مختارات من:

فهد العسكر في أيامه الأخيرة

فاضل خلف

كان فهد العسكر شاعراً مثيراً للجدل. وقد قضى أيامه الأخيرة في عزلة عن العالم يعاني من مرارة الإهمال، وقد كانت العزلة تشبه في قسوتها عزلة أبي العلاء المعري قديماً. في هذا المقال يقدم صديق الشاعر بعضاً من ذكرياته عن هذه الأيام الأخيرة.

ربما كان فهد العسكر هو أكثر شعراء الخليج إثارة للجدل. لقد كانت حياته أشبه بالبركان. قضاها في ثورة دائمة مع نفسه ومع الآخرين، حتى بعد أن فقد بصره في أواخر أيامه، لم يستطع أن يهجع إلى ظلمة السكينة. وقد دفع ثمن ذلك من حياته، وعاش بائساً ومات بائساً دون أن يصلّي عليه أحد.

وُلد في الكويت عام 1917 وتوفي عام 1951 عن عمر يناهز الرابعة والثلاثين فقط، أي في عمر يقارب شاعر الشباب في تونس أبو القاسم الشابي، وقد نشأ في أسرة متديّنة، وكان والده إمام مسجد الفهد في مدينة الكويت، ومدرس القرآن به. وقد ظهرت موهبته الشعرية مبكراً، لدرجة أن الملك عبدالعزيز بن سعود أعجب بأشعاره وعيّنه كاتباً لابنه، ولكن فهد العسكر لم يطق البعد عن الكويت طويلاً، فتوسط عند الملك حتى سمح له بالعودة. وهناك واجهته المحن الكبرى، فقد اتُّهم بالكفر بسبب دعوته للانفتاح في المجتمع الكويتي المحافظ. وفقد بصره وأصيب بمرض التدرن، ونُقل للمستشفى الأميري حيث مات، وقد ظلت أشعاره متناثرة حتى قام الأديب الكويتي عبدالله الأنصاري بجمعها، وكتب عنه كتاباً أعاد له اعتباره الشعري، ويقول عنه في كتابه: «لقد بدأ حياته متديناً. فقد كان يؤذن داعياً الناس للصلاة، ولكن مع انغماسه في القراءة, استنار تدريجياً، واتجه إلى حب الحياة، فبدأ عزلته الطوعية بعدما اصطدم أكثر من مرة مع المتزمتين في المجتمع، فعادى المتعصبين، وبادلوه العداء، وقادوا حملة ضده أدت إلى عزلته نهائياً عن الحياة العامة. فتطرّف في مواقفه، وازدادت عزلته بقدر ما كانوا يهاجمونه.

كان فهد العسكر يعيش في منزل والده معززاً ومكرماً، بل ومدللاً كذلك في رعاية والده الذي كان يحب ولده كل الحب، وهذا أمر طبيعي لكل والد مع ولده، وجاء في كتاب فهد العسكر تأليف عبدالله زكريا الأنصاري قوله «وحدّثني شقيقه خالد بأن والده (صالحاً) عندما ضعف بصره سافر إلى الهند لعلاج عينيه ثلاث مرات، ولما كان يحب ولده (فهداً) حباً كثيراً، فقد أخذه معه إلى الهند في المرة الثالثة، وكان عمر فهد ست سنوات»، وكانت الهند من أجمل الأمصار، وربما كانت للطفل أحد مصادر إلهامه بخضرتها وحسن منظرها.

وكذلك الأم التي كانت تحب فهد كل الحب، وهذا أمر طبيعي أيضاً لكل أم، وعندما توفي الوالد تغير كل شيء، إذ طالب فهد أمه وأخاه بحقه في الميراث لكي يعيش منفرداً في سكن خاص به، فثارت مشكلة عويصة بين الأم والأخ، وكان فهد عصبياً حاد المزاج فاصطدم بالأم والأخ مرات عدة بعد وفاة الوالد في 7 / 8 / 1947، وقد أملى علي قصيدته التي يهاجم فيها بعض الناس وكان مطلعها:

نصيبك يا نفسي شقاء وحرمان
وحظي من الأيام زور وبهتان

وهذه القصيدة ليست من بين قصائده التي جمعها الأنصاري ويظهر أنه أعدمها مع القصائد الأخرى التي كان يخفيها عن الناس، وقيل إن أهله أعدموها. وقال أخوه: السيد خالد العسكر إنه هو الذي أحرقها عندما كان يسكن بعيداً عن أهله في إحدى البنايات المتواضعة بعد عزلته عن الأهل في منطقة الدهلة، بالقرب من الحديقة العامة.

