- كنت أتعجب مع كل عمل أدبي ينشر في مطلع حياتي: كيف وافقوا على نشره مع أنه في نظري مجرد محاولة؟
- كأن طاقة ضوء انفتحت أمامي فاكتشفت حقيقة الأدب ومعنى الكتابة, ومعنى ان يكون المرء كاتباً.
كان عمري سبعة عشر عامًا حينما انتهيت من كتابة قصة طويلة بعنوان (المأساة الخالدة), عبارة عن قصة حب حاكيت فيها ما أدمنت قراءته من قصص محمود كامل المحامي, وإبراهيم الورداني ومحمد عبدالحليم عبدالله ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس برومانسيتها الزاعقة. ولقد قرأتها على الأستاذ عبدالمعطي المسيري رئيس جمعية أدباء دمنهور في ذلك الحين, وكان أديبًا كبيرًا وصاحب مقهى كبير شهير, وعلى الرغم من كتبه العديدة المطبوعة على نفقته طباعة فاخرة, التي امتدحها النقّاد وكبار الأدباء آنذاك من أمثال توفيق الحكيم ويحيى حقي والعقاد وطه حسين بمقالات منشورة في الصحف تزف إلى القرّاء نبأ هذا الأديب القهوجي صاحب القصص الواقعية, والسبيكة الأسلوبية المشبعة بعميق المعاني ورحيق التجارب, فإنه مع ذلك, لم يغادر منصة الماركات في مقهاه, فظل يديرها, وفي الوقت نفسه, يباشر اجتماعات جمعية الأدباء وندواتها اليومية, ويشارك بنصيب موفور في المناقشات, فيما هو يراقب (الطلبات) الخارجة على صواني الجرسونات, ويتلقى الماركات بدقة حسابية لا تخطئ في مليم واحد.
استمع إلى قصتي بإمعان, ثم انبسطت ملامح وجهه بابتسامة عطف وتشجيع, قال إنه سيتقبل رومانسيتها الزاعقة نظرًا لأن تجاربي في الحياة كشاب صغير السن لا تمكنني بعد من كتابة أدب واقعي يرى أنه قد بات ضروريًا للكشف عن معاناة الشعب المصري حتى تنتبه إليها حكومة الثورة, وتعمل على رفعها وإقالة هذا الشعب المسكين من ربقة الذل والفقر الأزلي. قال أيضًا إنه سعيد بقصتي هذه لأنها أكدت له سلامة فطرتي القصصية, التي سبق أن نبّهني إليها مرارًا منذ أن أسمعتهم أشعاري في بعض الندوات, ولاحظ كثيرون منهم أن القصّ في أشعاري يتفوق على الشعر, وأضاف هو أن هذا ينبغي ألايزعجني, بل يجدر به أن ينبهني إلى موهبتي القصصية الواضحة, التي يجب أن أنمّيها بالقراءة والتجربة الإنسانية.
بموجب تلك القصة, منحت عضوية مبكرة في جمعية أدباء دمنهور, وكنت آنذاك طالبًا بمعهد المعلمين العام في أواسط الخمسينيات. ولقد أصابني زهو كبير مستمد من بريق الأسماء الكبيرة اللامعة آنذاك بين أعضاء الجمعية الفضلاء مثل أمين يوسف غراب وإسماعيل الحبروك من المشهورين في القاهرة, ومثل محمود علوان والمسيري وسعيد فايد من قدامى المؤسسين, ومثل كتاب وشعراء شبان, كانوا في ذلك الحين من أشبال المقهى مثل الشاعر فتحي سعيد, والقاص رجب البنا, والصحفي عبدالقادر حميدة, والقاص محمود أبو المجد والقاص رسمي عامر, والقاص بكر رشوان, والقاص محمد عبدالمعطي حجازي, معظمهم طلبة في جامعة الإسكندرية, فيما عدا قلة تعمل في بعض الوظائف الإدارية, وجميعهم كانوا ينشرون قصصهم في بعض المجلات والدوريات الثقافية, التي تصور في القاهرة وبيروت ودمشق, كما أن أولئك الشبان كانوا هم عصب الندوات اليومية خاصة في شهور الإجازة الصيفية, وكان الأستاذ عبدالمعطي المسيري فخورًا بهم.
