويد، ويضيف إلى إنجازه ما يكشف عن البعد الجمعي من قارة اللاوعي، وذلك منذ أن حصل يونج على درجة الدكتوراة من جامعة بازل (عام 1900) في السنة نفسها التي نشر فيها فرويد " تفسير الأحلام". وقد التقى كلاهما عام 1907 وتعاونا بما أثمر محاضرتهما في جامعة كلارك. وكان ذلك من قبل أن يمضي يونج في طريقه الخاص، منفصلا عن فرويد عام 1913، ويركز جهده على اكتشاف البعد الأسطوري من الأحلام والتوهمات، فيصل إلى نظريته الخاصة عن رمزيات اللاوعي الجمعي والأنماط العتيقة، تلك الرمزيات التي ظلت موازية للأنساق الفرويدية في طابعها البنائي الذي أنزل "الكتابة" منزلة النتيجة للسبب الذي يقبل الفهم.

منذ ذلك العهد، تزايد الاهتمام بالكاتب من حيث هو نتيجة لقوانين ينطوي عليها، وتزايد الاهتمام بالكتابة من حيث هي كاشفة عن اللاوعي الفردي أو الجمعي، وأصبح الكاتب صانع رسالة متعددة المستويات المعقولة، والكتابة مجموعة من العلاقات الدالة. ومنذ أن كتب فرويد عن مسرحية "أوديب ملكا" "سوفكليس" و"هاملت" شكسبير، ضمن كتابه تفسير الأحلام، تحولت الكتابة نفسها إلى صياغة تصالح بين المقاصد الواعية واللاوعية، وتكشف النص عن لا وعيه الخاص، في رمزيته التي تجلت في ضوء جديد، لا يزال يغوي الأجيال المتعاقبة من النقاد، والتيارات المتباينة من الممارسات النقدية، باكتشاف الطبقات المتعددة من لا وعي الكاتب ولا وعي الكتابة.

ومن هذا المنظور، فإن الصلة بين ما كتبه بريسكوت عن الشعر والأحلام عام (1912) ومود بودكين عن النقد الأدبي ودراسة اللاشعور (1927) لا تختلف عن الصلة بين ما كتبته ماري بونابرت عن إدجار آلان بو عام (1933) و إرنست جونز عن هاملت وأوديب (1949) من حيث هي كتابات أفضت إلى التيارات النفسية المعاصرة في نقد القارئ حتى في منحاها التجريبي الذي يظل يبحث عن أنساق قارة، يدل عليها النص دلالة الدال على مدلوله.

هذه الآليات، بدورها، أصبحت فضاء خاصا لمئات الدراسات التي حاولت أن تكتشف ما أغفله فرويد ويونج، وتضيف إلى اتجاهات التحليل النفسي اتجاهات مغايرة، بدأت من علم نفس الجشطالت ولم تتوقف عند المدارس التجريبية، وانتقلت من الوعي الكاتب إلى لا وعي الكتابة، وتحولت من آليات التشكل إلى آليات الإرسال، ومن آليات الإرسال إلى آليات الاستقبال، وقد أصبحت هذه الأخيرة منطقة الجذب، في تحول مركز الاهتمام من المؤلف إلى القارئ، ومن فعل التخيل إلى فعل التخييل، في الدراسات المعاصرة التي يقوم بها أمثال نورمان هولاند عن ديناميات الاستجابة الأدبية (1975) أو ستانلي فيش عن اللا شعور الأدبي للقارئ عام (1980) حيث المشاهد الأخيرة من الطريق الطويل الذي راده فرويد في مطلع القرن، وما لبثت المدارس اللاحقة والمغايرة أن فرعته إلى عشرات الاتجاهات والمسارات.

