مختارات من:

أسمهان مسلسل يلامس الحقيقة

إلياس سحاب

لاشك بأن أسمهان هي واحدة من ثلاثة فنانين تاريخيين صنعوا الوجدان الغنائي الحديث للأمة العربية في القرن العشرين، إلى جانب محمد عبدالوهاب وأم كلثوم.

إذا أحصينا في جردة سريعة لشخصيات أبرز صناع ملامح الثقافة العربية منذ بداية القرن العشرين حتى نهايته، في ميادين الأدب والموسيقى والغناء والصحافة والسينما والمسرح، فإن شخصية أسمهان، تحتل موقعاً فريداً بين هذه الشخصيات، في غرابتها وفرادتها وعلاقتها الجدلية بعصرها، الذي كانت تبدو معبّرة عنه فنياً واجتماعياً، من جهة، بقدر ما تبدو سابقة له، فنياً واجتماعياً، من جهة أخرى.

ومع أن المسلسل الأخير الشهير الذي حاول رواية سيرتها الشخصية والفنية، قد يبدو متأخراً، لأنه لم يظهر إلا بعد 62 سنة من وفاتها، فإنه يبدو أيضاً وكأنه جاء في وقته ليكشف لنا أن الأسبقية الفنية والاجتماعية التي سجلتها أسمهان على مجتمعها (الصغير والكبير)، وهي على قيد الحياة وفي عز ممارستها لتفاصيل حياتها الخاصة وحياتها الفنية، مازالت قائمة، فنياً واجتماعياً، بين أسمهان ومجتمعها، حتى بعد مرور ثلثي القرن على رحيلها، ودخولها رحاب التاريخ.

إن أول ما يلفت الانتباه في ردود الفعل التي أثارها المسلسل (ومازال في بعض الأوساط)، أنها لم تعر أي انتباه، لا إلى العظمة الفنية، التي يمثلها رصيد أسمهان الغنائي، على قصره (سبع سنوات) ومحدودية عدد أغانيها التي تتراوح بين الثلاثين والأربعين أغنية فقط، بل إن ما بدا من تناقض بين أسلوب أسمهان ومزاجها الإنساني الخاص في حياتها الشخصية، وبين تقاليدنا ومفاهيمنا الاجتماعية، بدا وكأنه تناقض مستقر مقيم لا يتزحزح، بحيث جاءت صورته في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، استعادة طبق الأصل لصورته في ثلاثينيات القرن العشرين.

وحتى لا نسير بأرجلنا إلى الفخ الذي قد يتحول من محاولة تشويش على المسلسل كعمل فني خاضع للتقييم الموضوعي, شأنه شأن غيره من الأعمال الفنية، إلى تشويش على الشخصية التاريخية لأسمهان، هو أفدح - في رأيي - بكثر من الإزعاجات والضغوط التي كانت تمارس ضد أسمهان وتجعل حياتها الخاصة أقرب إلى التعاسة، لأنه يتحول من ضرر خاص إلى ضرر عام. حتى لا نسير بأرجلنا إلى هذا الفخ، سنبادر فوراً إلى الحديث المباشر عن المسلسل بالمعايير الفنية، كما ساعد هذا العمل الفني الراقي، في إزاحة الضباب عنها، وتسليط الأضواء عليها بحساسية رفيعة المستوى.

حقائق الواقع

بالنسبة للحقائق التاريخية، سواء تلك الخاصة المتعلقة بحياة أسمهان الشخصية والعائلية، أو تلك العامة المتعلقة ببيئتها الاجتماعية الضيقة والواسعة، وبحقائق عصرها الذي عاشته في فضاء المشرق العربي، بين سورية ومصر وفلسطين، فإنه لم يكن مطلوباً من المسلسل بالمعايير الفنية الجادة والصارمة، أكثر من الالتزام بالخط العام لمسيرة وتفاعل الحقائق التاريخية الأساسية والكبرى، التي مرت بها حياة أسمهان الشخصية والاجتماعية والفنية. أما بعد ذلك، وبما أن العمل الفني هو عمل درامي، وليس عملاً توثيقياً، فلصناع المسلسل من كتابة سيناريو إلى إنتاج وإخراج، حريتهم الفنية المطلقة في التعاطي مع التفاصيل الصغيرة التي تساعد على الرسم الدرامي لملامح شخصيات العمل، ضمن إطار الحقائق التاريخية والفنية الكبرى والأساسية، التي يمكن اعتبارها القيد الوحيد المطلوب مراعاته في صناعة العمل الفني.