قصصهم التي كنت أستمع إليها في الندوات, وأتابع النقاش حولها, ذلك النقاش الذي كان يديره محمد عبدالمعطي حجازي بكفاءة عالية, كانت تبهرني حين أقرأها منشورة في جريدة المساء, أو مجلة التحرير, أو مجلة البوليس, أو مجلة الرسالة الجديدة. كنت أتلذذ بالتحديق في أسمائهم المطبوعة على الورق بخط تخين, فلا أكاد أصدق أن هذه الأسماء المطبوعة على متون الصحف, إنما هي لناس أعرفهم وألتقيهم كل يوم ولي بينهم أصدقاء نتجول معًا في شوارع دمنهور وحواريها ومتنزهاتها ومقاهيها الجميلة العامرة بصخب حميم. لهذا رحت أتحرّق لمجيء ذلك اليوم الذي أرى فيه اسمي مطبوعًا على الورق مثلهم, لم أكن أعرف كيف يوصلون قصصهم إلى الجهات التي تنشرها لهم, هل يسلمونها باليد إلى رؤساء التحرير? هل يرسلونها بالبريد? هل من شروط النشر أن يكونوا معروفين لدى الصحف لكي يولوهم عنايتهم?
بوابة الأدب العالمي
العجيب أنني لم أحاول توجيه أي استفسارات من هذا القبيل لأي أحد ممن ينشرون قصصهم. أغلب الظن أنني كنت أخشى أن أتهم بالصفاقة, إذ إنني قد أكون في أنظارهم غير جدير بالنشر مثلهم. والواقع أنني كنت أرى نفسي هكذا بالفعل, بل ظلت هذه هي فكرتي عن نفسي لزمن طويل, حتى بعد أن كبرت وصرت معروفًا للقرّاء على نطاق واسع من خلال اشتغالي بالصحافة. كل عمل أدبي نشرته في مطلع حياتي الأدبية كنت أتعجّب كيف وافقوا على نشره مع أنه في نظري مجرد محاولة لا ترقى إلى المستوى الذي رجوته لنفسي, قياسًا على ما أقرأه من روائع الأعمال الكبيرة الباهرة في الأدب العالمي الذي انفتحت عليه بفضل احتكاكي بشبان المقهى, وخاصة بكر رشوان ومحمد عبدالمعطي حجازي. وصحيح أنني قرأت في سنوات الصبا كل ما نشرته سلسلة روايات الهلال من ترجمات للأدب العالمي, حيث كان أبي مواظبًا على شراء الشقيقات الثلاث: روايات الهلال وكتاب الهلال ومجلة الهلال بانتظام وحرص, كما قرأت المئات من روايات الجيب وروكامبول, إلا أن الأدب العالمي ذا القيمة الرفيعة بترجماته الدقيقة البديعة الأساليب, لم أتعرف إليه جيدًا إلا في دمنهور بتوجيه - غير مقصود - من شباب جمعية أدبائها, فعبر مترجمات دار اليقظة البيروتية ودار الشرق الروسية ودار المعارف ودار النهضة المصريتين قرأت تولوستوي وديستويفسكي وتشيكوف وجوركي وبلزاك وإميل زولا وفولتير وفلوبير وهيرمان ملفل وشتاينبك وهيوارد فاست وتوماس مان وجيته وشيلي ولورنس وديكنز وبيرل بك وويلز وجول فيرن وأندريه جيد وموروا وهوجو وتوماس هاردي وسرفانتس وغيرهم وغيرهم. من حسن حظي أن سلسلة مطبوعات مجلة الكاتب المصري بكاملها كانت موجودة في مكتبة المقهى ومكتبة البلدية. وأما سلسلة مطبوعات كتابي لحلمي مراد, فكنت أشتريها لرخص ثمنها, وكذلك سلسلة الكتاب الذهبي. وكان الحظ سخيًا معي حين تعرفت إلى زميل لي في معهد المعلمين العام يدعى مصطفى محمود حمدان, كان مدمنًا للقراءة, فقادني إلى اكتشاف أذهلني: عرفني على مكتبة الحوفي, مكتبة عتيقة في شارع خلفي وراء مديرية دمنهور متخصصة في بيع وتأجير الكتب القديمة بقروش زهيدة, تضم تلالاً وجبالاً من الكتب والدوريات الثقافية