أتاحت الدراسات العلمية الحديثة التعرف على كثير من العلاقات والتشابكات التي تحكم حياة الإنسان. أصبح متاحا التعرف - على سبيل المثال على متوسط الأعمار المتوقعة عند كل شعب من الشعوب.. وأصبح متاحا التعرف على العلاقة بين التغذية، والصحة، والإنتاجية.. بل، ودرجة التحصيل في المدرسة ومتوسط عمر الإنسان.
الأكثر من ذلك أن بعض الدراسات قد أصبحت تربط بين طول القامة، ومتوسط العمر، ونوع التغذية وبينما تحاول بعض الدول تغيير الصفات الطبيعية للمواطن وفق برنامج مدروس وطويل الأمد.. فإن الدراسات قد أثبتت أن الأمريكيين يتمتعون بقامة أطول، ومتوسط عمر عند المولد يصل إلى 76 عاما.. أما السبب فهو أنهم يأكلون لحوما أكثر.
طبعا، هناك أسباب أخرى، لكن تقرير التنمية في العالم (1991) الصادر عن البنك الدولي يؤكد هذا السبب، ويشير لارتباط وثيق بين العمر المتوقع "وطول الشخص البالغ"، ويقول إن الأمريكيين قد وصلوا للأطوال الحديثة في منتصف القرن الثامن عشر، ووصلوا - بسبب اللحوم - لمستويات في العمر المتوقع لم يصل لها عموم سكان إنجلترا، أو حتى طبقة النبلاء البريطانيين إلا في بدايات القرن العشرين.
أرقام لها تاريخ
في التفاصيل، نجد أن معدل الوفيات النمطي بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية قد انخفض من (40) في الألف عام (1700) إلى (5) في الألف فقط عام (1980).. و.. في الفترة نفسها انخفض معدل الوفيات في بريطانيا من (28) في الألف إلى (7) في الألف.. أما السر فهو الغذاء، والذي يرتبط بالضرورة بالمستوى الاقتصادي والرعاية الصحية.
وقد استطاعت الدراسات المقارنة أن تبرز ذلك التطور التاريخي في حياة الأمم ورصدت التغيرات الصحية خاصة في القرنين الأخيرين اللذين شهدا قدرا هائلا من المبتكرات العلمية التي أطالت عمر الإنسان.
قديما، كان مرض صغير يزيد نسبة الوفيات بمقدار هائل. كانت الكوليرا وباء مخيفا، وكان الجدري مشكلة ضخمة.. بل وكان الإسهال عند الأطفال وبما قد يصحبه من جفاف من أسباب الوفاة الرئيسية. في عام (1790) تم اكتشاف مصل الجدري ومهد ذلك للتطعيم ضد الكوليرا والتيفود.
وفي عام. 1880 اكتشف باستير العلاقة بين الجراثيم والمناعة، كما اكتشف فلمنج البنسلين عام 1929، وبرزت تطبيقاته العملية عام 1941.. فبدأ استخدام المضادات الحيوية التي كانت نقطة تحول في التاريخ الصحي للإنسان.
وتسجل أرقام البنك الدولي أن معدل الإصابة بالتدرن الرئوي في الولايات المتحدة الأمريكية كان (79) في الألف عام (1939).. ولكن وبعد خمسين عاما أصبح المعدل (9) في الألف فقط.
وبينما كان التحسن - نتيجة للتقدم الطبي- هائلا في الدول الصناعية المتقدمة التي تتمتع بمستوى غذائي وصحي مرتفع، فإن النتائج كانت أكثر تواضعا في الدول منخفضة الدخل.. فانخفض معدل وفيات الأطفال في هذه البلدان من (124) في الألف إلى (72) في الألف بين عامي (1985) و (1958).
ذكور وإناث
تطل الدراسات على قرن كامل من الزمان.. قرن يبدأ عام. 1880 وينتهي - مع التجاوز- عام 1985.
في هذه الفترة زاد متوسط العمر المتوقع عند المولودين الذكور في البلدان الصناعية بمقدار (25 - 30) سنة، وكانت الإناث أوفر حظا والزيادة في متوسط أعمارهن أكبر.
وتشير الدراسات إلى نوع التشابكات التي تحدث في هذا المجال.. ففي بحث حول (8) بلدان أوربية يتضح أنه خلال قرن من الزمان أيضا كانت هناك زيادة (1) في المائة في متوسط أطوال القامات.. وأن ذلك قد ارتبط في الوقت نفسه بانخفاض في معدل الوفيات. وفي أسباب انخفاض الوفيات يمثل عنصر الغذاء - خصوصا عند الأطفال الرضع - (40) في المائة من أسباب الانخفاض.. وفي محاولة للحصول على مؤشرات أخرى يأتي متوسط الدخل، ومتوسط طول القامة.
ولم تنفرد الدول الأوربية والأمريكية بذلك، بل إن بعض بلدان آسيا قد استطاعت أن تحقق النتائج نفسها ففي اليابان ارتفع متوسط العمر المتوقع للذكور من (65) سنة إلى (70) سنة بين عامي 1950 و 1975.. وفي سري لانكا، ارتفع متوسط العمر من (45) عاما إلى (64) عاما بين عامي (45 و1961).. وفي نيبال أمكن قياس العلاقة المتبادلة بين طول القامة ونسبة الالتحاق بالمدارس والقدرة على التحصيل عند الطالب.. وفي الأسباب تأتي أيضا قضايا التغذية، والتحصين، وتطعيم الأطفال، والحصول على المياه النقية.
الرقم المأساة
خلال ذلك يبرز الرقم المأساة، وهو أن العمر المتوقع للبلدان الأكثر فقرا يقل عشرين عاما عن البلدان النامية الأخرى.. وفي التفاصيل يتضح أن متوسط العمر المتوقع في بعض البلدان مثل سيراليون يهبط إلى 42 عاما وتشاد 47 عاما وبوروندي 49 عاما.. ونجد - طبقا لتقارير البنك الدولى- أن هناك مليارا ونصف المليار من البشر يفتقرون للرعاية الصحية الأولية.
وإذا كانت هذه هي الصورة عالميا، فإنها عربيا تقدم المؤشرات نفسها.. فمتوسط العمر المتوقع عند المولد في اليمن والصومال (48) عاما.. والسودان (50) عاما.. ومصر (60) عاما.. والسعودية (66) عاما، والكويت (74) عاما.
وبقراءة سريعة - مع استثناءات محدودة - يمكن القول إن متوسط العمر يتناسب تناسبا طرديا مع متوسط الدخل أي: مع حظ الإنسان من الصحة والغذاء والرعاية والترفيه.
إنها المعادلة الثابتة، وقد قفزت البشرية قفزة واسعة بالتصدي لأمراض عديدة.. ولكن بقي المستوى الصحي العام.. بل وبقي الوزن والطول ودرجة الاستيعاب والذكاء.. بقيت هذه المؤشرات خاضعة لمستوى الغذاء.. وربما تكون اللحوم - كما أشارت البحوث في أمريكا - عنصرا رئيسيا، لأنها عنصر بناء، وإن ظل السؤال قائما: وماذا عن النباتيين والذين قالت أبحاث سابقة إنهم يعيشون أطول؟!.