وأعتقد أن منتجي المسلسل، لم يبخلوا في بذل أي جهد ممكن، في مراجعة جميع الكتب التي وضعت عن أسمهان (مع تفاوت القيمة فيما بينها)، وجميع المصادر الإنسانية الحية التي مازالت تملك تفاصيل الحقائق التاريخية الكبرى في حياة أسمهان الشخصية والاجتماعية والفنية. ولعل درجة الجهد الذي بذل في هذا المجال، عليها أكثر من دليل، منها أن السيناريو قد مر بثلاث مراحل قبل أن يتخذ شكله النهائي، ويبدو من جدية التنفيذ، أنه قد سبقتها جدية مماثلة في التحضير، واعتماد أفضل ما في كل صيغة من صيغ السيناريو، قبل الوصول إلى الصيغة النهائية.

بعد ذلك، ليس من معيار على مستوى النجاح أو الفشل في الصياغة الدرامية التفصيلية للشخصيات، من خلال تتابع وتراكم مشاهد المسلسل، سوى معيار رصد مستوى الحساسية الفنية التي عالج بها السيناريو الإخراج، ملامح الشخصيات الرئيسية والثانوية، التي صنعت أحداث المسلسل. وفي رأيي أن هذه الحساسية الفنية قد لاقت ظلما بينا عندما علا ضجيج ردود الفعل على المسلسل، بالتركيز على مواقع أخرى، لا علاقة لها بهذا الأمر البتة.

وباعتباري واحداً من عشاق فن أسمهان المتيمين، ومطلعاً منذ خمسينيات القرن العشرين، وبعد ذلك، على المجرى العام لحياة أسمهان القصيرة والفاجعة، فإنني أعترف بأن الصورة الدرامية البالغة الحساسية والشفافية التي نجح المسلسل في رسمها لأسمهان بشكل خاص (وبقية الشخصيات)، قد جاءت متطابقة تماماً مع المنزلة الرفيعة التي أضع فيها فن أسمهان، وشخصيتها المتمردة، السعيدة بتمرّدها، والشقية به، بسبب التناقض الطبيعي بين مكنونات هذه الشخصية، والصيغة العامة للمجتمع الذي قدّر لها الله أن تعيش فيه.

علاقات صاخبة

إلى جانب شخصية أسمهان، من الواضح أن المسلسل قد وفق إلى حد غير قليل، فيما بين يديه من حلقات محدودة العدد، في تصوير البعد الاجتماعي والسياسي للبيئة التي خرجت منها أسمهان من جبل العرب، في مرحلة حساسة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما وفق بالدرجة نفسها برسم تفاصيل وملامح البيئة الاجتماعية التي انتقلت إليها أسمهان لتعيش بقية حياتها في القاهرة. كما رسم المسلسل أجمل صورة ممكنة لعلاقات أسمهان الصاخبة بقوات الحلفاء، الذين كانوا يسيطرون على الحياة السياسية في المشرق العربي بأسره، في أثناء حياة أسمهان. ففي الوقت الذي لا يرد فيه وصف لهذه العلاقة في معظم الكتب التي وضعت عن أسمهان قبل المسلسل، إلا مقروناً بعبارة «الجاسوسية»، فإن المسلسل قد وضع بعمومياته وتفاصيله، هذه العلاقة في إطار تعامل أسمهان مع القوة السياسية الأشد نفوذاً في عصرها، في محاولة منها لتأمين استقلال بلدها والتعجيل به, حتى أن المسلسل حرص، على وضع حد لهذه العلاقة بقرار من أسمهان، عندما رأت أن تسلسل الأحداث لم يؤد إلى ما كانت تشتهيه من منح الاستقلال لسورية.