الثمينة, لكن صاحبها محمود الحوفي يعرف كل ورقة فيها, وحين يريدها ينقضّ عليها مباشرة فينزعها دون تقليب, وقد تجد عنده كتبًا صدرت في الشهر الراهن نفسه, قرأها ناس واستبدلوها من غيره, نظامه أنك تشتري منه الكتاب, فإن أردت إرجاعه بعد قراءته تدفع قرشًا نظير القراءة يخصمه من الثمن الذي تقاضاه سابقًا, فإن أردت كتابًا غيره دفعت فارق الثمن وهكذا. باتت هذه المكتبة بالنسبة لي أشبه بصندوق الدنيا, ما من كتاب جاءني نبأه أو حلمت بقراءته, قديمًا كان أو حديثًا, من التراث الشعبي أو من الأدب العالمي المعاصر إلا وجدته عند الحوفي, يمد يده ويسحبه ببساطة وسلاسة دونما عناء, أو في محاولة للتذكر فيما هو واقف وراء بنك خشبي يعالج فوقه بعض الكتب المهترئة, يلصقها بالصمغ أو بعجين الدقيق العلامة يصنع لها أغلفة بديلة من ورق الملفات السميك. عبر هذا البنك الحميم, قرأت مالا حصر له من الكتب, توثقت علاقتي بالكتاب القديم, وإن كان حديث الصدور, قدمه يفتح شهيتي للقراءة بصورة عجيبة, ربما لأنني أستشعر في صفحاته أنفاس الآخرين وبصماتهم, وبعض تعليقاتهم على بعض الهوامش,على الرغم من أنني أمقت عادة الكتابة على هوامش الكتب, يؤنسني الكتاب القديم, لاسيما إن كان من عصور مضت وأزمنة غابرة, فحينئذ ترتفع متعتي إلى حد النشوة. على أن القراءة المكثفة آنذاك بالنسبة لي كانت أشبه ببرازخ مياه انفتحت على أرض شرقانة, فأحيت ما في باطنها من مكونات نباتية فصارت تنبت نباتات شيطانية مجهولة الهوية, وإن كان من الممكن أن تصبح ذات قيمة ما, لو أنني وعيت بها, ووضعتها في شكل من الأشكال الفنية المتعارف عليها, كانت محض كتابة أدبية لا هي بالشعر ولا بالقصة ولا بالمسرحية ولا بالمقالة, إنما هي فيها من كل هذا كطبق من السلطة الأدبية, شطرات متتالية تشبه الشعر المنثور, حوارات متفلسفة على أنساق توفيق الحكيم, مشاهد من الحياة تقليدًا لصور يحيى حقي, صور أدبية تحليلية تشبه كتابات إبراهيم المصري, خواطر مبهمة بصياغة باذخة مكثفة مثل كتابات الدكتور بشر فارس, مواقف عنترية على غرار السير الشعبية, عبارات مسكوكة مثل المأثورات والطرف والملح...إلخ...إلخ. وكان أبي قد نصحني وأنا صبي بأن أحتفظ بكشكول أنقل فيه - بخطي - فقرات مما يعجبني فيما أقرؤه وألخص فيه الكتب التي تروقني, فكان هذا الكشكول أشبه بكرنفال غاية في الطرافة, لكنه صاحب الفضل الأكبر في تقوية ذاكرتي الأدبية, وتحسين أسلوبي وربطي بأمهات الكتب, وكان أيضًا صاحب التأثير فيما رحت أكتبه آنذاك مما أصبحت أسمّيه باللغط الأدبي أو المنوعات الأدبية غير الرشيدة.
حتى قصة (المأساة الخالدة) التي كانت أول شيء متماسك ومحدد الملامح أكتبه, لم تكن في حقيقة أمرها إلا أصداء شديدة السذاجة مما قرأته انعجنت في بعضها آخذة شكل قصة رومانسية موهومة, فيها من اسكندر ديماس الكبير, ومن عبدالحليم عبدالله ويوسف السباعي وإبراهيم الورداني وسومرست موم وموريس لبلان والجاحظ وطه حسين صاحب (المعذبون في الأرض) و(شجرة البؤس). كانت خليطًا عجيبًا من اللغط والأصداء والاقتباسات الكثيرة المدخولة في السياق بصورة تنكرية.
