ذلك القلب النابض بالحياة الذي غاب عن الفكر العربي في هذا العام، كانت إنسانيته مبنية على فلسفته، كما كانت فلسفته انعكاساً لإنسانيته.
كتب العقاد في بعض كتبه يتساءل عن المقياس الذي يقاس به تقدم الأمم أهو المال؟ أم العلم؟ أم هي القوة العسكرية؟ فجحد أن يكون المال، على أساس أنه قد تغنى الأمم الشائخة كما تشيخ الأمم الغنية، وأنكر أن يكون العلم، لأنه قد يوجد العلم في الأمم المترهلة المستضعفة. كما رفض أن تكون القوة العسكرية، لأن القوة بغير وازع من الحكمة ترتد بربرية ليس لها من ضابط. وانتهى أخيراً إلى أن المقياس الأوحد الذي يقاس به تقدم الأمم هو القدرة على تحمّل المسئولية، فإذا أخذنا بمقياس العقاد، فسوف نقول إن هذا المعيار ينطبق على الأفراد مثلما ينطبق على الأمم، ومن هذه الناحية كان عبدالوهاب المسيري من أقدر الناس على تحمّل المسئولية، إذ كان أول يده عند آخر لسانه، فلم تكن بين يده ولسانه منطقة منزوعة السلاح لأنه كان يعي تماماً أن اللغة هي المرآة التي تنعكس عليها مكونات الوعي، وأنها إن كذبت فقد كذب ما تعبر عنه، فلم يكن وراء قوله «لا» من إنجاز، ولا وراء قوله «نعم» من تسويف، وليست بنا من حاجة إلى التوسع في الكتابة عن فلسفة عبدالوهاب المسيري لسببين: أحدهما أنها موجودة في كتبه التي هي ملء السمع والبصر، والآخر أننا قد كتبنا عنها في مناسبات سابقة، تعرضنا لها هنا في هذه المجلة حين كتبنا مقالاً عن موسوعة اليهود واليهودية بعيد صدورها، كما كتبنا عنها بحثاً عنوانه «المصطلح الفلسفي في موسوعة اليهود واليهودية»، ونشر ضمن كتاب في عالم عبدالوهاب المسيري الذي يقع في جزأين. ولا نرى بأساً من أن نقدم ولو نبذة مختصرة عن عبدالوهاب المسيري مفكراً.
الموسوعة الفريدة
إن موسوعته التي عنوانها «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية» تعد ظاهرة فريدة من ثلاث جهات:
أولاً - لأنها تخالف النمط الشائع في تصنيف الموسوعات، لأنها لم تبنَ على التراكم الكمي شأن بقية الموسوعات، بل لقد سخرت التراكم الكمي لخدمة الإطار النظري، فجميع المعلومات التي قدمها لم تكن مطلوبة لذاتها، بل معناه ببساطة أن الإطار النظري الذي اشتملت عليه الموسوعة كان ناتج القراءة التحليلية لهذه المعلومات، وليس معنى هذا أيضاً أن المعلومات الواردة في هذه الموسوعة أقل من غيرها في الموسوعات المتخصصة في اليهود، بل ربما كانت أزيد، غاية ما هناك أن هدف المسيري لم يكن تعريفنا باليهود فحسب، بل كان همه الأكبر أن يبني الفكرة على المعلومة ثم يعود فيضع المعلومة في إطار الفكرة.
ثانياً - لقد استطاعت الموسوعة أن تغير الصورة التي رسمها الذهن العربي لليهودي، فقد كان الذهن العربي يحتفظ لليهودي بإحدى صورتين، أولاهما صورة اليهودي الألخن البخيل المستعد لأن يبيع أولاده وبناته مقابل الجنيه، وهي صورة كاريكاتورية. والصورة الثانية هي صورة اليهودي العبقري القادر على أن يسيطر على كل العالم عن طريق تدبير المؤامرات وهو المتحكم في كل شيء من الفكاهات المبتذلة في الشوارع إلى الاقتصاد والسوق العالمية، فجاءت الموسوعة لتعيد إلينا الثقة بأنفسنا عن طريق تعديل هذا التصوّر، فاليهود عبارة عن جماعة وظيفية يتم تسخيرها لحساب المجتمع الذي هي فيه، والدول الكبرى لا تنفذ لهم إلا ما يوافق مصالحها، وليس فيهم من القدرات الخارقة إلا كالذي في غيرهم، كما كنا نحن وغيرنا نتحدث عن التاريخ اليهودي على أنه تاريخ موحد لشعب موحد، فجاءت الموسوعة لتنسف هذا الوهم، وتؤكد لنا أنه ليس هناك شيء اسمه اليهود بالمعنى العام، إنما هناك جماعات يتحدد تاريخها بناء على البيئات الثقافية والحضارية التي وجدت فيها، وعليه فإن كلمة يهود هي كلمة غير ذات معنى، ولابد من إضافتها إلى زمان ومكان وظروف معينة، على أساس أن كل يهود يحسبون على السياق الحضاري للبلدان التي نموا داخلها.
