إن جغرافية أفغانستان ما هي إلا ميلودراما من الجبال والكهوف والسهول القاحلة. لا يخفى عن الأعين الدليل على تاريخ البلاد الطافح بالعنف: عدد هائل من سكان مبتوري الأطراف وأبنية تعلوها أسطح ضربتها مدافع الهاون وتكسوها جدران ارتجت هياكلها.
بوسع أي فرد أن ينهي إليك بقصص عن عمليات السلب المرتجلة. سوف تفطن من مناظر النساء القابعات خلف البراقع اللازوردية أن الأهوال لم تنته بعد. بل إنه من الهين على أي زائر عابر إدراك - ولو على نحو سطحي - أن أفغانستان مكان يستعصي على قلم أي كاتب جاد. فدروس بريمو ليفي وإيمري كيرتيش القائلة بأن القليل يكفي ويزيد عند تصوير الوحشية على نطاق هائل لم يتعلمها بعد أغلب الآملين في أن يأسر أدبهم هذا البلد. فرواية ياسمينة خضراء «خطاطيف كابول» تغص بفقرات تنزل الذهول بأنفس قرائها. تصدرت روايتا خالد الحسيني, «اللاعب بالطائرات الورقية» و«ألف شمس مشرقة,» أفضل المبيعات على حين لا يزيدان على عملين متواضعين لا يَسلمان من الغرابة كتبهما الحسيني لمجرد الربح المادي. ربما لهذا السبب لم تَظهر أقوى الكتابات الحديثة عن أفغانستان إلا في صورة كتب للرحلات: ككتاب جيسون إليوت «ضوء غير متوقع» وكتاب روري ستيوارت «الأماكن المتداخلة,» وهو كتاب مبهر أيما إبهار لم ينل حق قدره, وفيه يصف مسيرته منفرداً عبر البلاد. وحتى الآن لم ينقص أذكى النصوص الأدبية التركيز الشديد. فروايتا فرانشيسكا مارشيانو «نهاية آداب السلوك», وجيمز مييك «نبدأ الآن في النزول», وقصة توم بيسِل الرائعة «متحدي الموت» تُقَّدم كلها صحفيين غربيين - الشخصيات المحورية - يتحدثون الإنجليزية على حين تُحجم لقاءاتهم بالأفغان عن تحقيق ما يطمحون إليه من نجاح. زار نديم أَسْلم أفغانستان مرات عدة, وهو الآن يقدم عطاءه لبلوغ ذروة البراعة الأدبية. يجول في «اليقظة الضائعة» بين تاريخ البلد القديم والمعاصر ليمزج سرده بإشارات تنم عن ثقافات متعددة. لا يهاب التعقيدات السياسية, كما أن إجفالاً لا يطاله عند تفحص حالات الفساد والتعذيب والاغتصاب والدماء المتخثرة وإن لا يخلو أسلوبه من رقة. تضمر شخصيات أسلم جروحاً لا سبيل إلى الشفاء منها, وتتصف بتنوع خلفياتها الجغرافية. لارا روسية هوجمت بقضيب معدني لأنها تركت قدميها تشيران إلى مكة وهي نائمة وسط حشد من المسافرين. جاءت إلى أفغانستان كي تعثر على أخ فقدته منذ زمن طويل, كان جندياً اكتشفت أنه أيضاً مغتصب. أصيب كاسا بجراح في ساحة تحوي بنادق معلقة على حوامل ثلاثية القوائم, هو يتيم أفغاني رباه مجاهدون من طالبان بمعسكرات تدريب سادية. ماركوس بريطاني مبتور اليد أودت طالبان بزوجته الأفغانية وأودى الغزو السوفييتي بابنتهما. ديفيد جاسوس أمريكي سابق اختفى أخوه خلال الحرب في فيتنام. يفدون كلهم معاً إلى منزل ماركوس الريفي بالقرب من جلال آباد. تعم الضوضاء المنزل لسبب غريب كل الغرابة. أرغمت طالبان زوجة ماركوس الراحلة أن