طاقة من الضوء
لكنني مع الأسف الشديد, لم أدرك ذلك إلا بعد أن وقعت في المحذور, والأكثر مدعاة مع الأسف أن المسافة الزمنية بين الوقوع في المحذور واكتشافي لتفاهة ما كتبت كانت أقل من عام, ربما بضعة أشهر, اكتشفت بعدها بشكل شبه مفاجئ كأن طاقة ضوء انفتحت أمامي, فبددت كل الظلام, اكتشفت حقيقة الأدب ومعنى الكتابة, معنى أن يكون المرء كاتبًا, أن يكون قاصًا على وجه التحديد. ولكن المحذور كان قد وقع, أعني بالمحذور استعجال النشر مما أوقعني في حال من الخجل, انحرفت في وجداني, فظللت أتعلم منها الدروس إلى اليوم.
ذلك أن تحرّقي لرؤية اسمي مطبوعًا على الورق كأصدقائي في جمعية أدباء دمنهور, هو الذي أوقعني في ذلك المحذور, قررت طبع القصة على نفقتي مع أنني لست فحسب فقيرًا, بل معدمًا تمامًا, والقروش التي أتبلغ بها أنفقها في استئجار الكتب من مكتبة الحوفي, على الرغم من أنني أقتنصها من حنك الأسد, ففي كل ليلة أشتغل ثلاث أو أربع ساعات لدى أحد الخياطين المتخصصين في الجلابيب البلدي, إذ إنني تعلمت هذه الحرفة في طفولتي في قريتنا الكائنة على شمال الدلتا, وكنت ماهرًا في التنبيت على الماكينة السنجر, وفي نسج العراوي وتركيب الأقطنة, ثم إن المصروف الذي كنت أتقاضاه من أبي, لم يكن يزيد على خمسة وعشرين قرشًا كل نصف شهر, بل كل شهر أحيانًا, مطلوب مني أن أدفع منها إيجار الغرفة المشتركة بيني وأربعة من الزملاء المغتربين مثلي من قريتنا, وأشتري الغموس, والكراريس والملخصات والأقلام, وهذا المبلغ على ضآلته هو أقصى ما في مكنة أبي يستقضيه بطلوع الروح, ولو كان الأمر بيدي لأرسلت له نقودًا بدلاً من أن أطالبه بمزيد من النقود.
سنتذاك كنت بالفرقة الثالثة بمعهد المعلمين العام, وأسرتي بكامل أفرادها تنتظر تخرجي بفارغ الصبر, بعد عامين لكي أصير مدرسًا ابتدائيًا, وأحمل مسئولية الإنفاق على الأسرة بدلاً من أبي الطاعن في السن إلى حد مثير للعطف والإشفاق. مع ذلك - بجرأة حسدني عليها الكثيرون - حملت قصتي وتوجهت بها إلى مطبعة التوفيق بشارع سوق السمك بدمنهور طلبت من صاحبها أن يحسب لي تكاليف طبعها في خمسمائة نسخة. قال إن العدد في النسخ كلما زاد قلت التكاليف, أجرى حساباته على ألف نسخة, فجاءت التكاليف حوالي خمسة وثلاثين جنيهًا, وبحسبة أخرى, أكّد لي أنني لو بعت النسخة بستة قروش, فإنني سأكسب مثل هذا المبلغ بعد تسديد التكاليف, ففي الحال توهمت أنني قد بعت النسخ كلها بالفعل وكسبت المبلغ, وحققت فوق البيعة شهرة تمنيتها. وإذا بإلهام إلهي يشرق أمام عيني: أن أبيع النسخ قبل طبعها لزملائي, ونظرًا لأنني معروف لديهم جيدًا فمن المؤكد أنهم سيشجعونني, فحتى لو نجحت في بيع ربع هذه الكمية, فإنني على الأقل سأجمع تكاليف الطباعة, وهكذا طلبت من الرجل أن يطبع دفاتر إيصالات بعدد النسخ, تحمل اسم القصة واسمي وسعر البيع, أعطي إيصالاً لكل من أتقاضى منه ثمن النسخة. حسبنا تكاليف طبع الإيصالات, فإذا هي فوق الجنيهين بقليل, أسقط في يدي, هذا مبلغ لم أحتكم عليه طوال حياتي. مشيت يائسًا بائسًا أحملق في الأرض لعلني أعثر على محفظة نقود سقطت من أحد التجار. قادتني خطواتي تلقائيًا إلى زميل من بلدتنا في المعهد نفسه, ولكن في السنة النهائية, أبوه من الأعيان الموسرين, ولهذا يسكن مع أخته الطالبة بمعهد المعلمات في شقة في عمارة محترمة في حي نظيف في الطابق الرابع, لا يلبس من سوق الكانتو مثلنا, بل يفصل البدل الكاملة ذات الصديري والقميص الإفرنجي, ويرتدي رباط عنق, ومثل معلمينا ذوي المهابة, يضع الساعة أم كتينة في جيب الصديري, يضع في الجيب الداخلي للجاكيت محفظة نقود من الجلد الثمين, يأكل اللحم والخضراوات المطبوخة في شقته, ينام على سرير نظيف وثير بملاءة ولحاف, بينما ننام نحن على حصائر فوق الأرض, ومخدات صلبة وبطاطين من مخلفات الجيش تتصاعد من صوفها رائحة زنخة.