أبنية المجتمع

ولا يفوق كشف فرويد في الأهمية، من حيث تعرية الكاتب من الهالة النورانية التي أضفت على كتابته سحرا وغموضا، إلا الكشف الذي سبق به كارل ماركس (1818 - 1883) حين سلط الضوء الساطع على أبنية المجتمع التي تتوزع ما بين أبنية تحتية وفوقية، تتواصل بعلاقات طبقية لها حتمية القانون. هذه العلاقات وضعت الكاتب داخل بناء اقتصادي سياسي اجتماعي، وأنزلته من علياء الفاعل المفارق إلى واقعية المنفعل المشارك، داخل بناء محدد، أصبح الكاتب معلولا له ونتيجة من نتائجه، حتى في مبادراته الخلافة وأفعاله الفردية. وترتب على ذلك أن أصبح الكاتب ابن عصره، وانعكاسا حتميا له، بمعنى أنه أصبح محصلة تفاعل العلاقات الاقتصادية الاجتماعية التي تشكل وعيه ورؤيته لمجتمعه وموقفه من (أو موقعه في) صراع واقعه.

وكما أزاح هذا الكشف الوهم الرومانسي عن الطبيعة المفارقة للكاتب، والوهم الصوفي عن الطبيعة الحدسية للكتابة، أكد الوجود الواقعي للكاتب، والحضور الملتزم للكتابة، وزود الواقعية بالسلاح الحاسم الذي ساعدها على تحقيق انتصارها النهائي على أعدائها التقليديين، بعد محاولاتها المتعددة، المتكررة، منذ أواخر القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر.

وإذا قلنا إن الواقعية هي الإخلاص للطبيعة البشرية والحياة الفعلية والتمثيل الدقيق للواقع، على مستوى النظرية والممارسة في الفن، فإنها نقيض النزعة المثالية، وقرينة العين المدققة في الوقائع الاجتماعية، وذلك منذ أن أظهرت نفورها من الرومانسية، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، متسلحة بوضعية أوجست كومت وازدهار الصحافة اليومية، إلى أن أصبحت اتجاها بارزا للرواية الأوربية في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، واتجاها أبرز بين اتجاهات المسرح في أواخر القرن نفسه. وقد وجدت هذه الواقعية حراسها الأعنف ومنظريها الأصلب في اليوتوبيا الماركسية التي انتقلت من مستوى التنظير إلى مستوى الممارسة مع فلاديمير إيليتشن لينين (1870 - 1974) الذي تولى قيادة الثورة الروسية 1917 والتنظير لعالم جديد بدأ يتجسد فعليا منذ نهاية العقد الثاني من هذا القرن.

ولقد أصبح "الكاتب الملتزم" علامة واعدة من علامات هذا العالم الجديد، وأصبحت الكتابة التي تعكس الصراع الاجتماعي، وتتخذ موقفا منه، وسيلة الكاتب في الانتقال بهذا العالم من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية. وترتب على ذلك أن أصبحت النزعة الواقعية القديمة نزعات واقعية متعددة: نقدية، اشتراكية، وجودية، تسجيلية، ملحمية.. إلخ.

تسميات متعاقبة أحيانا ومتزامنة أحيانا أخرى، تعكس صراعا في الاتجاهات، واختلافا في النظريات، وتباينا في التوجهات الأيديولوجية لعالم أخذ يعرف معنى الاستقطاب الدولي، ويغير تحالفاته ومراكز نفوذه، ويشهد أعلى درجات المد الرأسمالي في مواجهة أعلى درجات المد الماركسي، وذروة الإمبريالية وبدايات تفكك الكولونيالية. وذلك كله على نحو فرض متغيراته على حضور الكتابة في حركة الواقع، وتجسدها في التاريخ، وخضوعها إلى القوانين التي تحكم حركة الفعل البشري، داخل البنية العلائقية للمجتمع. هكذا أصبحت الكتابة بنية أخرى موازية لبنية المجتمع ومتولدة عنها، شكلا من أشكال الوعي الاجتماعي.

وكان ذلك يعني إزاحة أخرى للكاتب من مركز الوجود، والانتقال بحضوره من معنى الفاعل الأول والعلة الأولى إلى معنى المنفعل والمفعول. أصبح الكاتب نتيجة، محصلة، مرآة. وأصبحت الكتابة انعكاسا، تصويرا. لكنها ظلت كالكاتب معلولا يتولد عن علة أوسع، بنية صغرى تنتج عن بنية كبرى. وتبددت إلى الأبد أسطورة الكاتب الفرد الذي يصنع الوجود على عينه، ويغير التاريخ بقلمه السحري، وحلت محلها صورة الوسيط الذي تتجسد به وفيه، إبداعيا، أحلام الطبقة أو المجموعة الاجتماعية، على نحو غدت معه الكتابة تصويرا يكشف عن نمط التناقضات في البنية الاجتماعية، ورؤى عالم هي أبينة عقلية تجاوز الفرد.

