عرفت سمو الشيخ صباح الأحمد في بداية الستينيات, وعملت مدير مكتبه لسبع سنوات قبل ذهابي إلى الأمم المتحدة, وأعود منها إلى مجلس التعاون كأول أمين عام لمدة اثنتي عشرة سنة, ثم أعود إلى الكويت للعمل معه لمدة أربع سنوات, ولا بد أن أتوقف أمام بعض المشاهد في مسيرة هذا الإنسان الذي بدأ الخدمة العامة في الكويت من أكثر من خمس وخمسين سنة.
سمو الشيخ صباح خليط من النخبوية والشعبوية, بين ابن الأمير المميز وبين البسيط الملتصق بعامة الناس, بين المشارك في السلطة والزاهد فيها, بين المرتاح على بلاط الحرير وبين الجالس على المستورد من الحصير, شيء نادر يحركه في تحمل ثقل المسئولية, لا يتحاشاها مهما تعقدت, ولا يتملص من أعبائها مهما بلغت كلفتها, تآلف مع المشاكل دون ضجر, وواصل اقتحامها دون تردد. شعبي مع الصيادين, ومشارك في رقصة العرضة مع الصحراويين, يذهب إلى الدواوين وإلى المقاهي, ويزور المرضى ويتردد على مجالس الشعر النبطي ومجالس القلاليف, ويتسامر مع النواخذة.
شاهدته في هذه الفصول, وشاركته في مؤتمرات تعقد في فنادق متواضعة, لا يتأفف ولا يتضايق, كنا في صحراء موريتانيا في جو قاس, وكنا في فنادق نيويورك الفخمة, لا يهمه الفرق الكبير, ولا يتأثر من التقشف, يرتاح مع الناس بكل مشاربهم ومرئياتهم.
وفي السياسة يتحاور مع كل طيف. بنى جسور ثقة في داخل الكويت, يثق في الليبراليين, ويوده التقليديون, ويرتاح له السلفيون, وهو حقاني بلا تطرف, وصريح بلا تجريح, وله الجاذبية الشخصية والأهلية السياسية, سريع الالتقاط للمقترحات, يثق بمن يعمل معهم, ويعطيهم كل الصلاحيات, ليس مركزيا ولا محتكرا.
عملت معه في ثلاثة مجالات: في مجلس التعاون الذي جاء وليد مقترح من سمو الأمير الراحل, تبناه الشيخ صباح ورعاه فكرة, ثم نبتة ثم واقعا ثم صرحا. أدرك أن المجلس الظهر القوي مساند للكويت, وأدرك أن صوت الكويت يستقوي بالمجلس, وأن المجلس يعطي الكويت ميزة الاستماع, ويصغي لما تقوله في الاجتماعات الوزارية, ثم في لقاءات القمة, وبصراحة لم يبخل سمو الشيخ صباح على زملائه وزراء خارجية دول مجلس التعاون بإعطائهم تفاصيل المعلقات بين العراق والكويت. أذكر في شهر فبراير 1990, جاء المبعوث العراقي إلى الكويت (سعدون حمادي) بلائحة من الطلبات المالية وأخطرها المقترحات الأمنية, التي يريدها العراق كقواعد عسكرية وبحرية وممرًا استراتيجيًا إلى ميناء الشعيبة, وامتدادًا جغرافيًا على ساحل الصبية, وارتباطات أمنية تجعل الكويت دولة (ملحق), وقدم الشيخ صباح تقريرًا كاملاً مع صور من الطلبات إلى أعضاء المجلس الوزاري ليشاركوه الرأي والمشورة.
خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية تولى رئاسة اللجنة السباعية العربية المنبثقة من الجامعة العربية لدعم العراق, وطاف العالم وزار عواصمه من أجل العراق, مدافعًا مقتنعًا ومجندًا الدعم العالمي وراء مواقف العراق, اعتبره الرئيس العراقي السابق صدام حسين وزير خارجية العراق الأول, كل ذلك لأنه آمن بأهمية وقف الحرب العراقية - الإيرانية لصالح الشعب العراقي ولصالح المنطقة لاسيما دول مجلس التعاون, ولصالح شعب إيران.