تقطع يد زوجها أمام أعين جمع من الناس في ستاد محلي, وعليه ألمَّ بها الجنون فراحت تثبت مجموعات شاملة من الكتب في السقف بمسامير. غالباً ما تسقط الكتب لترسل أصواتا مكتومة وأخرى عالية. تسود أيضاً القذارة المنزل لأن ماركوس أُجبر على تغطية الحيطان بالطين ليداري صور أحباء حرّمتها طالبان. كما أنه منزل مثير للذكريات, يزخر بروائح غريبة لأن مصنع الروائح المغلق الخاص بماركوس يقبع تحت الأرض بالقرب منه. وكأن الروائح لا تبث فيه ما يكفي من اضطراب, انكشف خلال الحفر أثر ضخم, حجر عتيق لرأس بوذا, ولبث في مكانه على أرضية المصنع. وبينما تتكشف خيوط الرواية, يروي أسلم بدقة ما بعدها دقة الوحشية الموثقة لأفغانستان: الألغام الأرضية (وبخاصة تلك البادية كالدمى, فهي مصممة لإغراء الأطفال)؛ عمليات اغتصاب وحشية تفنن فيها المغتصبون (لفتيات وشخصية محورية وشخصية تاريخية)؛ عدالة شعبية مشحونة بالقسوة, وتشمل الرجم بالحجارة وبتر الأطراف؛ لوردات الحرب وضغائنهم متعذرة الحل؛ أمريكيون مضلَلون وتدخلاتهم العنيدة؛ وسائل تعذيب بغيضة ينتهجها لوردات الحرب والأمريكيون. تدور رواية أسلم الأولى هادئة الإيقاع «موسم عصافير المطر» حول توصيل حقيبة من الرسائل المفقودة منذ ما يقرب من عقدين في إثر حادث قطار. كانت شخصياتها - مجموعة من الريفيين الأفغان يصعب التحكم فيهم - أفراداً ذوي خصوصيات معينة, وليسوا بدلاء عن القضايا الشائكة. تتركز روايته الثانية «خرائط لعشاق مفقودين» التي حازت إعجاب النقاد على جالية أفغانية هاجرت إلى إنجلترا. ذاع صيت أسلم عقب إصدارها لنبرته المتعاطفة وسرده المعقد سياسياً وأسلوبه الغني في الحكي. تضم «اليقظة الضائعة» تعقيدات أخلاقية غير أن هذه الرواية أشمل من روايتيه السابقتين. إذ توثق عدة عقود من كثب وعدة قرون من بعد. لا تسعى إلى كشف النقاب عن نفسية أفراد قرية واحدة فقط أو جالية مهاجرة واحدة فقط بل تسلط الضوء على بريطانيا والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وأفغانستان. يبرع أسلم في الكشف المفاجئ عن المحجوب من الأسرار, وأحياناً ما يؤثر في نفس القارئ تأثيراً عاطفياً لا تعوزه الدراما. إلا أن أسلوب أسلم المنمق غير المتوقع غالباً ما يجعل قراءة هذه الرواية مؤلمة مثلما يبدو في الفقرات التالية: «استقرت الرمانة على المائدة بالقرب من المدفأة. شقتها الآن بالطول. دفِئت الطبقة الخارجية من البذور القرمزية بفعل اللهب». «كان صوت ديفيد أشبه بموسيقى يعزفها بندول الإيقاع داخل جسد الصبي الشاب - فهي تتسم بإيقاع هادئ خليق بأفكار جيمز». ربما تستدعي أفغانستان - المكان الحافل بالتناقضات - ذلك الأسلوب المبالغ فيه. فلاشك أنها قد أغوت أسلم, كاتباً ذا موهبة لا يستهان بها, كي يعتقد أن باستطاعته نقل مآسيها الهائلة من خلال دفع لغته إلى الإسراف الأوبرالي.
---------------------------------
* روائي من باكستان يعيش في إنجلترا.