لقد تجاهل البعض كل هذا، وأغرقوا المسلسل برمته، وبكل ما فيه من حساسية وشفافية فنية، وتعامل إنساني رائع وراق مع الشخصية القلقة والمتمرّدة والجامحة لأسمهان، في دخان السجائر التي كانت تدخنها أسمهان في المسلسل من حين لآخر، مع منح هذه المشاهد معاني تشير أكثر ما تشير إلى الوضع الاجتماعي الذي كنا نرزح فيه منذ عقود طويلة، ومازلنا نرزح فيه حتى العقد الأول من القرن الجديد. فبينما تنصرف كل المجتمعات المتقدمة في العالم إلي محاربة التدخين باعتباره مضراً بالصحة، مازلنا نحن نعتبر تدخين النساء مضراً بالأخلاق، وتدخين الرجال دليل رجولة وفحوله.

بعد كل ذلك، فإني كنت أتمنى (وقد كتبت في ذلك أكثر من مقال خلال السنوات الطويلة لإعداد المسلسل)، ألا يعتمد المسلسل أي صوت غنائي آخر، غير الصوت الحقيقي لأسمهان، لأسباب عدة أهمها أن هذا الصوت ذا المعدن النفيس والأداء الباهر، هو الذي جعل أسمهان شخصية تاريخية، أكثر من علاقتها بقوات الحلفاء، ومادامت ممثلة الدور الفنانة المبدعة سلاف فواخرجي لا تغني على أي حال، وإنما تحرك شفتيها على طريقة الدوبلاج على تسجيل لصوت فنانة أخرى، فلماذا لا تكون هذه الفنانة الأخرى هي أسمهان نفسها؟

لقد آلمني حقاً أن هذا المسلسل الذي أبدع في إعادة شخصية أسمهان إلى قيد الحياة عبر عمل درامي رفيع المستوى، لم يكمل معروفه فيعيد إلى الحياة تسجيلات أسمهان التاريخية، التي أصبحت مثل كل الأعمال الكلاسيكية الكبرى للغناء العربي، ليس لها من مقر إلا رفوف الإذاعات العربية، التي يأكلها الغبار. علماً بأن مستوى أداء الفنانة وعد بحري، التي أدت بصوتها أغنيات أسمهان، يستحق الإشادة، على عكس أداء صوت عبدالوهاب في لحن «مجنون ليلى» الذي جاء مخزياً. أما الفنان الذي أدى بصوته أغنيات فريد الأطرش، فكان يركز على أداء مبالغات فريد في تأوهاته (وهي حقيقية)، أكثر من التركيز على براعة فريد وتمكّنه من أصول الطرب.

شخصية متمردة معذبة

لا يجوز إنهاء هذا البحث، من غير التركيز على خلاصة الانطباع الذي تركه المسلسل عن شخصية أسمهان. فمع أن المسلسل قد أفاض إلى الحد المطلوب في التفاصيل التي ترسم لنا ملامح الشخصية الإنسانية لأسمهان، فإنه قصّر - برأيي - في التفاصيل التي ترسم ملامح شخصيتها الفنية. ذلك أنه لم يكن كافياً لذلك، مجرد استعراض سريع لأهم الألحان التي غنتها أسمهان في مرحلتي ما قبل 3391، وما بعد 7391. بل كان مطلوباً التركيز على تفاصيل تأثرها الفني بأم كلثوم في بداية حياتها الفنية، ثم تأثرها الكامل بعبدالوهاب عندما بلغت مرحلة نضجها الفني. مع أن المسلسل لم يقصر في التعبير عن التقدير الذي كانت تكنه أسمهان لعبدالوهاب (حبيب قلبي).

