مختارات من:

حقائق عن القدس والهيكل!

سعد سعيد الديوه جي

قرأتُ في العدد (558) من مجلة (العربي) حواراً مع شيخ المؤرخين د. نقولا زيادة والذي شاركتم به أيضاً وكان لي بعض التعليقات ولو أنها طويلة بعض الشيء , ولكن لصلتها الحساسة بموضوع المسجد الاقصى والقدس فقد آثرتُ أن أبقيها على ماهي عليه.

فمدينة القدس والتي تعُرف بالأدبيات الاسرائيلية بأورشليم هي مدينة قديمة, ولم تصبح مدينة إلا في القرن السابع قبل الميلاد , قول تعوزه الصحة.

سكان فلسطين القدماء هم اليبوسيون قدموا إليها في أوائل الألف الثالثة قبل الميلاد وهم فرع من الكنعانيين الذين بنوا مدينة أورشليم - أورسالم - , وصارت تعُرف (بأورشليم مدينة اليبوسيين), وبقيت إلى عهد النبي داود - 1000 ق.م تقريباً - مدينة كنعانية لم يدخلها غير اليبوسيين وباعتراف العهد القديم, ففي معرض حديث العهد القديم عن إحدى جرائم الزنا التي اقترفها الإسرائيليون وما أكثرها ورد قول أحدهم لسيده (حول بنا إلى مدينة اليبوسيين هذه فنبيتُ فيها, فقال له سيده: لاننزل في مدينة غريبة لا أحد فيها من بني إسرائيل) 11-12,19 القضاة.

من هذا يتبين أن أورشليم - القدس - مدينة فلسطينية قديمة ذات جذور كنعانية خالصة وقد عرفت عند الفتح الاسلامي بمدينة - إيلياء -.

أما أن الهيكل لم يبن في القدس فتلك مسألة شائكة لايمكن جزمها بهذه السهولة, حيث إن هذا (المعبد) قد مرّ بأطوار تاريخية عديدة.

فالإسرئيليون بعد خروجهم من مصر على عهد رعمسيس الثاني من السلالة التاسعة عشرة بقيادة نبي الله موسى (عليه السلام) (1290 ق.م) و بعد أن مكثوا في مصر قرابة أربعمائة سنة وإلى عهد النبي داود لم يتمدنوا وكانوا بدواً رُحلاً, يقول العهد القديم: في تلك الايام لم يكن لإسرائيل ملك, فكان كل واحد يعمل ما يشاء 17,16 القضاة, وكان معبدهم على شكل خيمة سموها خيمة الاجتماع , وضعوا فيها الألواح داخل تابوت خاص مُوشى بالذهب ويعلوه غطاء من الذهب الخالص وحيثما يوضع يأتي إليه الرب حسب زعمهم!

في أول معركة بين الفلسطينيين والإسرائيليين استولى الفلسطينيون على تابوت العهد, تقول التوراة: ونزل الفلسطينيون إلى المعركة فانهزم بنو إسرائيل وهرب كل واحد إلى خيمته, وكانت الضربة عظيمة جداً , فسقط منهم ثلاثون ألف رجل , واستولى الفلسطينيون على تابوت العهد , 10-11, 3 القضاة, وكانت تلك أول نكبة تحل بالمعبد الإسرائيلي.

سقطت أورشليم بيد النبي داود في حدود (1010 ق.م) وانتقل الإسرائيليون إلى الطور المدني, وأراد النبي داود أن يبني هيكلاً للإله - يهوه - بدل الخيمة المتنقلة, ولكن حروبه الكثيرة منعته من ذلك وعندما طلب إذناً من الرب - يهوه - أجابه (سفكت دماً كثيراً وحاربت حروباً كثيرة لذا لن تبني هيكلاً لاسمي) 8-10, 22 أخبار الأيام الأول. توفي داود وخلفه سليمان سنة (971 ق.م), ولما كان الإسرائيليون حديثي خبرة بالملك والبناء ومظاهر المدنية الأخرى , فقد استعان سليمان بجيرام ملك صور في بناء معبد الرب الذي لم يكن فخماً مطلقاً قياساً بالمعابد الآشورية والبابلية والفينيقية وكان بصورة عامة صورة مصغرة للهياكل الوثنية الضخمة المنتشرة آنذاك, فقد دلت التنقيبات الحديثة على وجود هيكلين أحدهما كنعاني في حاصور والآخر في سورية يعود تاريخها إلى الفترة نفسها.