وهناك أيضاً قصيدة أملاها علي ومطلعها:

(لا كان صبحك يا يوم الثلاثاء) وهو اليوم الذي جلد فيه.

ولا أحفظ منها إلا الشطر الأول. وعندما اعتزل الدنيا، اكتفى بمكان عزلته بعيداً عن الناس، وكان قبل عزلته يستقبل أصدقاءه، إما في منزل العائلة في أغلب الأوقات، أو في أحد المقاهي القريبة من المنزل، حيث يستقبل زواره، وكان كريماً في المنزل وفي المقهى، ويرفض بكل إباء أن يقوم عنه أحد لقاء مشاريبه.

ضد الزواج

وقد كنت أزوره منذ عام 1944 عندما التحقت بالتدريس في المعارف. وعندما اعتزل الناس في عام 1949 حاولت إقناعه بشيئين اثنين، الأول: زواجه، والثاني: شراء منزل خاص به. وقد تسلّم من أهله مبلغ سبعة عشر ألف روبية، وكان هذا مبلغاً كبيراً بالنسبة لذلك الوقت، حيث إننا في عام 1948 اشترينا في منطقة الصوابر منزلاً قيمته ثمانية آلاف روبية، وكان هناك منزل مقابل لمنزلنا، وهو منزل صغير قيمته ستة آلاف روبية فلم تعجبه الفكرة. وعندما نقل إلى المستشفى كان معدماً.

أما فكرة الزواج، فقد كانت تراودني لكي تكون له زوجة، معينة له على متاعب الحياة، ومسلية له في عزلته ترعاه في حياته المأساوية الصعبة، وهذه الفكرة كانت تراود أصدقاءه، ومنهم أحمد السيد عمر الذي كتب في مقال له عن فهد عنوانه، (مع فهد العسكر) في الملف الخاص الذي خصصته مجلة الكويت لفهد في العدد رقم 243 المؤرخ في يناير 2004، يقول السيد أحمد:

«بعد ذلك حاولت أن أقنعه بالزواج، فربما يغير من أسلوب حياته، ولكنه في كل مرة كان يرفض هذه الفكرة وكنت أحثه على الزواج ليكون له أسرة، ويكون له أبناء يخلدون اسمه فيما بعد، فكان يقول إن أشعاري هذه هي أبنائي، وهي التي ستخلد ذكراي». هذا هو الذي ذكره السيد أحمد السيد عمر، وهذا هو الذي كنت أفكر فيه. وكانت إحدى جاراتنا قد ترملت وهي صغيرة بعد أن غرق (البوم) الذي كان في رحلة (قطاعه) في عام 1948 في يوم عاصف بالقرب من الشواطئ الإيرانية وكانت هذه الجارة دون العشرين ولم تنجب. وقد حدّثناها في هذا الأمر، فأبدت موافقتها، وأخبرناها بأن الرجل فاقد البصر. ولكن فهد رفض الطلب كما رفض طلب أحمد السيد عمر. وربما كان هناك غيرنا من الذين كانوا يعرضون عليه مثل هذا الأمر. وعاش حياة قاسية في عزلته القاسية.

وضد الضيافة

وكان والدي قد عرض عليه عندما كان في سجنه أن يعيش معنا في منزلنا بسبب الحساسية بينه وبين أهله، إذا خرج من السجن، حيث كان لنا ملحق خاص، وله حوش صغير، على أن يخصص الوالد له مَن يقوم على خدمته والاعتناء به، إذ كان يخشى أنه وبمجرد خروجه من السجن ستعود المشاكل من جديد، وقدر فهد هذا العرض كثيراً واعتبره مكرمة، لكنه رفضه بأدب جم.

إذن كان خروجه من بيت العائلة خطأ كبيراً ارتكبه الشاعر الحسّاس، وكان ذلك بسبب ما جُبل عليه من حدة الطبع، وكان بيت العسكر كبيراً، فيه حوشان اثنان، وقد خُصص له الحوش الصغير يستقبل فيه أصدقاءه في الشتاء والربيع، فإذا جاء الحر استقبلهم خارج البيت في السكة، حيث كانت مقفلة، وكنا نسمّيها (سكة سد) أي مسدودة لا يمر بها أحد من الناس غير أهل العسكر.