شريك في التأليف
جلست أمامه على الكرسي الجلدي نفسه, الذي يستهويني كلما زرته. بعد شرب الشاي الثقيل - الذي كثيرًا ما كان بديلاً عن الغذاء - عرضت عليه فكرتي المغرية: أن يعطيني ثلاثة جنيهات أطبع بها الإيصالات في مقابل أن اضع اسمه بجواري على غلاف القصة كشريك لي في التأليف. لدهشته وجدته ينبهر بالفكرة ويتحمس لها, وهكذا طبعنا الإيصالات باسمينا: خيري أحمد شلبي, وعزت أبو زيد مغيزل, ثم اتصلنا بزميل آخر من بلدتنا, وابن مدرسنا في البلدة هو محمد قمر الدولة الشرنوبي, الطبيب الكبير الآن, وعميد كلية طب الزقازيق السابق, الذي لايزال يمارس هوايته في كتابة الشعر والأوبريتات الغنائية, كتب لنا تقريظا شعريًا نشرناه في مفتتح القصة, لاأزال أذكر بعض أبيات من قصيدته التي كان مطلعها:
هاتوا الشموس لكي أصوغ مقالي
ثم يقول:
عز الشباب وخيره في عزة
ولمثل خيري تزدهي أقوالي...إلخ.
ولأن شريكي الجديد نصف بك صغير, فقد توليت أن أبيع الإيصالات, بدأت بالأساتذة المعلمين, كان الاستفتاح نديًا, إذ دخل علينا في الحصة الأولى أستاذنا محمد محمود الحوفي - غير صاحب المكتبة إياها - أستاذ تاريخ الأدب العربي. وإذ وقفنا كالعادة في استقباله, ما إن أشار لنا بيده أن نجلس حتى خرجت عن القمطر متقدما نحوه على استحياء وبيدي دفتر الإيصالات مفتوحًا, قدمته له, تمعن في المكتوب وابتسم واحمر وجهه إشراقًا واغتباطًا, بكل رقة نزع من الدفتر إيصالاً فارغًا من البيانات والتوقيع, طواه ووضعه في جيبه ثم أخرج محفظته, نزع منها جنيهًا كاملاً أعطاه لي قائلاً: خذه كله, ثم ربت على كتفي دافعًا إياي برفق إلى القمطر فيما دموع الفرح والامتنان تنهمر على خدي, فلما دخل علينا في الحصة التالية الأستاذ الأنصاري محمد إبراهيم, وتقدمت نحوه بدفتر الإيصالات صاح العيال كالكورس الجميل في أغنية جميلة: (الأستاذ الحوفي اداله جنيه بحاله ياأستاذ), فكأنهم طالبوه بالمثل, وقد كان, وهكذا تكررت الأسطونة البديعة مع جميع الأساتذة, وهكذا أيضًا مع جميع الزملاء حيث تطوع زملاء فرقتي - بنبرة تفاخرية صافية - بالدعاية لي بين جميع الفصول, أما الفصل الوشيك التخرج, فقد جامل زميله بأن اشترى إيصالات بعدد الفصل كله.