وكما كان اكتشاف البنية المتصارعة لللاوعي تأكيدا للعلاقة بين الحلم والكتابة، في حتمية الخضوع إلى قوانين ثابتة تجاوز الفرد، كان اكتشاف البنية العلائقية للمجتمع تأكيدا للتجاوب بين أبنية الواقع وأبنية الكتابة، وبين الأخيرة وغيرها من أبنية الوعي الاجتماعي وأشكاله الأيديولوجية، وذلك في حتمية الخضوع نفسه إلى قوانين ثابتة على مستوى مغاير. وقوانين تجاوز الفرد، وتنفي عنه القدرة المطلقة على الفعل والانفعال، وتدني به إلى حال من الجبرية التي لا تكاد تترك شيئا، خاصة حين تفرض على النصوص المكتوبة دلالة الحتم، وعلى عملية الكتابة سجن النسق، وعل كيفية فهمها معنى القانون. وذلك وضع ترتب عليه تولد النواة التي أدت إلى "موت المؤلف" من حيث هو الخالق الحر ، المريد المختار، الفاعل للكتابة وبالكتابة وفي الكتابة.

الحضور النسبي للكاتب

قد نقول إن هذا الوضع يؤكد معنى النسبية في الحضور الإنساني للكتابة، ولا يترك الكاتب وحيدا مع ذاته المطلقة، فعالا لما يريد في الكون، وبالكون، ويضعه موضع غيره من البشر في علاقات التداخل السببي لجميع عمليات الطبيعة، وذلك بمعنى لعله لا يختلف كثيرا عن المعنى الذي قصد إليه أينشتين عام 1879 عام 1955 الذي غير مفاهيم القرن عن الزمان والمكان والحركة. ولكن هذا الحضور النسبي لا يترك للكاتب في الكتابة الشيء الكثير من الفعل الذي ينسب إليه عادة، وينقلنا من مفهوم الكاتب ( الخالق ) الذي يخلق مخلوقاته المفارقة إلى مفهوم الكاتب ( الصانع ) الذي يصنع مصنوعاته المعقولة، ومن مفهوم الكتابة ( المعلول ) وحيدة العلة إلى مفهوم مناقض كل المناقضة للكتابة، من حيث هي معلول وعلة معا، وبنية علائقية صغرى داخل ( أو متولدة عن ) بنية علائقية كبرى، هي شبكة من المبادئ والقوانين التي تضم الكاتب وتستوعبه.

هذه الشبكة هي اسم آخر للنسق أو البنية أو النظام، مسميات متعددة تشير إلى معنى علائقي واحد، يشير بدوره إلى قارة ثالثة، أو شبكة قارات ، اكتشفها عالم اللغة فردنان دي سوسير (1857 - 1913) الذي تجاوب اكتشافه واكتشافات ماركس و فرويد في تأسيس الانقطاعات المعرفية الكبرى التي تأثرت بها حركة النقد الأدبي في هذا القرن. إن دي سوسير الذي استهل حياته الجامعية المؤثرة ( بعد حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة ليبزج عام 1880 بالتدريس في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في باريس عام 1881 وعام 1891 قبل أن ينتقل منها إلى فيينا في سويسرا، حيث تتابعت أبحاثه ومحاضراته إلى أن توفى في السنة الثالثة من العقد الثاني من هذا القرن، هو نفسه الذي غزا باريس في منتصف الخمسينيات، ومنها العالم كله، بعد أن أعاد الكثيرون صياغة أفكاره الأساسية في نظرية واحدة جديدة، هي البنيوية التي اقتحم بها كلود ليفي شترواس الحياة الثقافية الباريسية بكتابه " المدارات الشاجية عام 1955 مستهلا العاصفة التي وصلت إلى ذروتها بعد خمس سنوات بكتاب رولان بارت عن راسين 1960. والمسافة الزمنية التي تفصل بين كتاب دي سوسير "محاضرات في علم اللغة العام" ، وكتاب رولان بارت عن راسين، الذي نشره المنتدى الفرنسي للكتاب في نهاية العقد السادس من هذا القرن، هي مسافة الرحلة التي قطعها مفهوم " البنية " لينتقل من علم اللغة إلى النقد الأدبي، ويفرض حضوره اللغوي على الممارسة النقدية، بوصفه حضورا علائقيا مهيمنا على مستويات التنظير والتطبيق في الوقت نفسه.