ثالثاً - بالرغم من أن هذه الموسوعة تتمركز حول اليهود - سياستهم وتاريخهم وديانتهم وآدابهم وفلسفتهم وفنونهم ووضعيتهم في البلدان المختلفة - فإن مجمل المقولات النظرية التي تتضمنها تصلح لأن تكون أساساً لفلسفة إنسانية متكاملة أقل ما يقال عنها أنها فلسفة إنسانية قوامها الإيمان، فهي تدور حول ثنائية الإنسان والطبيعة، وتبحث في العلاقة بين الإنسان والطبيعة من ناحية، وبين الإنسان، والله من ناحية ثانية، وفي علاقة الله بالطبيعة من ناحية ثالثة، ونحسب أن جدة المفاهيم التي بنيت عليها هذه الفلسفة، قد استلزمت مصطلحات جديدة، لهذا نقرأ عن الإنسان الجنيني في مقابل الإنسان الرباني، كما نقرأ عن الواحدية المادية في مقابل ثنائية الإنسان والطبيعة. ولما كانت كل فلسفة لابد لها من معايير تنطلق منها، فإن المسيري يحدّثنا عن الفكرة المركزية التي ينطلق منها، وهي فكرة النماذج، فيقسمها إلى أقسام عدة ويضع بعضها في مقابل بعض هذا، وتقع الموسوعة في ثمانية مجلدات يختص المجلد الأول منها بتحديد الإطار النظري على أساس أن ما بقي من الموسوعة سوف يكون تطبيقاً لها، وهو مجهد جداً لأن مجمل التأملات التي وردت فيه لا تستند إلى خبرات مباشرة في ذهن المتلقي، لهذا فهي تحتاج إلى بذل جهد مضاعف للتفاعل معها.
وأما المجلد الثاني، فيتمحور حول الجماعات اليهودية، ويناقش ما يسمى بالجوهر اليهودي مستنكراً هذا المصطلح وفكرة الجوهر اليهودي الخالص (الثابت) هي فكرة كامنة وراء عديد من المفاهيم والمصطلحات والنماذج التفسيرية المستخدمة في دراسة الجماعات والعقائد اليهودية، مثل: «التاريخ اليهودي»، و«الشخصية اليهودية»، و«العبقرية اليهودية»، و«الجريمة اليهودية»، و«الشعب اليهودي»، و«العرق اليهودي»، و«الإثنية اليهودية». فكل هذه المصطلحات تفترض وجود هذا الجوهر اليهودي الخالص الثابت الذي يجعل من يهودية اليهودي النقطة المرجعية الأساسية لتفسير سلوكه. أما العناصر غير اليهودية، أو حركيات المجتمعات التي ينتمون إليها، أو تفاعلهم مع أعضاء الأغلبية، بل والعناصر الإنسانية المشتركة مع بقية البشر، فهي عناصر يُفترض فيها أنها عرضية تنتمي إلى السطح ولا تفيدنا كثيراً في تفسير الظواهر اليهودية، حيث يتم تفسير هذه الظواهر من الداخل فقط. ويدور الجزء الأول من المجلد الثالث حول التحديث اليهودي، وفي هذا الجزء يحاول المسيري أن يركز على العلاقة بين اليهودية والبروتستنتية، إذ ثمة علاقة وثيقة بين البروتستانتية من جهة، والعقيدة اليهودية والجماعات اليهودية من جهة أخرى.
