كم من السنوات مرت على هذا اليوم البعيد الذي عدت فيه إلى بيتي ظافرًا أحمل موسوعتي الأولى. لا أذكر على وجه التحديد. كل ما أذكره أن هذه الموسوعة قادتني إلى موسوعات أخرى غيرها. كالأنثى التي تعرف فيها المرأة الأولى فتغويك بتعرف كل من ينتمي إلى نوعها. ومنذ ذلك اليوم وأنا واقع في غواية الموسوعات.
أذكر أنني حين اخترت دراسة النقد الأدبي الحديث، بعد تخرجي في الجامعة، منذ سنوات بعيدة جاوزت ثلاثة عقود، واجهت مشكلة البحث عن منافذ جديدة إلى المعرفة النقدية المعاصرة التي عشقتها بفضل سهير القلماوي وشكري عياد، أطال الله في عمرهما ومتعهما بالصحة والعافية. ولم تكن الكتب المترجمة المتاحة في ذلك الزمان، كافية لتكوين معرفة معمقة بآفاق النقد العالمي المعاصر. ولم تكن الكتب المؤلفة باللغة العربية هي الأخرى قادرةٌ على تقديم المشهد النقدي العالمي إلينا، في تياراته المختلفة ومناهجه المتباينة، على نحو يمكن أن يكون سندًا قويا لناقد يريد أن يؤسس لنفسه، وبنفسه، أفقًا عصريا متميزًا. وكما كانت القراءة باللغة الأجنبية هي النافذة التي أطللنا منها على فضاء النقد العالمي المعاصر، في تشابك علاقاته وتفاعل تياراته، كانت الموسوعة النقدية المكتوبة بهذه اللغة، على نحو لا يقل أهميةً عن الكتاب، ويزيد عليه في حالات بعينها، هي قطارنا السريع إلى هذا الفضاء، وسبيلنا إلى تعرف مسالك الوصول المضمونة إلى محطاته الرئيسية والفرعية.
لم نكن قد سمعنا شيئًا تفصيليا من أساتذتنا عن هذه الموسوعات. أشار علينا شكري عياد بموسوعة "كاسل" ذات مرة، وأشارت سهير القلماوي إلى موسوعة مشابهة في معرض تنبيهنا إلى أهمية دورية "الفن وفن النقد" التي لا أنسى أنها أهدتني بعض أعدادها المكررة في مكتبتها الخاصة، مع مجموعة أعداد من مجلة ال " كينيون ريفير " وال "سواني ريفير"، كان لها أثر السحر في زيادة شغفي بالمضي في هذا العالم العجيب، عالم النقد الأدبي المعاصر الذي باعد بيني وبين طرائق المدرسة القديمة في دراسة الأدب إلى الآن.
ومازلت، بعد هذه السنوات الكثيرة، أذكر عذابي ومعاناتي، وأنا جالس أمام مكتبي، واصلا الليل بالنهار، كي أفك طلاسم الجمل المكتوبة بها دراسات هذه الدوريات والمجلات، وأقترب شيئًا فشيئًا، وبصعوبة بالغة، من لذة الوصل والظفر بمعرفة ما لم أكن أعرف من آفاق النقد الأدبي ومجالاته النظرية والتطبيقية.
لكن الفرحة الأولى التي انبثقت مصادفةً، كالحب الأول، كانت فرحة العثور على الموسوعة النقدية الأولى التي اقتنيتها من حر مالي، والتي لا أذكر عدد المرات التي قرأت موضوعاتها الأساسية المرتبطة بالحقل المعرفي الذي قررت التخصص فيه. كان ذلك في معرض من معارض الكتاب الدولية التي استهلت سهير القلماوي تقاليدها التنويرية، منذ أن أقامت أول معرض دولي للكتاب في القاهرة، وقت أن كانت مسئولة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. أذكر جيدًا أنني توقفت في جناح الأهرام بأحد هذه المعارض. بعد النكسة بالقطع، أمام الغلاف البراق للطبعة الأولى من " موسوعة برنستون عن الشعر ونظرياته "التي صدرت عام 1965، قبل سبع سنوات من صدور طبعتها الشعبية عام 1972وتناولت مجلد الموسوعة الذي كان يحوي قرابة ألف صفحة من القطع الكبير واجفًا، فرحًا، مبهورًا، أقلب صفحاته، وأتعرف محتوياته، قبل أن أنظر إلى الثمن الذي كان كثيرًا بالقياس إلى قدراتي المالية المتواضعة في ذلك الزمان. ولحسن الحظ، كان معي ما يكفي لشراء الموسوعة، شريطةً ألا أشتري شيئًا غيرها من كتب المعرض كله. وهل كنت في حاجة إلى شيء غيرها؟. لقد حملتها بين يدي، كما لو كنت أحتضنها، وعدت إلى المنزل، ماشيًا، بعد أن لم يعد معي حتى ثمن المواصلات. ونظرت إلى زوجتي باسمة، فقد كانت ولا تزال تعرف عشقي المجنون للكتب. وتركتني أدلف إلى غرفة المكتب ملهوفًا كي أعالج لهفتي وأشبع نهم رغبتي في الاطلاع على الموسوعة الأولى التي اقتنيتها، وأخذت أطالع الموسوعة وحيدًا متوحدًا استغرقني عالمها الذي دفعني إلى معاودة قراءتها مرات ومرات، والترجمة عنها، والإشارة إليها، في علاقة إعجاب لم تنته أو تتوقف إلى اليوم.