ذهب إلى المرحوم آية الله الخميني - زعيم الثورة في إيران - شارحًا الموقف, ودخل البيت الأبيض دفاعًا عن قضايا العرب, لم تكن له قضايا سوى مشاكل الآخرين, قبل العراق, كانت مشاكل فلسطين وسورية وموريتانيا, ومساع حميدة لا تتوقف بين اليمن الشمالي والجنوبي, وبين اليمن الجنوبي وسلطنة عمان, وبين سورية ولبنان, وبين لبنان وفلسطين, وبين المغرب وموريتانيا, وبين شاه إيران وأمير البحرين, آمن الشيخ صباح بأن التضامن العربي هو السبيل الأمثل لتعزيز مكانة العرب, كان يؤمن بأنه لا تضامن إلا بإزالة الخلافات, وبهذا الإيمان تحرك شمالاً وجنوبًا من دون توقف ومن دون البحث عن راحة, وبلا ضجر, كنت معه في بعض المناسبات وكنت أتعجب من صبره, لاسيما في الفترة السيئة من عام 1966 بين مصر والسعودية حول اليمن, كانت المواقف متباعدة لكنه حاول واستضاف واقترح وناقش.
سمعته يناقش المرحوم عبدالناصر في ضرورة عقد القمة العربية المقررة عام 1966, وكان الرئيس المصري يهاجم الملك فيصل, ولم يتقبل الشيخ صباح ذلك وانتقد الاعتماد على تقارير المخابرات, كان ولايزال يكره تقارير المخابرات التي تسيء ولا تروج إلا الأكاذيب.
في يوم من العام 1969 جاءه المرحوم عبدالخالق حسونة - في الرباط - بعد فشل مؤتمر القمة هناك, يريد مساعدته في تقديم العون إلى مصر التي أنهكتها حرب 1967, كانت روحه القومية أكبر من اعتبارات الفوز والخسارة.ذهب عام 1973 إلى نيكسون - مع الرئيس الجزائري الحالي بوتفليقة, والمرحوم عمر السقاف وزير الشئون الخارجية السعودية, لم تعجبه مبررات الرئيس نيكسون للقرار الأمريكي في تقديم أسلحة سريعة إلى إسرائيل في الجسر الجوي, وانتقده بوضوح, لم يكن محبًا لمداخلات الدول الكبرى, يخاف من الوقوع في شبكة المصالح الدولية على حساب الصغار, ولذلك نشطت الكويت في سياسة عدم الانحياز, كنت دائمًا أراه راسمًا ومنفذًا للاستراتيجية الكويتية, لم يكن وزيرًا, كان صانع القرار ومهندس الاستراتيجية ومنفذ بنودها, والمحافظ على بقائها.
في عروبيته السياسية الكثير مما يستحق الدراسة, لأننا تأثرنا بها, وحينما كنت ممثلاً للكويت في الأمم المتحدة تبنيت الخطة التي شيدها, لم يكن لنا في مجلس الأمن قضايا, كان ينتقد المواقف الأمريكية علنًا أمام الأمم المتحدة, وفي الاجتماعات في واشنطن, وكان يرى في الجامعة العربية الدرع الواقي, لا غرب ولا شرق, وإنما عروبة سياسية نقية, لذلك رفض بسبب إيمانه بها عروض الدعم والوقاية, عندما سأله صحفي أمريكي بمن يمكن أن تستنجد عند الشدة - موسكو أم واشنطن, كان الرد القوي, استنجد بالجامعة العربية, مما أوقع السائل الأمريكي في إحراج.
ومع ذلك سمو الشيخ صباح ليس الرجل الرومانسي السياسي, ولكنه يعرف أين مكامن القوة, ويعرف مسبباتها, ويعرف حجم الكويت, ويعرف حاجاتها, ورغم الغزو مازال متمسكًا بالمشاعر التي شدته طوال حياته, فلا تستهويه لعبة الكبار, ويرتاح في الأجواء التي يراها بعيدة عن هذه اللعبة.عندما تتحدث عن الخليج قبل قيام دولة الإمارات العربية وبعدها ومحاولاته في جمع اتحاد تساعي ضم الإمارات والبحرين وقطر, نستذكر التركة الأخوية التي كان لها دور مهم في قيام الاتحاد, وكذلك في بروز الخليج كمنظومة سياسية وحدوية داعمة لمجلس التعاون.
ذهب إلى الخليج مؤيدًا ومساعدًا ومساهمًا, عندما كان الخليج بحاجة إلى معاضدة الكويت سياسيًا واقتصاديًا وتجهيزًا, كان هناك يلبي ويحاور وينصح.
سمو الشيخ صباح يكمل مسيرة الراحل العظيم الشيخ جابر, لهما النهج نفسه, وإيمانهما بالتوجه السياسي واحد, تجمعهما الحصافة السياسية, وربما تتباعد بينهما الأساليب, سمو الراحل العظيم مصمم وراع, وسمو الشيخ صباح مصمم ومفصل ومتابع, لا يكل من الأسفار والترحال.
شخصيًا أنا مدين له في حياتي, في عملي معه كمدير مكتبه في الستينيات, وسفيرًا له في الأمم المتحدة, ومرشحًا له كأمين عام.
أطال الله بعمره وحفظه برعايته.