وتشير معظم الكتابات التي تتناول أعضاء الجماعات اليهودية إلى «الثقافة اليهودية»، و«التراث اليهودي»، و«الموروث اليهودي». وهذه المصطلحات، شأنها شأن مصطلحات الاستقلال اليهودي الأخرى، مثل «التاريخ اليهودي» و«القومية اليهودية»، تفترض أن الجماعات اليهودية في العالم ذات حضارة يهودية مستقلة وثقافة يهودية مستقلة وتراث يهودي مستقل عن حضارة وثقافة وتراث المجتمعات التي يوجد أعضاء الجماعة اليهودية فيها، وأن إسهامات اليهود الحضارية المختلفة سواء في بابل في العصور القديمة أو في فلسطين في العصور الوسطى أو في بولندا والهند والصين في القرن السادس عشر أو في ألمانيا في القرن التاسع عشر أو في الولايات المتحدة في القرن العشرين، وبالرغم من تنوّعها الحتمي والمتوقع، تعبّر عن نمط واحد(، وربما جوهر يهودي. ويستند مفهوم الإثنية اليهودية (وهو مفهوم صهيوني أساسي) إلى افتراض وجود مثل هذه الثقافة المستقلة. بل يلاحظ أن الصهاينة أسقطوا المفهوم العرقي للهوية اليهودية ويؤكدون بدلاً من ذلك البعد الثقافي (الإثني) لهذه الهوية.
ويحاول المسيري أن يتصدى لهذه المقولات، مبيناً ما تنطوي عليه من مغالطة.
أما الجزء الخامس فيتمحور حول الدين اليهودي متصدياً لإشكالاته المختلفة، ولعل أبرز ما في هذا الجزء تأكيد المسيري على الأهمية البالغة لدراسة الغنوصية كمحور أساسي لدراسة كثير من الحركات السرية القديمة، وكثير من المذاهب الفكرية الحديثة، كما يقدم تصورات جديدة حول العهد القديم، مستعيناً بآراء العلماء المتخصصين ورؤية المسيري للدين اليهودي هي جزء لا يتجزأ من السياق النظري العام لدراسته لشتى جوانب الحياة اليهودية.
ولعل القارئ يوافقني على أن عملا كهذا يتوازى فيه التنظيم والترتيب والتحليل والتركيب وتقوم فيه النظرية على المعلومة، كما تتولى فيه المعلومة تأكيد النظرية، لابد أن يستغرق عمراً بأكمله، وهذا هو ما حدث، فقد استغرق إعداد هذه الموسوعة خمسة وعشرين عامًا، كما بلغت النفقات عليها مليونا ونصف مليون من الجنيهات، وهذه هي أقل تضحية يبذلها صاحب العقيدة لعقيدته، فلنتحدث الآن عن صاحب العقيدة نفسه.
الإنسان هو المحور
إن أعظم ما يميز المسيري أن انحيازه إلى الإنسان قد دفعه إلى ألا يتعالى على ما في الإنسان من عاطفة لحساب ما يسمى بالعقل المحض لأن هذا المنهج يتجاهل أشد جوانب الإنسان خصوبة، وأذكر أني كنت ذات يوم بينه وبين زوجه الدكتورة هدى حجازي، وكانا يتحدثان، ثم لم يلبثا أن تنازعا أمرهما بينهما برفق يدل عليه المزاح، فقالت له معنفة إياه إني أريدك ألا تخطئ، فقلت لها يا سيدتي إن الخطأ هو أخصب ما في الوجود الإنساني، لأن الصواب والخطأ هما جناحاه اللذان يطير بهما إلى أفق الإنسانية الصحيحة، متعالياً على ما في الحيوان، زاهداً في ما عند الملائكة، فقال لها فرحاً: أرأيت! ثم قام فكتب ما قلت. لقد عرفت المسيري لأكثر من خمسة عشر عاماً خلت، فكأنه كان فكرة صيغت من لحم ودم لأني ما لقيته قط إلا صريع القلق المعرفي، يستطيع أن يخرج بنظرة متفردة إلى الأشياء التي يمر بها الناس مرور الكرام، حدّثني يوماً عن مغامرات توم وجيري، فقال إن القصة ليست قصة فأر وقط، بل هي قصة الصراع بين القوة والضعف، القوة تطارد والضعف يتهرب، وأن هذا النوع من الأفلام إن هو إلا مرآة ساذجة تعكس بوضوح جوهر المدنية المعاصرة، التي تؤمن بالقوة وتكفر بالضعف، فلا تفسح له مكاناً، فالقائمون على هذه الصناعة يربون هذه القيم السلبية في نفوس الأطفال.