ومن "موسوعة برنستون للشعر ونظرياته"، حيث لذة اللحظة المعرفية الأولى التي لا يمكن نسيانها. توالت اللحظات وتولدت اللذات واحدة تلو الأخرى، مع موسوعات الأدب العام والنقد بفروعه المتعددة وعلوم اللغة وعلم النفس والفلسفة والأنثروبولوجيا وعلوم الاتصال والأساطير والنقد الثقافي والفنون وعلم الأسلوب مرورًا بالبريتانيكا وأخواتها، فضلًا عن موسوعة "ويستر الأدبية" التي صدرت هذا العام عن مؤسسة ويستر (دار نشر المعجم الأمريكي الشهير) بالاشتراك مع مؤسسة الموسوعة البريطانية. وأخيرًا وليس آخرا موسوعة "آداب ما بعد الاستعمار المكتوبة بالإنجليزية" التي صدرت العام الماضي، في مجلدين (من حوالي ألفي صفحة) عن دار النشر الشهيرة "روتلدج" في لندن ونيويورك.
من الطريف أن الطبعة الأولى لموسوعة برنستون، بعد أن قادتني إلى غيرها من أنواع الموسوعات، دفعتني إلى هجرها هي نفسها، بعد أن سودت بملاحظاتي وتعليقاتي الكثير الكثير من صفحاتها. وكان ذلك لأن القائمين على هذه الموسوعة التي حررها أليكس بريمنجر (ومعه مجموعة متميزة من المحررين المشاركين وعشرات الأعلام من كتاب المواد المتخصصة) لم يتوقفوا عندما فعلوا وظلوا يلاحقون تحول النظريات الخاصة بالشعر وتغير الأنواع والأشكال الشعرية ذاتها في كل مكان من العالم. وبذلك ظهرت طبعة جديدة موسعة من الموسوعة نفسها عام1974. وأضيف إلى هذه الطبعة ملحقٌ في حوالي مائة صفحة عن مصطلحات الأفكار والتيارات والمدارس التي أخذت تفرض نفسها منذ صدور الطبعة الأولى عام 1965ونظرة فاحصة إلى هذا الملحق تكشف عن دلالة التغير، فهناك شعر القارة الإفريقية الذي أخذ يفرض نفسه، وموضوع الرقابة على الشعر، وأثر الكمبيوتر وتقدمه، وشعر الاعتراف الذاتي، والنزعة النصية الجديدة، والعروض التوليدي. ومدرسة جنيف في النقد الأدبي التي يطلق على أصحابها نقاد الوعي، والنزعة التاريخية الجديدة، ومشكلات التفسير والهرمنيوطيقا المعاصرة، ونقد النقد، ونقد الأسطورة، والفينومنيولوجيا النقدية، ومشكلات قراءة الشعر، والبنيوية والسميوطيقا.. الخ. هذه الموضوعات الجديدة شاهد على التغير الذي حدث في نظريات الشعر ونقده في أقل من عشر سنوات، وهي سنواتٌ انقلابية بالفعل. دفعت بالكثير الذي كتب قبلها إلى منطقة الظل، وأبرزت أسماءً جديدة ومدارس نقديةً مغايرةً، لعل أخطرها الهرمنيوطيقا والسميوطيقا والبنيوية وغيرها من النظريات التي اقتحمت نقد الشعر وفرضت نفسها عليه، فعدلت مساره القديم، كما عدلت مسار غيره من أنواع النقد، ودخلت بكل المسارات إلى أفق مختلف، يتطلب مرانا خاصا وتدريبًا عقليا متميزًا على التذوق والقراءة.