وكما اكتشف فرويد بنية اللاوعي وآلياته، في تشكلاتها العلائقية وتحولاتها الرمزية، اكتشف دي سوسير بنية اللغة وآلياتها، في تشكلاتها العلائقية الموازية. ولعله لم يكن من قبيل المصادفة أن يولد دي سوسير بعد عام واحد من ولادة فرويد ، وأن يحاول اكتشاف نسق كامن وراء الممارسة الكلامية، هو البنية العميقة التي أسماها: اللغة، والتي كانت نوعا من اللاوعي الكامن، في موازاة اللاوعي الذي أحذ فرويد يسلط عليه الضوء، ليكشف عن الجزء المغمور من جبل الجليد ، على مستوى الشعور الذي تحول إلى ممارسة كلامية عن دي سوسير، تنطوي على نسق من القواعد المغمورة التي تشبه مكونات اللاوعي، في قدرتها على التحكم في الكثير من مظاهر الوعي. ولعله لم يكن من قبيل المصادفة في الوقت نفسه أن يولد جاك لاكان عام 1901 عام 1981 الذي أخذ على عاتقه الوصل الواعي بين لغويات دي سوسير وتحليلات فرويد بعد عام واحد من نشر فرويد لكتابه تفسير الأحلام، وفي العام نفسه الذي أصدر فيه فرويد كتابه عن علم نفس الحياة اليومية، وأن يكون الإسهام البنيوي للاكان قائما على تحويل النموذج المنهجي للبحث اللغوي إلى نموذج يتأسس به التحليل النفسي. وكان ذلك هو الاتجاه الذي مضى فيه كلود ليفي شتراوس الذي ولد بعد سبعة أعوام من ولادة لاكان، في مجال الأنثروبولوجيا ودراسة الأساطير، ورولان بارت الذي ولد في العام نفسه الذي نشر فيه تلامذة دي سوسير محاضراته التي ألقاها عليهم - قبل موته - بعنوان "محاضرات في علم اللغة العام ".

الحضور الآني للظواهر

وإذا قلنا إن إنجاز دي سوسير هو إنجاز منهجي بالدرجة الأولى، من حيث تأسيسه لتصورات تقتنص الحضور الآني للظواهر بوصفها أنساقا علائقية، وليس مجرد حاصل جمع لتراكم الأجزاء المتناثرة، فإن هذه الإنجاز فتح أفقا تولدت عنه آفاق، وتشكلت في موازاته آفاق أخرى، تحولت بمجرى الممارسة النقدية إلى مجرى مغاير، على مستوى التنظير والممارسة، مجرى فرض نفسه حتى على المجاري المتعددة المتنوعة التي تفرعت عن الواقعية، والتي وصلت الواقعية بالنظريات الماركسية المتباينة في النقد الأدبي، فضلا عن المجاري التي تفرعت عن نظريات التحليل النفسي في علاقاتها بالدرس الأدبي، ووصلت هذه النظريات بغيرها من المقاربات النقدية المتصلة بسيكولوجية الإبداع وسيكولوجية التلقي.