كان الرجل عقلاً يحس، وقلباً يفكر، لهذا لم تكن إنسانيته تتجزأ، كانت إحدى عينيه على الله في السماء، والأخرى على المستضعفين في الأرض، لهذا كتب في سيرته يقول إن العلاقات الإنسانية جميعاً تخضع لصيغتين ليس لهما من ثالثة، إحداهما الصيغة التعاقدية، وهي التي تدور مع المنفعة وجوداً وعدماً، فحيث لا منفعة لا تعامل، ومدار هذه الصيغة على الفرعونية المتوحشة، التي لا تؤمن إلا بكلمتين هما: خذ في مقابل هات. وعيب هذه الصيغة من وجهة نظره أنها لا ترى في الإنسان إلا ما يشبه الآلة، أما الصيغة الأخرى، فهي الصيغة التراحمية التي بمقتضاها يفتعل الإنسان المناسبة افتعالاً ليعين ذا الحاجة، فيشتري من الفقراء ما لا حاجة به إليه. ومرد هذه الصيغة عنده إلى العاطفة التي لا تستقيم الحياة من دونها، لأن الضعف والقوة يتناوبان الناس جميعاً، فهم أحوج ما يكونون إلى تواصل لا يستند إلى منفعة بل يستند إلى الإيمان بأحقية كل إنسان في الحياة.
تعاطف إنساني
وكان يروي عن نفسه وعن أمه أن امرأة معوزة كانت تغشاهم لتبيعهم بعض المتاع الرخيص، وحدث أنها قدمت عليهم يوما لتبيعهم ما تعودت أن تبيعهم، فقال لها عندنا منه في البيت ما يكفينا ولا حاجة بنا إلى المزيد، فلما أفضى بنبأ المرأة إلى أمه نهرته نهراً شديداً وأغلظت له القول، وقالت ألم تعلم أننا لا نشتري منها ما نحن بحاجة إليه بل نمدها بالمال الذي هي في حاجة إليه فنقيها ذل السؤال؟ لهذا فإنه كان ينعى على الحضارة الغربية أنها تقدس الآلة والربح على حساب الإنسان، ويقص علينا في بعض كتبه نبأ إحدى الشركات التي تنتج السيارات، فإن بعض الأجيال من إنتاجها كان ينقلب عند أول ملف وانعقد مجلس الإدارة ليتساءل أي الرأيين أربح لنا: سحب هذا الجيل من الأسواق؟ أم دفع التعويضات للمصابين؟
وأخيراً استقر عزمهم على إبقاء هذا الجيل من السيارات في الأسواق بعد أن أخبرهم محاسبوهم أن دفع التعويضات للمصابين أقل خسارة من سحب السيارات فقبلت الشركة على نفسها أن يصاب كل يوم عشرات وعشرات ما دام ذلك أقل خسرانا. وقد علق المسيري على هذه الحادثة بقوله: «إن الإنسان هو آخر ما وضعته الشركة في اعتبارها، وعلى الرغم من بقائه الطويل في أمريكا وأسفاره الدائمة إلى الغرب فإنه لم يتفنن بمظاهر الحضارة الغربية، بل جعل يحدثنا عن أهمية الفولكلور وتنمية الثقافة المحلية بل كتب لنا كتاباً مهماً عن المجتمع الأمريكي هو كتاب «الفردوس الأرضي»، يطامن به من غلواء الذين ينظرون إلى أمريكا باعتبارها الحلم القادم، فكان قلبه قريباً من البسطاء تماما مثلما كان عقله بعيدا عن بدع المتهوسين بكل ما هو جديد.