لكن التقدير شيء والتأثر الفني شيء آخر. كما لم يتطرق المسلسل بالعمق إلى تفاصيل العلاقة الفنية البالغة الثراء، بينها وبين محمد القصبجي من جهة، وشقيقها فريد الأطرش، من جهة ثانية.

ومع ذلك، فإن الجهد الفني الهائل الذي بذله القيّمون على المسلسل (سيناريو وتمثيل وإنتاج وإخراج)، في سبر أغوار الشخصية الإنسانية لأسمهان. كان - برأيي - ذا فائدة كبيرة في فهم أشد عمقاً لشخصيتها الفنية نفسها.

لقد كنت أتساءل دائماً: من أين لأسمهان هذه القدرة الساحرة على سبر أغوار النفس البشرية، التي تبدو في أدائها الصوتي عارية بكل أحزانها وكل أفراحها وكل حساسياتها, حتى جاءني الجواب في هذا المسلسل الجميل الذي كشف عن مكامن التمرد والقلق الداخلي العميق في شخصية أسمهان، سواء في حياتها الخاصة، أو في علاقتها بمجتمعها الأول في جبل العرب، والثاني في القاهرة.

لقد صوّر المسلسل بحساسية فنية رائعة، كيف أن هذا التمرد وهذا القلق كانا في الوقت نفسه مصدر سعادة أسمهان عندما تمارس حياتها بحرية تامة، ومصدر شقائها الكبير عندما تسلط عليها ضغوط التقاليد، على الرغم مما صادفت من نجاح وشهرة لا تضاهي، وما جمعت في فترات من حياتها من ثروة، حيث تقاضت على فيلميها الوحيدين أجوراً خيالية في تاريخ السينما المصرية.

فالحقيقة أنه إذا كانت ثورة محمد عبدالوهاب التحديثية في الأداء، قد لعبت دور المؤشر والدليل لأسمهان عندما نضجت، فإنها كانت تستمد من أعماق نفسها المتمردة القلقة، والمعذبة في آن، تلك الحرارة الإنسانية الأنثوية الهائلة التي كانت تضمخ بها أداءها الغنائي، الذي وضعها مع عبدالوهاب وأم كلثوم على قمة الغناء العربي الكلاسيكي الذي صنع وجدان الإنسان العربي المعاصر في القرن العشرين من المحيط إلى الخليج.

إن تمثلاً كاملاً للرصيد الفني العظيم (على قصره) الذي حققته أسمهان، وتأملا في ملامح شخصيتها الإنسانية كما قدمها لنا المسلسل الجميل الذي حمل اسمها، يدفعان إلى التأكد من أن أسمهان فنانة سبقت عصرها، ومازالت، والمسلسل الذي أنتج عنها سابق لمجتمعه، بدليل التناقض الواضح بين ما ذهب إليه، وما يحاول البعض جرّه إليه.

إنه مسلسل يليق بأسمهان ويشبهها إلى حد بعيد. فعلى الرغم من المعاناة التي ظلت تكابدها أسمهان في اجتياز الحدود بين بلد عربي وبلد عربي آخر، حتى في قمة مجدها الفني، فقد صنعت مجدها الفني من تضافر أرقى المواهب الموسيقية والغنائية في مصر وسورية، واخترقت به الحدود والزمن، إلى كل بلد عربي، بل إلى وجدان كل مشاهد عربي. وكانت هذه مسيرة المسلسل، الذي على الرغم من العقبات التي اعترضته قبل إنتاجه وبعده، فقد اخترق الحدود إلى وجدان كل مشاهد عربي، لأسباب عدة كان من أهمها - برأيي - تضافر عناصر عربية من سورية وتونس ومصر ولبنان لإنجاز هذا العمل، في تظاهرة فنية راقية، وسط الإحباط السياسي العربي العام.

إلياس سحاب مجلة العربي ديسمبر 2008

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016