على طريقته بايع الموسيقار محمد عبدالوهاب شاعر العربية الكبير أحمد شوقي بأن أدخله إلى كل بيت عربي
لم يرد اسم المطرب والموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب في عداد الذين صعدوا إلى منبر دار الأوبرا بالقاهرة في 29 أبريل سنة 1927 يبايعون الشاعر أحمد شوقي بإمارة الشعر, وكان من أبرزهم شاعر النيل حافظ إبراهيم الذي يُقرن اسمه عادة باسم شوقي, وقد ألقى يومها قصيدة منها هذا البيت:
أمير القوافي قد أتيتُ مبايعًا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
فمن يقرأ صحف القاهرة, التي غطت الحدث , واحتفل أكثرها به, لا يجد اسم محمد عبدالوهاب في عداد الذين صعدوا يومها إلى المنبر وبايعوا, ذلك أن عبدالوهاب كان في تلك الفترة مجرد مطرب شاب لا علاقة له بالشعر والأدب. وربما حضر ذلك الحفل, وربما لم يحضره.
وإذا كان قد حضره, فقد اقتصر دوره فيه على التصفيق لأمير الشعراء الذي تعهده بالعناية والرعاية لدرجة أنه اشترى له قطعة أرض في طريق الهرم, ومنزلاً لشقيقة زوجته في العباسية بمبلغ يصل إلى ربع ثمنه الحقيقي.
ولكن مبايعة عبدالوهاب الضمنية لشوقي, صمدت مع الزمن وكانت أقوى من مبايعة حافظ إبراهيم وسائر الشعراء الذين تعاقبوا على الكلام في ذلك اليوم التاريخي. فإذا كان هؤلاء الشعراء قد بايعوا (الأمير) بقصائد عدة, سرعان ما حُفظت في الكتب وطواها النسيان, فإن المطرب محمد عبدالوهاب أدخل شوقي إلى كل بيت عربي على مدار ما يقرب من قرن كامل, وسيدخله على الأرجح إلى قرون كثيرة قادمة.
ويبدو أن هذه العلاقة (الحميمة) التي قامت في بداية العشرينيات من القرن الماضي بين أمير الشعراء شوقي, وبين مغنٍّ ناشئ تحوّل إلى أمير المغنين فيما بعد, كانت خيرًا وفيرًا على كلّ منهما. فالمغني الناشئ الذي لم يكن قد نال سوى حظ بسيط من التعليم, ولم تكن شخصيته الفنية قد تبلورت بعد, تحوّل بعد فترة من صداقته لشوقي إلى مطرب مثقف يقرأ ويعاشر المثقفين والنخبة السياسية والفكرية في صالونات القاهرة. وبدوره وجد شوقي في عبدالوهاب (الصاروخ) الذي يمكنه أن يعبر بشعره إلى الجمهور العريض من المستمعين, متجاوزا إطار المثقفين في العواصم العربية. ولولا هذا (الصاروخ) الذي سبق عصر الصواريخ العابرة للقارات, لربما اقتصر التعامل مع شعر شوقي, سواء في حياته أو بعد رحيله - وبخاصة بعد رحيله - على طبقة محدودة من المتلقين يمكن أن نجملهم في أساتذة المدارس, وكليات الآداب, وتلامذة هذه المدارس والكليات.
والواقع أن هذا تقريبًا هو حال الشاعر حافظ إبراهيم, الذي قيل إنه تردّد في مبايعة شوقي قبل أن يحسم أمره ويبايع.
فحافظ لا يرد له ذكر اليوم إلا في دراسة أدبية أكاديمية, في حين أنه كان معدودًا في عصره من كبار الشعراء, وربما أهمّ من شوقي في نظر بعض الدوائر الثقافية المحافظة. والدليل على ذلك أن الشيخ علي يوسف, صاحب (المؤيد), وكان مثقفًا كبيرًا, أطلق على حافظ إبراهيم لقب (شاعر النيل), والنيل يشمل مصر والسودان, في حين أن شوقي كان سعيدًا يومها بلقب (شاعر الأمير), أي شاعر الخديو.
إذًا فهو من رعايا (شاعر النيل). ولكن بعدما أطلق الشيخ علي يوسف على حافظ لقب (شاعر النيل), هبّت صحف مصرية أخرى كـ(اللواء) و(الأهرام) و(الجريدة), فأطلقت على شوقي لقب (أمير الشعراء) ليكون حافظ من رعاياه.