ترفّع عن العطايا
أجل، لقد كان المسيري كبيراً بقدرته على أن يتصاغر للصغار وأن يتكبر على الكبار. أذكر أني سألته ذات ليلة ما بالك قد تبرعت بجائزة الدولة كلها ولم تستبق منها جنيها واحدا لنفسك؟ فقال: لكي تبقى بيني وبين الحكومة مسافة لا يقطعونها إليّ أبداً. هذا الرجل الذي يترفع عن عطايا الحكومة شامخاً بأنفه إلى السماء السابعة أذكر أني حضرت معه ندوة في كلية الإعلام، فلما فرغنا خشي عليّ العنت على أساس أني رجل أعمى ولا طاقة لي بعثرات الطريق ولم يكن معه من سائق فاقتاد سيارته بي حتى بلغني مأمني فلبثت في موضعي متخاذلا لا أدري ما أقول له، لأني علمت أن كل ما في اللغة لن يستطيع أن يؤدي عني بعض ما أحس به.
وكانت فيه نرجسية ملساء تعظمه هو ولا تحقر الذين يتعاملون معه، وكنا نعشق نرجسيته كما كنا نعشق تواضعه، ولم يكن مزاحه على كثرته ينال من مكانته عند مريديه والذين يعرفونه، لأننا كنا نعرف أن مزاحه هذا إن هو إلا محاولة لتفسير بعض جوانب الوجود، على غير الطرق الجامدة التي يسلكها المتفلسفون والمناطقة. فقد كان المسيري يرى أن النكتة هي المفتاح السحري لفهم أدق أسرار النفس البشرية، كما أنها مفتاح لفهم التغيرات الاجتماعية، وما ينطوي عليه المجتمع من أنماط ثقافية مختلفة، وكان هذا المزاح يتقاضاه سرعة البديهة. أذكر أني قلت له يوما إنني بصفتي طبيبك الخاص للشؤون اللغوية أخبرك أنك تعاني من التهابات حادة في «من ثمة» ولا بد من أن تستأصل فقال: ومن ثمة فسأنفذ ما تقول. فكنا على يقين أن مزاحه ليس نقيض الجد، بل هو بعض أدواته، فكان كلما تقرب إلينا من شدة الحب تباعدنا عنه من شدة الهيبة.
وكان المسيري من أقدر الناس على أن يرى ذلك الخيط الشفاف الذي يفصل الحياة عن الموت، فكان يعشق الحياة مادامت الحياة داعية العمل والإنتاج، كما كان يقبل الموت حين يكون الموت هو البديل الوحيد لحياة بلا كرامة.
ولما كثر خروجه في المظاهرات نهيته عن ذلك وقلت ألا تقدر جزعنا عليك؟
فأجابني ضاحكا «لقد اكتشفت أخيرا أنني سوف أموت تصور!!» ومادمت ميتا لا محالة فليكن ما يشرفني لا ما يصمني، ونهاني عن أن أحدثه في هذا الأمر من بعد.
إن المسيري الذي أنفق عمره كله في محاولة فهم الحياة قد عرف كيف يتعالى على أزماتها مهما تكن هذه الأزمات، فكان يتقوى بمرضه حتى كاد يرد مرضه آية من آيات القوة، فكان يوجب على نفسه بمقتضى مرضه ما يوجبه غيره على نفسه بمقتضى صحته.
وكم من مرة اتصل بي فيها من الولايات المتحدة وهوعلى سرير المرض في أحد المستشفيات ليقول لي مازحا إنك لتعلم أن أمريكا هي عاصمة الغنوصية - التي هي موضوع رسالتي للدكتوراه - فهل لك في كتب فأشتريها لك؟ فأتعجب من هذا الرجل الذي يتنازعه الموت والحياة ثم لا يلهيه هذا النزاع عن أن يلتفت إلى رجل في أقصى الأرض ليأتيه ببعض ما هو في حاجة إليه، ثم أملي عليه أسماء بعض ما أعوزني من الكتب فيأتيني بها وفي صدره سعة وعلى ثغره ابتسامة.
إيمان عميق بالباحثين
نعم، لم تكن الإعانات المالية التي يقدمها المسيري للباحثين انعكاسا لسعة في ماله ولا الإعانات التوجيهية نتيجة لاتساع في وقته، بل كان كل ذلك تعبيراً عن إيمانه العميق بأن يلحق شباب الباحثين بمن سبقوهم من المبدعين، وكان على أتم استعداد لأن يتبنى من يرى فيه ولو بصيصاً بسيطاً من الإبداع فكنت أتأول إليه كلما ضقت بالدنيا أو ضاقت بي فيمدني بكتبه إن أعوزتني المعرفة، أو بماله إن جهدتني العسرة، أو برأيه إن طاف بي طائف من الحيرة أو بتشجيعه إن ألمّ بي الإحباط، ولم يكن صنيعه بي بدعا من صنيعه بغيري، فإني لم أزل أعرف ذلك منه حتى قلت له يوما لقد تعلمت من صنيعك أن في تضاعيف الأبوة معنى من معاني النبوة والحق أن هذه الإنسانية الثرة لم تكن نتيجة الحدس أو تعبيراً عن انفعال جزئي مؤقت بل كانت ابنة شرعية لفلسفة شاملة تتناول الله والعالم والإنسان.