انقسمت دولة سليمان إلى دولتين هزيلتين, وتعرض الهيكل الذي صار من نصيب القسم الجنوبي - يهوذا - إلى ضربات عنيفة, فعندما حاصر شلمناصر الملك الآشوري أورشليم, قام الملك حزقيال باسترضائه, فأرسل له جميع الفضة التي وجدها في هيكل الرب, وهذا ما جعله ينزع الذهب عن أبواب هيكل الرب وعن الدعائم, التي هو نفسه غشاها به), 16, 18 الملوك الثاني.

إحراق الهيكل

وفي عام (597 ق.م) (زحف نبوخذنصر على يهوذا واستولى على كنوز معبد الرب, وعين نبوخذنصر ملكاً آخر هو متنيا بدل ملكها المأسور يهوياكين, فتمرد هو الآخر بتحريض ملوك مصر, فكان غضب نبوخذنصر عظيماً فرجع عام (587 ق.م) وأسر الملك وقتل أولاده العشرة أمامه وفقأ عينيه وجاء به إلى بابل, وأحرق هيكل الرب وقصر الملك وجميع بيوت الأشراف, وهدم جنوده كل أسوار أورشليم) 9-11, 25 الملوك الثاني.

وهكذا انقرض الهيكل الأول وانقرضت معه الدولة الإسرائيلية الضعيفة, وانتقل جلهم إلى بابل, حيث كتبوا تاريخهم وندبوا حظهم. حتى جاء كورش الأخميني الذي سقطت بابل على يده عام (539 ق.م) وبذلك انتهى حكم السلالات الجزرية العربية لبلاد الرافدين حتى الفتح الإسلامي العربي.

ابتدأ الإسرائيليون بالرجوع إلى أورشليم بقيادة زر بابل ويشوع بن صادق وبمؤازرة النبيين حجاي وزكريا, وابتدأوا بتأسيس الهيكل وبمعاونة الأقوام المجاورة, كما في أول مرة, تقول التوراة: (وأعطوا فضة للنحاتين والنجارين وطعاماً وشراباً للصيدونيين والصوريين ليأتوا بخشب الأرز من لبنان إلى يافا بطريق البحر) 7 , 3 عزرا.

ارتفع رصيد اليهود لدى الملوك الأخمينيين في زمن أرتحششتا الأول (465 ق.م) الذي أرسل عزرا وهو الشخصية الثانية في الدين اليهودي بعد موسى إلى أورشليم لتعزيز وبناء الهيكل ثم أتبعه بنحميا الذي كان ساقياً للخمر في البلاط أو ربما رئيس السقاة ولكنه يتمتع بمواهب عديدة إلى جانب ذلك, حيث استطاع إقناع الملك الفارسي بتعزيز موقفه تجاه الهيكل.

ولهذا فإن الغرض من إنشاء هذا الهيكل كان غرضاً سياسياً - عسكرياً - بكل ما تعنيه الكلمات على عكس الأول حيث كان الهدف منه دينياً بحتاً.

وفي عام (332 ق.م) فقدت يهوذا مكانتها بسقوط دولة الفرس الأخمينيين على يد الإسكندر المقدوني وصارت فلسطين محمية إغريقية تابعة للبطالمة في مصر.

وفي عام (168ق.م) دخل أنطيوخوس الرابع أبيفان أورشليم ودمر الهيكل وكان ذلك جزءاً من الاقتتال الدائر بين الحكام الاغريق فيما بينهم والتنافس على مصادر الثروة والمال.