طبعة جديدة وطعم جديد
وطبيعي أن أجد نفسي مسمرًا إلى الطبعة الجديدة الموسعة من موسوعة " برنستون " بعد صدورها بوقت قصير، وأعطي الطبعة القديمة التي مازلت أحمل لها ذكرى خاصة إلى أحد تلاميذي الذي سرعان ما أصبح له وزنه في الحياة النقدية، واشتريت الموسوعة الجديدة دون أن أشعر بضائقة مالية كالتي شعرت بها أول مرة، فقد تغيرت الأحوال المالية ولم أعد أعاني من ضيق ذات اليد أو من الجهل القديم بدلالة التراكيب المعقدة لجمل الكتابة النقدية المعاصرة في اللغة الإنجليزية. والتهمت في يسر الملحق المضاف إلى الطبعة الجديدة، وأفدت من التعديلات المضافة إلى المواد الأصلية، وأذكر أنني اشتريت بعد ذلك أكثر من نسخة لعدد من تلامذتي بعد أن ذهبت لأول مرة إلى الولايات المتحدة كي أعمل أستاذًا زائرًا في إحدى جامعاتها. وكانت الولايات المتحدة. في ذلك الوقت من السبعينيات - واقعة في هوى البنيوية التي اكتسحتها في أواخر الستينيات، وظلت مسيطرة على المشهد النقدي الأمريكي طوال السبعينيات إلى أن بدأت في الانحسار لتخلفها على صدارة المشهد نظرية التفكيك أو ما يطلق عليه - حاليا - نظريات ما بعد البنيوية. وكما عكست الطبعة الجديدة من موسوعة برنستون المناخ الأمريكي، لأواخر الستينيات ومطالع السبعينيات، حيث المناظرات البنيوية الصاخبة والمجادلات الهرمنيوطيقية اللافتة والفتة الواعدة بالنحو التحويلي التي سرعان ما خبت. كان نجاح الموسوعة نفسها دافعًا إلى صدور موسوعات جديدة في المجالات الأدبية والنقدية والفنية الموازية.
وأذكر في هذا المجال أن السبعينيات ما كادت تنتهي إلا وكانت هناك موسوعاتٌ موازية، أصبح يطلق على بعضها اسم "المعاجم الموسوعية". وأخذنا نحن المهتمين بالنقد الأدبي ونظرياته الجديدة نتابع منذ ذلك الوقت الأعمال الموسوعية التي انطوت على وعود معرفية جديدة، وكان أهمها فيما أحسب وأذكر على السواء ذلك المعجم الموسوعي الذي أصدره بالفرنسية زفيتان تودروف مع أوزوالد ديكرو عن "علوم اللغة" عام 1972وتمت ترجمته إلى الإنجليزية عام 1979، والمعجم التحليلي للسميوطيقا واللغة الذي أصدره كل من جريماس وكورتيس بالفرنسية عام 1979وتمت ترجمته إلى الإنجليزية عام 1982وكلا المعجمين دليل على التأثر الكامل للمشهد النقدي بعلوم اللغة التي أفضت إلى البنيوية والسميوطيقا، وهي علومٌ أصبحت في صورتها المعاصرة أداةٌ أساسيةٌ لا يمكن للناقد المعاصر أن يستغنى عنها. وإذا كانت البنيوية قد أفضت إلى تسلط علوم اللغة على المشهد النقدي المعاصر ومن ثم صعود صورة الناقد اللغوي بوصفه رسول الهداية المنهجية، فإن موازيات البنيوية ولوازمها أفضت إلى معارف واعدة صاغتها معاجم موسوعية مغايرة تشير إلى كشوف منهجية جديدة على مستوى الدراسات البينية وهي وعود جسد بعضها المعجم الموسوعي الخاص بالرموز، ذلك المعجم الذي صدر بالإسبانية أولًا ثم قام جاك سيج بترجمته إلى الإنجليزية ثانيًا، وصدر عن دار "روتلدج وكيجان بول" في لندن وشاعت طبعاته المكررة طوال السبعينيات حيث أعيد طبعه بمعدل مرة كل عامين تقريبًا شأنه في ذلك شأن معجم "لغة التحليل النفسي" الذي أعده لبلانش وبونتيالس ليصلا البنيوية بما بعد البنيوية، ويعيدا النظر في ميراث التحليل النفسي من وجهة نظر البنيوية التي قادها جاك لاكان إلى ضفاف جديدة في التحليل النفسي. وكان لهذا المعجم صداه المحدود حين صدر بالفرنسية عام 1967، وصداه الأوسع حين صدرت ترجمته الإنجليزية عام1973، فأعيد طبعه أربع مرات ما بين عامي 73 و85 على نحو يلفت الانتباه إلى ثمار العلاقة المتفاعلة بين العلوم المختلفة على مستوى تضافر الاختصاصات الذي أثمر العلاقات البينية للمعرفة، في مجالات علم اللغة والتحليل النفسي والنقد الأدبي والهرمنيوطيقا وغيرها.