اعتزل الناس في تلك البناية المتواضعة التي كانت مخصصة للعزاب ويسمّيها البعض (فندق)، ولم تكن كذلك، ويسكنها غير الكويتيين من العمال وكانت غير نظيفة وهي باردة في الشتاء، وشتاء الكويت قارس جداً، وكان منزل فهد الكبير الذي خرج منه منزلاً جميلاً من منازل الكويت الراقية، وفيه تدفئة في الشتاء إما بالنفط الأبيض أو الفحم أو المواقد الكهربائية، وفي الصيف كانت المروحة السقفية تلطّف الجو، أما في عزلته، فكان المكان بارداً شتاءً، وحاراً صيفاً، وليس فيه مَن ينظّفه، لذلك أصيب بالسل حيث الرطوبة الشديدة، والبرد القارس، وسوء التغذية، والروائح المنفرة، والحشرات المختلفة، ونقل إلى المستشفى الأميري مدة ثلاثة أشهر، ثم وافته المنية يوم 15 أغسطس 1951، فيكون قد عاش في غرفته المظلمة سنتين من الزمان.

قصيدة واحدة

عاش في عزلته سنتين من أصعب أيام حياته، بعد أن كان في منزل العائلة مرفّهاً مدللاً بين أب حان وأم رءوم، واستطاع أن ينظم في هذا المنزل أحلى قصائده وأرقها، بينما لم ينظم في عزلته سوى قصيدة واحدة في تحية الشيخ عبدالله السالم عندما تولى سدة الحكم في مطلع عام 1950 ومطلعها:

جاء الربيع وأنت راقدْ
قم واشد يا رب القصائدْ

وقد اختلف الرواة في يوم ولادته فمن قائل إنه ولد في 1913، ومن قائل إنه ولد في 1914، ومن قائل إنه ولد في 1915، ومن قائل إنه ولد في عام 1916. وأظن أن أصدق هذه الروايات هي رواية الوالدة التي نصت على أنها ولدت ابنها فهد في العام الذي تولى فيه الحكم الشيخ سالم بن مبارك الصباح وهي سنة 1917، والأم أدرى بولادة أبنائها. فيكون عمر الشاعر فهد العسكر أربعة وثلاثين عاماً من 1917 - 1951.

وفي صيف العام الذي توفي فيه كنت مع العائلة في بغداد وقرأت نعيه في إحدى الجرائد العراقية. رحم الله فهد العسكر الذي لم تنجب الكويت مثله، والذي سبق عصره بعشرات السنين، كما قال الشاعر فاروق شوشة في أحد مقالاته في مجلة العربي. وسوف يبقى حياً مدى الدهر.

من ديوانه
«على ضفاف مجردة»

الشاعر الذي لم تنجب الكويت مثله، والذي سبق عصره بعشرات السنين، كما قال الشاعر فاروق شوشة في مقاله الشهري «جمال العربية» في مجلة «العربي».


يا مُوحيَ الشِّعْر بالأنْغامِ والغَزَلِ
ونَاشرَ العطْرِ مِنْ نوَّارِهِ الخَضِلِ
وباعِثَ الحُبَّ مِنْ أعْمَاقِ خَافِقِهِ
وَوَاهِبَ الفَيْضِ مِنْ شلاَّلِهِ الهَطلِ
وصَائغَ الفَنَّ لا يَسْمُو لِرِفْعَتِهِ
شَادٍ من الحَيِّ منْ غَضَّ ومُكْتَهِلِ
وسَاهِرَ اللَّيْلِ والأسْحَارُ شَاهِدَةٌ
يَصُوغُ ألحَانَهُ مِنْ مِزْهَرٍ ثَمِلِ
وبَاسِطَ الكَفِ للأضْيَافِ في سَمَرٍ
مُعَطَّرٍ بنَشيدِ الحُبَّ والغَزَلِ
وباسِمَ الثَّغْرِ في حزْنٍ وفي فَرَحٍ
ومُؤنِسَ الصَّحْبِ في جدٍّ وفي هَزَلِ
تلْكَ العُيونُ التي قد زَانَهَا كَحَلٌ
تُوحي مِنَ الشِّعْرِ فذاً غَيْرَ مُبْتَذلِ

فاضل خلف مجلة العربي مارس 2009

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016