وما يفيض به هذا المجرى ويرسخه في تياراته المتعاقبة، ويرسبه من ممارساته المتباينة، حتى في اختلافها الذي يثري مشهدها، هو أن الكتابة شبكة من القوانين المخصوصة، شأنها شأن كل الظواهر الإنسانية، وأن دراسة الشبكة ينبغي أن تبدأ من إدراك أن الكتابة لها حضورها الآني الذي يفضي إلى اكتشاف بنية عميقة تتحكم في السطح المتحول، وترد تنوعه إلى وحدة قارة. هذه الوحدة هي نسق الكتابة الخاص، من حيث هو نظام متميز بعلاقاته، الرأسي منها والأفقي، فالنسق لا يعكس وضعا اجتماعيا أو حالة نفسية، كأنه مرآة تنقلنا صورها إلى أصلها الذي تعكسه، وإنما يلفت الانتباه إلى علاقاته الخاصة، كأنه تصاوير زجاج ملون تشغلنا عن النظر إلى ما وراء الزجاج، وتلفتنا إلى حضوره الخاص بألوانه وهيئات شكله.

ويعني هذا الفهم النسقي، بدوره، أن تاريخ الكتابة كالكتابة، يتميز بشبكة من القوانين البنيوية المخصوصة، ولكن على نحو لا يتطابق معه مفهوم النسق (الأدبي) الآني مع الفهم الساذج عن العصر (الأدبي) بمعناه التاريخي الكورونولوجي، ذلك لأن النسق لا يتضمن الكتابات المتقاربة داخل العصر فحسب بل كل الكتابات التي تدخل في فلك النسق، سواء كانت وافدة من آداب أجنبية أو عصور أدبية سابقة. وكما لا تعكس الكتابة شيئا خارجها، أو تنقلنا منها إلى ما وراءها، وإنما تسمرنا إليها نقديا، لنحدد أنساقها العلائقية، فإنها لا تعكس شيئا داخل عقل الكاتب أو وجدانه. إنها تستقل عن أي حضور داخلي أو خارجي، سابق عليها.

هذا الأفق النقدي يمكن تصوره مكانيا وزمانيا، على سبيل التمثيل التوضيحي، لو تصورنا قطارا استهل رحلته من جنيف (حيث محاضرات دي سوسير الأخيرة الحاسمة) وانطلق إلى موسكو، حيث تشكلت حلقة موسكو اللغوية التي تأسست عام 1915 متواصلة مع أفكار دي سوسير ومضيفة إليها، فكانت بداية المدرسة الشكلية الروسية التي استمر نشاطها الحر إلى أن خشنت قبضة الدولة السوفيتية ، تلك الدولة التي أدى عداؤها لليبرالية الشكليين والمستقبليين، وضيقها بتسامح التروتسكيين، إلى سرعة مغادرة القطار لموسكو، ومواصلة رحلته إلى المحطة التالية، حيث تشكلت حلقة براغ اللغوية ( تشيكوسلوفاكيا ) التي ازدهرت طوال الثلاثينيات، منذ أن هاجر إليها أعلام الشكليين الروس مع مطلع العقد الثالث من هذا القرن، فرارا من الاضطهاد السوفييتي المتصاعد.

وظلت حلقة براغ رأس الحربة في الدراسات الأدبية واللغوية إلى أن احتلتها جيوش هتلر النازية (عام 1939 في الحرب العالمية الثانية. وانتقل القطار إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعيدا عن أوربا التي سقط أغلبها في قبضة النازية. واستقر القطار في نيويورك، قريبا من الانتلجنسيا التي تتميز بها ولاية ماساشوستس. وأنشأ رومان ياكوبسون 1896 - 1987 ومجموعة من المثقفين الفارين من النازية المدرسة الحرة للدراسات العليا في نيويورك 1942 التي لعبت دورا تأسيسيا مهما. ولم تواجه الأفكار البنيوية التي نقلها ياكوبسون استجابة عدوانية في المجتمع الأمريكي الذي تربى أدبيا على أفكار " النقد الجديد" الذي أزدهر على ضفتي المحيط، واصلا بين أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، في ممارسة نقدية أكدت موضوعية الكتابة، وأهمية القراءة المدققة، وأبرزت معنى المعادل الموضوع، وطبيعة المفارقة التي تنطوي عليها الأعمال الأدبية، وأكدت حال وجود العمل الأدبي من حيث هو كيان موضوعي قائم بذاته، لا يشير إلا إلى نفسه، وينفر من أي تعبير ذاتي أو سينتمننتالية فردية.