هنا يجب أن نشير إلى نقطة هي من الأهمية بمكان هي أن التلقائية التي كان يتصف بها قلب المسيري لم تكن تقابلها تلقائية في عقله، بل كان على العكس من ذلك يحرضا على يقظة الوعي النقدي ونحن نقرأ التاريخ إيمانا منه أن المصطلح ليس مجرد كلمة مسكوكة بل هو وعاء لفكرة مضغوطة لا تلبث أن تحتل مكاناً في وعي متلقيها، لهذا فإن المصطلح ربما كان عبارة عن جرعة مخدرة تدخل إلى الوعي الفردي أوالجماعي عن طريق اللغة إذ تنبع المصطلحات الغربية من المركزية الغربية، فالإنسان الغربي يتحدث على سبيل المثال، عن «عصر الاكتشافات» وهي عبارة تعني أن العالم كله كان في حالة غياب ينتظر الإنسان الأبيض لاكتشافه.
والصهاينة يشيرون أيضاً إلى أنفسهم على أنهم «رواد»، والرائد هو الشخص الذي يرتاد مناطق مجهولة فيستكشفها بنفسه، ويفتحها لينشر الحضارة والاستنارة فيها بين شعوبه البدائية.
وحروب العالم الغربي تسمى «الحروب العالمية» ونظامه الاستعماري يُسمّى «النظام العالمي الجديد». ويتبع الصهاينة النمط نفسه، فقد كان هرتزل يحاول تأسيس دولة يضمنها «القانون الدولي العام» وكان يعني في واقع الأمر «القانون الغربي» أو بمعنى أصح «القوى الإمبريالية الغربية». والمنظمة الصهيونية توجد أساساً في العالم الغربي، حيث تتركز الأغلبية الساحقة ليهود العالم، إذ لا يوجد يهود في الصين أو الهند أو اليابان أو في معظم بلاد آسيا (باستثناء بضعة أفراد في الصين وبضع عشرات في اليابان وبضع مئات في الهند). ولا يوجد يهود في إفريقيا إلا في جنوب إفريقيا (في الجيب الاستيطاني الغربي) وبضعة آلاف في المغرب. وعلى الرغم من هذه الحقيقة، فإن المنظمة الصهيونية تشير إلى نفسها باعتبارها «المنظمة الصهيونية العالمية» لا «المنظمة الصهيونية الغربية». وحينما صدر وعد بلفور، وردت فيه إشارة إلى «الجماعات غير اليهودية»، أي سكان فلسطين من العرب البالغ عددهم آنذاك ما يزيد عن 95% من عدد السكان، أي أن الغالبية الساحقة من سكان فلسطين تم تهميشها لمصلحة المستوطنين الصهاينة. ولا يمكن فهم عملية التهميش هذه إلا في إطار أن الصهاينة هنا هم ممثلو الحضارة الغربية التي تظن أنها تحتل مركز الكون والتاريخ، ولذا، فإن حقوقهم في فلسطين حقوق مركزية مطلقة. أما حقوق غيرهم من البشر ممن أقاموا في هذه الأرض وزرعوها وحصدوا ثمارها وبنوا منازلهم فيها عبر آلاف السنين، فهي هامشية، وهم مجرد جماعات غير يهودية.
ومن أهم المصطلحات التي أحرزت شيوعاً في لغات العالم مصطلح «معاداة السامية»، وهو مصطلح يعكس التحيزات العرقية والمركزية الغربية التي ترجمت نفسها إلى نظام تصنيفي (آري/ سامي)، والسامي بالنسبة للغرب هو اليهودي، وهو ما لا يمكن أن يقبله أي دارس للتشكيل الحضاري السامي. ومع هذا، شاع المصطلح وسبب الخلل. وقد أصبح المجال الدلالي لمصطلح «معاداة السامية»، يشير إلى أي شيء ابتداء من محاولة إبادة اليهود، وانتهاء بالوقوف ضدإسرائيل بسبب سياساتها القمعية ضد العرب، مروراً بإنكار الإبادة.