لا تسل عن فرحتنا يوم تسلمنا للنسخ في حقيبة سفر كبيرة: كان مشهدًا احتفاليًا يوم وقفت في حوش المعهد في فسحة الغداء وأمامي الحقيبة وفوقها رصات من النسخ تتعدد ألوان أغلفتها بين الأحمر والأبيض والأزرق والأصفر, قد احتاطت بي جموع الطلاب في صخب وزئيط هائلين, كل من يقدم لي إيصالاً أسلمه نسخته, هنالك من صدق أن الأمر جد لا هزل فيه, إذ يرى القصة مطبوعة أمامه بالفعل, فجاء واشترى. ثم انتقلت إلى بلدتنا لأوزع فيها ما أستطيع من النسخ, وكان الانبهار في عيون الأهل والأقارب يغنيني عن الجميع.
غير أن هذه الفرحة لم تدم, سرعان ما اضمحلت تمامًا مخلفة في الصدر مرارة ثقيلة الوطء, ربما قبل أن تنتهي السنة الدراسية نفسها, حيث اختمرت قراءاتي السابقة, وأينعت دفعة واحدة لينبثق في ذهني ووجداني مفهوم صحيح للأدب الإبداعي, وكيف ينبغي أن يؤدي دوره في إعادة بناء الإنسان على أسس متينة يرتقي فوقها. وكان اكتمال هذا المفهوم مواكبًا لاكتشافي مجموعة من الكتب كان لها أشد الوقع في قلبي وعقلي, أذكر من بينها كتاب (الوردة الذهبية), لكاتب روسي نسيت اسمه, (بداية ونهاية) لنجيب محفوظ, (أرخص ليالي) ليوسف إدريس, (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي, (الناس في بلادي) لصلاح عبدالصبور, (في أزمة الثقافة المصرية) لمحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس, (الميزان الجديد), و(نماذج بشرية) لمحمد مندور, (الأرض) لعبدالرحمن الشرقاوي, (الماء العكر) لسعد مكاوي, (أحرار وراء القضبان) لفؤاد حداد, (كلمة سلام) لصلاح جاهين, (في الثقافة المصرية) لرجاء النقاش, (ميلاد جديد) لشاكر خصباك, (مليم الأكبر) لعادل كامل, وكتب أخرى في التاريخ المصري المعاصر لعل أهمها كتاب (في أصول المسألة المصرية) لصبحي وحيدة وآخر لشهدي عطية يشابهه في العنوان, ثم كتاب سعد زغلول) للعقاد. هذه الكتب هي المسئولة عن إنضاج مفهوم الأدب الإبداعي في وجداني, أيقظت كل ما في قراءاتي السابقة من إيجابيات وإشعاع.
سرعان ما كرهت قصة (المأساة الخالدة), واعتبرتها مأساة في حد ذاتها, كرهت أن يأتي أحد بسيرتها أمامي, كأنها عورة ينبغي سترها. كنت قد أهديت نسخة لأستاذنا عبدالمعطي المسيري, فإذا به يمتعض من المفاجأة يقول لي كلمة واحدة بنبرة أسيفة: (تعجّلت فأسرفت على نفسك!). لحظتها تمنيت لو أنني استطعت محوها من ذاكرة الأصدقاء, لأنني بعد شهرين أو ثلاثة من صدورها ارتفع مستوى إدراكي لكل شيء, صرت أشارك في النقاش بطلاقة وبأحكام واعية ومفاهيم صحيحة سليمة...إلا أن أصدقاء المقهى سرعان ما يظهر على وجوههم أنهم قارنوا بين كلامي هذا بعمقه المفاجئ, وبين قصتي التافهة التي قرأوها مطبوعة في كتاب منذ قليل, فتغلبهم الدهشة الممزوجة بالسخرية, تكاد ألسنتهم تتهمني بصريح العبارة أنني أردد كلاما حفظته من مصادر مهمة, إذ ليس يُعقل أن قائل هذا الكلام المتفهم المتعمق هو نفسه صاحب هذه القصة الساذجة, التي لم يمض على نشرها سوى أشهر معدودة. فكان الغيظ يأكل صدري, والحرج يتصبب عرقًا على وجهي, فأتلفت حوالي في حيرة وأسى, عندئذ تلتقي نظراتي الأسيانة نظرات الأستاذ المسيري, فأرى فيها تشفيًا أبويًا حميمًا, فيما تتسع ابتسامة العطف على شفتيه قائلة في أسف: تستاهل!.