البنيوية والليبرالية

وما إن انتهت الحرب العالمية الثانية، واختفى شبح النازية، حتى اكتسبت البنيوية شكلها الذي لم ينتشر في الولايات المتحدة، بسبب النفوذ التقليدي الراسخ للنقد الجديد ومدرسة شيكاغو. لكن البنيوية أفادت من وجودها في مناخ ليبرالي مفتوح، تسيطر على مشهده الأدبي تقاليد النقد الجديدة التي لا تختلف جذريا عن تقاليد الشكلية الروسية. وبعد أن أخذ العالم يستريح من الذكريات المرعبة للحرب، وجد كلود ليفي شتراوس الفرصة سانحة لكي ينقل العهد البنيوي الذي أخذه على استاذه رومان ياكوبسون في نيويورك، ويودعه صفحات كتابه " المدارات الشاجية " الذي حمله معه عائدا إلى باريس، معلنا بداية العاصفة البنيوية التي أطاحت بالوجودية والماركسية التقليدية على السواء، واقتلعت، بعد نجاحها الباريسي الساحق، النقد الجديد نفسه من جذوره المتأصلة في الولايات المتحدة، ثم في انجلترا بعد ذلك، وواجهت تقليد النقد الأدبي التاريخي في السوربون، في روافده اللانسونية (نسبة إلى جوستاف لانسون (1857 - 1934) التي مثلتها كتابات عمدة أساتذة النقد التاريخي في السوربون ريمون بيكار، بما أطاح بهذه الروافد رغم كتابات أمثال ريمون بيكار العدوانية، وأفسح الطريق أمام الاندفاع البنيوي المدوي الذي انتقل من باريس إلى العالم كله، مستجيبا إلى عصر ما بعد الصناعة ، متوافقا مع أنظمة التحكم الآلي (الأتمتة) مستهلا زمنا جديدا من النقد الأدبي الذي بدأ بإعلان ميلاد البنية وانتهى بإعلان موت المؤلف في مقالة رولان بارت الشهيرة. وما بين الإعلانين الأول والثاني، انقسمت البنيوية على نفسها، كما كان العالم نفسه منقسما إلى كتلتين، فأصبحت البنيوية اللغوية (الشكلية كما يدعوها خصومها) تسود العالم الليبرالي، أو المتطلع إلى الليبرالية، في مواجهة البنيوية التوليدية التي انطلقت من الماركسية، في تجلياتها الهيجلية الأخيرة على يدي لوسيان جولدمان، بعيدا عن أقطار العالم الماركسي التي ظل نقده الأدبي محافظا على التقاليد التي أرساها لوكاتش في أفضل الحالات. ولكن إذا كانت البنيوية الأولى تختلف عن الثانية في معنى الوظيفة، والعلاقة التكوينية أو التوليدية بالتاريخ، فإن كلتيهما تتفقان على أولوية النسق الذي يذيب في علاقاته الحضور الموروث للكاتب. أعني أن كلتا البنيويتين تستغني بحضور البني ة عن أي فاعل لها، من حيث هي، أي البنية، نسق من الحضور الآني المجاوز للزمن عند أتباع دي سوسير، أو من حيث هي نسق مواز، متولد عن رؤية مجاوزة للفرد، عند أتباع ماركس، فالمهم في كلتا البنيويتين هو النسق الذي يلغي الفرد الذي تغنت به الليبرالية والوجودية طويلا.

فلتسقط البنيوية

ويلفت الانتباه، في ذلك السياق، أن هذا النسق الذي تحول إلى سجن من اللغة، كالبنية التي نفى عنها الفاعل، ونظام الكتابة الذي استبعد منه المؤلف، هو نفسه النسق الذي هتف ضده الطلاب، في مظاهراتهم الشهيرة (مايو - يونيو 1968) التي أطاحت بنظام ديجول في فرنسا، وأسهمت في الإطاحة بالبنيوية نفسها، بعد أن أصبحت البنيوية نزعة تغترب بالإنسان في سجون النسق والبنية والنظام. ومنذ أن رفع الطلاب المتظاهرون في باريس شعار " فلتسقط البنيوية " ضمن شعارات تمردهم التي هزت العالم الأوربي كله، وأجبروا الكثير من البنيويين على إعادة النظر في موقفهم، مايو - يونيو 1968، فإن مفهوم النسق المنغلق على نفسه كأنظمة الحكم التقليدية، المنطوي على مركز ثابت كالعلة الأولى، تفتت إلى شظايا، وتم تدميره في التوابع الفكرية التي أكدت عفوية المبادرة الفردية، وتحطيم مركزية أية بنية، واستبدال معاني التعددية المنفتحة بمعاني المركزية المنغلقة.