صحيح أن أم كلثوم التفتت إلى حافظ فغنّت له قصيدته (مصر التي في خاطري), ولكن أم كلثوم التفتت أكثر إلى شوقي فغنّت له روائع خالدة مثل (ولد الهدى), و(ريم على القاع), وقصيدة (النيل), و(سلوا كئوس الطلى), وسواها من القصائد التي لا يبليها الزمن. فشوقي إذًا استأثر بعناية كوكب الشرق أكثر مما استأثر حافظ وسواه من شعراء الفصحى, ما عدا الشاعر أحمد رامي الذي كان في الواقع (شاعر أم كلثوم), أو شاعرًا نظم الكثير من شعره خصيصًا لكي يُغنى. فهو شاعر غناء أكثر مما كان شاعرًا منصرفًا إلى الشعر الخالص.
الكلمات والموسيقى
ومع أنه من الممكن بصورة من الصور, أن نعتبر أمير الشعراء شوقي, (شاعر عبدالوهاب), إذ كتب له خصيصًا أشعارًا بالعامية ليغنّيها, مثل قصيدة (النيل نجاشي), إلا أن شوقي كان يكتب الشعر مبدئيًا للشعر لا للغناء. ومن هذا الشعر اختار عبدالوهاب قصائد كثيرة غنّاها من أشهرها: (أوبريت قيس وليلى), بالاشتراك مع أسمهان, و(جبل التوباد), و(تلفتت ظبية الوادي), و(مضناك جفاه مرقده), و(يا جارة الوادي), و(أنا أنطونيو), وسواها من القصائدة الجميلة, ولكن التي وهبها عبدالوهاب الشهرة والخلود, لدرجة أن المرء لا يُخطئ إذ نسبها لعبدالوهاب وحده, أو جعلها قاسمًا مشتركًا بينه وبين شوقي. فإذا كان شوقي قد نظمها كلمات, فإن عبدالوهاب قد (نظمها) لحنًا وغناءً, ولولا هذا (النظم) الأخير, لربما كانت ترقد الآن إلى جوار قصائد شوقية, وغير شوقية كثيرة لم يُنعم عليها ملحن أو مطرب كبير كعبدالوهاب بهذا (النظم) الثاني, فيجعلها على كل شفة ولسان. ولا شك, استنادًا إلى مثل هذا (النظم) الموسيقي والفني العبقري, فإن من حق الشاعر أبي فراس الحمداني أن يتيه فخرًا وعجبًا على (عدوّه) المتنبي - أمير شعراء زمانه, وربما كل زمان - لأن أم كلثوم غنّت له قصيدته (أراك عصيّ الدمع), لا مرة واحدة, بل ثلاث مرات بثلاثة ألحان, ولم تغنّ قصيدة واحدة للمتنبي, على الرغم من أن له قصائد كثيرة تصلح للغناء.
قد يقول قائل إن شعر شوقي يتضمن بطبيعته لمسة عبقرية, وأن القصائد التي انتقاها عبدالوهاب من شعره قصائد ذات كفاءة عالية ولا ينقصها سوى النقر على بعض الأوتار لتدخل الأسماع والقلوب ولتعبر الأجيال, فعبدالوهاب, والحالة هذه, لم يُضف سوى بعض الجمل الموسيقية. فدوره إذًا كان دورًا محدودًا, في حين أن الفضل, كل الفضل, ينبغي أن يُنسب (للقائد المؤسس) أحمد شوقي. فنُجيب بأن النصوص, مهما عظمت وبانت كفاءتها للجميع, وفي الطليعة لنقاد الأدب والشعر, كثيرًا ما تسقط بين أيدي الملحنين أو على شفاه المغنّين. ودليلنا المعاصر الحالي على ذلك هو قصائد كثيرة جميلة للشاعر نزار قباني تهاوت من شاهق عندما لحّنها فلان من صغار الملحنين, أو غنّاها فلان من صغار المغنين.. فالملحن, والمغنّي, إذًا صاحبا دور جوهري أساسي في نجاح النص الشعري أو تهافته وانهياره. ولولا عبدالوهاب لجرى تسجيل قصائد شوقي في الباب نفسه الذي سُجلت فيه قصائد نزار قباني التي غنّاها هذا المطرب الصغير أو تلك المطربة الصغيرة. فعبدالوهاب إذًا, بفضل ألحانه وصوته, وهب قصائد شوقي (كيمياء الخلود) وهذه الكيمياء عجز هذا الساهر أو تلك الساهرة الأخرى, عن تقديمها للشاعر نزار قباني.
مُضْناك جفاهُ مَرْقَدُه
وبَكاه ورَحَّمَ عُوَّدُهُ
حيرانُ القلبِ مُعَذَّبُهُ
مَقْروحُ الجَفْنِ مُسهَّدُهُ
أَودَى حَرَقًا إِلا رَمَقًا
يُبقيه عليك وتُنْفِدُهُ
يستهوي الوُرْقَ تأَوُّهه
ويُذيب الصَّخْرَ تَنهُّدُهُ
ويُناجي النجمَ ويُتعبُه
ويُقيم الليلَ ويُقْعِدهُ
(أحمد شوقي)