وكان أثر هذا العمل قوياً على الإسرائيليين الذين اختلطت ثقافتهم بالثقافة الإغريقية, تقول التوراة: (فكان أثر هذا العمل الشرير شديداً على الشعب وامتلأ الهيكل فسقاً وفجوراً , حتى أن الغرباء أخذوا يمارسون انواع العهر ويضاجعون النساء داخل الأماكن المقدسة , ويدخلون إليها المحرمات), 3-4, 15 المكابيين الثاني. دفع هذا الأمر بيهوذا المكابي (166-160 ق.م) للقيام بالثورة على الدولة السلوقية والحصول على نوع من الحكم الذاتي داخل أورشليم , فأعادوا ترميم الهيكل وبنوا مذبحاً جديداً.

في عام (54 ق.م) نهب كراسوس القائد الروماني خزائن الهيكل في أورشليم وتركه أثراً بعد عين, ولم يخبرنا التاريخ أن هذا الهيكل قد أعيد تجديده أو ترميمه في هذه الفترة المضطربة من تاريخ فلسطين .

في عام (40 ق.م) استولى الفرس الفرثيون على فلسطين ثم عادت للحكم الروماني على يد هيرودس الآدومي ممثل الإمبراطورية الرومانية والذي أنهى حكم السلالة المكابية وإلى الأبد وذلك عام (36 ق.م) .

في عام (19 ق.م) بدأ الملك هيرودس الوثني ببناء هيكل لليهود, وهذا الهيكل لاذكر له في التوراة, وتبدو الدوافع وراء بنائه مُبهمة إلى حد ما, ولكن أكثر الأسباب قبولاً هو رغبة هيرودس الوثني في كسب ود رعاياه اليهود وضمهم إلى جانبه ساعة المحنة بسبب الحروب الطاحنة مع الفرس. عن هذا الهيكل قال المسيح لليهود بعد أن جَحدوه (بيتي بيت الصلاة وأنتم جعلتوه مغارة لصوص), 9 لوقا. في عام ( 66 م) ثار اليهود في عهد نيرون, فمهد ذلك لدخول تيطس القائد الروماني (70 م) فأحرق الهيكل وفتك باليهود وألغى السنهدرين, يقال إنه حرث موضع الهيكل ولم يبقِ على حجر واحد منه.

مع إنشاء دولة إسرائيل في منتصف القرن الماضي على أرض فلسطين تجددت الأحلام الصهيونية بإقامة هيكل رابع, يكون في خلاصته (رمزاً) لمجد باهت مضى عليه أكثر من ألفي عام, فقال بن جوريون: (لامعنى لإسرائيل من دون القدس ولامعنى للقدس من دون الهيكل), وبعد نكبة يونيو مباشرة وتحديداً في (11 يونيو) من العام نفسه, ابتدأت الحفريات الصهيونية أسفل الحرم الشريف, تزامن ذلك مع مخططات لتدمير المسجد الاقصى, حيث شب حريق هائل فيه في 11 أغسطس من عام 1969م ألحق أضراراً بالغة فيه, وفي 24 سبتمبر من 1996 تم افتتاح نفق الحشمونيين تحت الحرم القدسي تمهيداً لأي حادث طاريء يؤدي الى انهياره, وفي 13 مايو من عام 1998 تم إحراق باب الغوانمة.

إنهم يسعون نحو الهيكل, ولاندري هل هنالك وقت محدد لإتمامه أم لا? المهم أنه موجود في مخططاتهم وأقوالهم وافعالهم, ولكن ماذا سيحوي هذا الهيكل? فلا تابوت عهد ولا ألواح, ولكنه حتماً سيكون بؤرة لقاعدة متقدمة تخدم إمبراطورية كبيرة أو مغارة لصوص او كليهما والله أعلم.

سعد سعيد الديوه جي مجلة العربي فبراير 2006

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016