النموذج الاختزالي
وعنده أن الغرب الذي يتبنى هذه المصطلحات إنما يصدر عن رؤية إنجيلية لأعضاء الجماعات اليهودية. وحتى بعد أن تمت علمنة رؤية العالم الغربي لليهود، ظلت بنية كثير من المصطلحات ذات طابع إنجيلي، فاليهود هم «شعب مقدس» أو «شعب شاهد» أو «شعب مدنّس» أو «شعب ملعون». وبغض النظر عن الصفات التي تلتصق باليهود، فإن صفة الاستقلال والوحدة هي الصفة الأساسية، فسواء كان اليهود شعباً مقدّساً فهم شعب واحد. وقد ترجم هذا المفهوم نفسه إلى فكرة «الشعب اليهودي»، تماماً كما أصبح «التاريخ المقدس» الذي ورد في التوراة هو «التاريخ اليهودي»، تماماً كما أصبح «التاريخ المقدس» الذي ورد في التوراة هو «التاريخ اليهودي». ولن تطول بنا الوقفة عند المصطلحات التي رفضها المسيري بعد أن استدل بتحليل محتواها على توجهاتها ومستواها لأنها تفوق الحصر. ولكن حسبنا أن نشير هنا إلى نقطة نحسبها بالغة الأهمية هي أن أكبر أزمة تواجه الأمة العربية هي تلك الوثنية في الوعي تلك التي ينتجها غياب الوعي النقدي ألا ترى أن علاقة الأمة برموزها في جميع مجالات الحياة تمر بمرحلتين أولاهما أن يقدم الرمز نفسه للوعي العام بوصفه عاكساً للقيم؟ وفي هذه المرحلة تتم محاسبته بدقة ويتوقف نجاحه على مدى ما يتمتع به من الصدق فإذا ما اجتاز هذه المرحلة انتقل إلى التي تليها وهي أن يصبح الرمز مبدعًا للقيم ذاتها فيصبح هو مصدر القيمة، ففي المرحلة الأولى يقال إن فلانا رائع لأنه عمل عملا رائعا، وفي المرحلة الثانية يقال إن هذا العمل رائع لأنه من إبداع فلان الرائع وهذا هو مكمن الخطورة، لأن الرمز يسند حاضره المتهافت إلى تاريخه المشرف فيطرح ما عنَّ له على الوعي فيصاب الوعي بالترهل.
وهذا هو ما يسميه المسيري بالنموذج الاختزالي ذلك الذي يتغاضى عن التفكيك ليسلك مسلكاً أحادياً سواء في التفسير أم في التذوق وهذا المسلك هو أوضح آيات الكسل العقلي.
إن أعمق الدروس التي تعلمناها من المسيري أن العقل الكبير لا قيمة له ما لم يستند إلى قلب كبير، لأن هذا القلب الكبير سوف يكون هو المصفاة التي تمر خلالها الحقائق والمعارف التي استنتجها ذلك العقل فيستبقي منها ما يدفع بالوعي الإنساني قدماً ويستبعد منها ما يحسب أن له مساساً بمسيرة ذلك الوعي، وأن المنجزات التي تنجزها في عالم المادة لا قيمة لها ما لم يرافقها تقدم أخلاقي داخلي يحفظ على الحياة الإنسانية نضارتها وتفردها، وأن حق المستضعفين في الحياة ليس هبة من الأقوياء بل هو هبة الحياة نفسها للأقوياء والمستضعفين على السواء وأن المعرفة والإرادة هما أنفس مقتنيات الوعي البشري لأنهما السبيل إلى يقظة الأمم. تلك الإشارات خافتة إلى دنيا المسيري وبعض أفكاره قد يغنيه فيها القليل عن الكثير، لأن الرجل كان ظاهرة إنسانية فكان وجوده في حد ذاته فلسفة. وفي منتهى حديثنا نقول لقد مات المسيري نعم مات وله في كل مسمع كلمة وفي كل عين مشهد وفي كل عقل ذكرى.