والآن، بعد مرور ما يقرب من ثلاثين عاما على استهلال التمرد على البنيوية، يبدو هذا الاستهلال كما لو كان بشارة خلاص العالم من بنية الاستقطاب التقليدية التي انتهت بتفكك الاتحاد السوفييتي، وتهاوي أبنية الأنظمة الشيوعية المنغلقة على مركزها الأوحد، وتصاعد الدعوة إلى التعددية وتأكيد حق الاختلاف، في موازاة مفهوم المركزية الأوربية ونقضه، ضمن مناخ متغير، يفور بالتحرر والتمرد على كل أنظمة المركز الواحد.

هذا المناخ الذي ينطوي على التعددية، بالقدر الذي يتوثب بالرغبة المتجددة في نقض ما أطلق عليه جاك ديريدا اسم مركزية اللوجوس، هو المناخ الذي تشيع فيه اتجاهات التفكيك التي هي اتجاهات نقضية بالدرجة الأولى، تستبدل بمفهوم النص مفهوم الكتابة المزاحة المركز. وهو المناخ الذي يشيع فيه خطاب النقد الأدبي النسائي بوصفه خطابا تحرريا موازيا، يسعى إلى تحرير الأنثى في الكتابة وبالكتابة، متسلحا بكل النظريات التي تعين على تحقيق هذا الهدف. ولا يختلف عن ذلك الاتجاه الذي يمضي فيه خطاب ما بعد الاستعمار، وهو نوع أخير من النقد الأدبي، يصوغ خطابا مناقضا لخطاب الكولونيالية، خطابا يقوم بدور أوديب النقيض الذي يدمر سجون النسق الكولونيالي، ويتحرر إلى الأبد من تجليات السلطة البطريركية في كل خطاب.

ومن المؤكد أن وفرة الخطابات التي نلمحها الآن، في السنوات الأخيرة القليلة الباقية من القرن العشرين، هي علامة أخرى على التعددية التي تميز المشهد النقدي في كل مكان، وهي تعددية تسعى إلى تأكيد حضورها الذي يستبدل بالوحدة المصمتة (كالبنية المغلقة) التنوع الذي يتيح لكل الأطراف الإسهام في المشهد النقدي. والتتابع الزمني الذي انطوى على تحولات المصطلح النقدي، في علاقته بالأدب، داخل هذا المشهد، في إلحاحه المتعاقب على دوال: العمل ثم النص ثم الكتابة ثم الخطاب، هو التتابع الذي بدأ بتأكيد البعد الواحد، وانتهى بتأكيد التنوع الذي لا يعرف مركزية الأصل الواحد في الخطاب الأدبي أو النقدي.

تهاوي المركزية النقدية

وآية ذلك ما نراه من تهاوي المركزية الأوربية في خطاب النقد الأدبي الحالي، بعد أن غربت شمسها نهائيا عن العلوم الإنسانية مع كتاب برنال عن "أثينا السوداء" عام (1987) وكتاب سمير أمين عن " نزعة المركزية الأوربية عام (1988) وانكسار خطاب ما بعد الكولونيالية بالخطاب النقيض الذي يصوغه نقاد العالم الثالث بالدرجة الأولى، حيث تتألق أسماء إدوارد سعيد، و هومي بابا، و إعجاز أحمد، و شاندرا موهانتي، و جاياترى شاكرا فورتي سبيفاك. وهي أسماء يكتب أصحابها في العالم الأول، مؤكدين حضورهم في هذا العالم وإزاءه، بوصفهم منتمين إلى هويات حضارية مختلفة، وتراثات متباينة، ومدارس فكرية متعددة. يجمع بينهم التمرد على الخطاب المركزي الذي يصدره العالم الأول، وعلى كل خطاب مركزي في أي شكل من أشكال الكتابة. ولا يمكن اختصار كتاباتهم في أنها فعل من أفعال الامبراطورية التي تثأر من سادتها القدامى، فما كتبه إدوارد سعيد في "الاستشراق" عام (1978) أو "العالم والنص الناقد" عام (1983) أو " الثقافة والإمبريالية عام 1993 أو "تمثيلات المثقف عام 1994 وما كتبه هومي بابا في "موقع الثقافة" عام 1994 وإعجاز أحمد "في النظرية" عام (1992) وجاياترى سبيفاك عن " ناقد ما بعد الكولونيالية" (1990) ليس سوى محاولات متكررة لتأسيس خطابات مناقضة لكل سلطة، وتعرية لتجليات أساطير الهيمنة البيضاء، بحثا عن عوالم أخرى تؤكد التعددية الإنسانية.

وليس من المصادفة، أن يهجر ناقد بارز مثل زيفتان تودروف موقعه القديم في النظرية البنيوية، ويستبدل بالشعرية خطاب الخطاب وينتقل من الكتابة عن " العجيب 1970 و"بيوطيقا النثر" (1971) إلى الكتابة "عن التعدد الإنساني" 1989 و"أخلاق التاريخ" 1991 مفككا تفكيكا نقضيا خطاب الفكر الفرنسي الذي دعا إلى الحرية والتسامح والمساواة، دون أن يصفى نفسه من رواسب العرقية والتعصب الاقليمي والمركزية الحضارية، فكان شكلا آخر من الأشكال المرواغة التي تنطوي عليها " الرغبة الكولونيالية " إذا استخدمنا عنوان الكتاب الأخير لروبرت يونج.

هذا التحول في موقف تودوروف جزء من التحول الأخير في النقد الأدبي الذي نقرأه الآن، وهو تحول يؤكد تصاعد دور أبناء العالم الثالث في المشهد النقدي العالمي، وتحول النقد الأدبي العالمي نفسه إلى حواريات هائلة، تنطوي على تعددية مذهلة، تعددية تصدم من يتأملها بثرائها الكمي والكيفي الذي يفوق الاستيعاب البشري للفرد، ويفرض نوعا جديدا من المتابعة والوعي. لقد ولت إلى الأبد الأيام المريحة التي كان يمكن فيها للمرء الإلمام بكل شيء، والأخذ من كل شيء بطرف، وحلت محلها أيام أخرى مقلقة مستفزة، نرى فيها العالم كله يتحول بالفعل، وأمام أعيننا على شاشات التلفاز، إلى قرية كونية صغيرة، تنتقل عبر وسائطها التكنولوجية المتقدمة ملايين المعلومات المتجددة والمتغيرة في كل لحظة. وذهبت إلى الأبد الدنيا التي كان فيها بعض النقد الأورو - أمريكي هو الإطار المرجعي الوحيد، أو التي كان فيها لوكاش أو غيره الحكم الذي ترضى حكومته في كل الأحوال، وحلت محلها دنيا أخرى مزاحة المركز، متعددة الأطراف، متباينة المصادر، محتشدة بعشرات ( بل مئات) الأسماء إلى درجة الوفرة الوفيرة غير القابلة للاختزال أو التقليد أو الاستهلاك، والتي تتطلب أقصى درجات الانتباه من الوعي النقدي اليقظ، وتستلزم ضرورة الإسهام الفعال في المغامرة الكونية الهائلة لنقاد الأدب في كل مكان.

وها نحن، أخيرا، نقترب من ساعة الصفر في هذه الدنيا، ونودع قرنا يصفه الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي بأنه قرن النقد الأدبي، منتظرين بداية قرن جديد، بعد سنوات أقل من أصابع اليد الواحدة، محدقين في الوعد الذي يخايلنا به القرن القادم، وراء غيوم الأصولية والنزعات العرقية التي هي رد فعل مواز لتصاعد النزعات الكوكبية، باحثين عن كل ما يؤكد استمرار الثورة الدائمة على الأنساق الجامدة.

جابر عصفور مجلة العربي يناير 1996

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016