ويبدو أن الوفرة المعرفية التي نتجت عن تضافر الاختصاصات وتفاعل الحقول المعرفية هي التي دفعت دار النشر الشهيرة "بنجوين" إلى العمل على إصدار معجم بنجوين للمصطلحات الأدبية والنظرية الأدبية على السواء وهو المعجم الذي أعده ج. أ. جيدون وصدرت طبعته الأولى عام 1977 في أكثر من ألف صفحة، محتويًا على حوالي ألفين من المصطلحات التي تغطي الجوانب المختلفة للنظرية الأدبية وحقولها البينية التي تشترك فيها مع فروع المعرفة المختلفة. وكان للطابع الموسوعي الشامل لهذا المعجم، فضلًا عن معاصرته التي لم تفلت التطورات البنيوية والحداثية وما بعد الحداثية وما بعد البنيوية على السواء، أثر في ذيوعه وتكرار طباعته، وتنقيحه والإضافة إليه، في طبعات موسعة، تلاحق التطورات المتتابعة في كل مجالات النظرية الأدبية، فصدرت الطبعة المنقحة لعام 79، وبعدها بعام طبعة منقحة ثانية، وثالثة عام، 1982ورابعة عام1991، وذلك كله قبل صدور الطبعة الشعبية الأخيرة التي أولتها دار نشر "بنجوين" كل الرعاية والدعاية.
تدافع المشهد النقدي
والواقع أن تعاقب الطبعات المنقحة لكل معجم من المعاجم الموسوعية أو كل موسوعة من الموسوعات الأدبية النقدية، يدل على تدافع المشهد الأدبي النقدي العالمي، وتسارع إيقاعه في التغير والتحول. وهو تسارعٌ يفرض على المتابع لهذا المشهد قدرًا لافتًا من المرونة العقلية التي لا بد منها لاستيعاب التحولات المتلاحقة، كما يفرض قدرًا موازيًا من التسامح الذي لا يفارقه الصبر على تغير المشهد. لقد مضت إلى غير رجعة سنوات الكسل التي كان يمكن أن يجمد فيها الناقد عند كتاب أو كتابين، أو عند مدرسة بعينها، متصورًا أنه جمع علم النقد من أطرافه، وحلت محلها الأيام الصعبة المتدافعة التي تفرض على الناقد اليقظة لكل تغير وتحول، والانتباه إلى كل جديد واعد. وإذا كان من المستحيل على الناقد أن يتابع آلاف الكتب الجديدة التي تصدر كل عام، في مختلف أنحاء العالم، وبمختلف لغاته، فإنه يمكن التغلب على هذه الاستحالة بمتابعة الاتجاهات المتحولة التي تومئ إليها هذه الكتب بواسطة الموسوعات المتلاحقة في طبعاتها المتعددة وصياغاتها المتجددة.
هذه الموسوعات التي يتسارع إيقاع طبعاتها، كما يتزايد عددها بما يجعل منها في ذاتها عنصرًا تكوينيا من عناصر المشهد النقدي العالمي المعاصر، هي في نفسها، دليل على أهميتها التي لا غنًى عنها لناقد هذا العصر الذي يريد أن ينظر نظرة الطائر إلى التحولات المتدافعة، في كل مكان بالعالم حوله، قبل أن يتوقف عند كل تحول تفصيلًا، أو يتأنى عند هذا العنصر أو ذاك من المشهد جزئيا. بعبارة أخرى، أصبحت هذه الموسوعات وسيلة حتمية لا مفر منها في معرفة هذا العصر الهائلة المتحولة، تلك المعرفة التي أصبحت كوكبية الحلقات متضافرة التوجهات، متعددة اللغات، بيئية التخصصات، تنهض بها مجموعات الباحثين وفرق العمل الدولية، خاصة بعد أن انتهى زمن الباحث الفرد القادر على كل شيء بذاته. وإذا كان على الناقد الأدبي، حين يبدأ علاقته بالمشهد العالمي، أن ينظر نظرة الإجمال قبل التفصيل، ويعنى بالكليات قبل الجزئيات، فإن هذه النظرة تيسرها له الموسوعات والمعاجم الموسوعية، فتشير له إلى الملامح العامة المجردة، وإلى المفاتيح الإصلاحية والرموز المعرفية، تاركة التفصيل والجزئيات إلى الكتب المتخصصة ومئات الدوريات المتتابعة بلغات العالم المتنوعة.
عصر الموسوعات
هذا الواقع الجديد للنقد الأدبي هو الذي يدفعني إلى التفكير في عصرنا الحالي بوصفه عصر الموسوعات، فالثراء الهائل والتراكم المذهل والتجدد المعجز والتنوع المفرط والبينية المتدافعة التي تتسم بها المعرفة الإنسانية بوجه عام، والمعرفة الأدبية النقدية بوجه خاص، كلها أمور تحتم حضور الموسوعة العامة، والمعجم الموسوعي المتخصص، وذلك بالقدر نفسه الذي يفرض تجدد الموسوعة والمعجم، وعدم وقوفهما عند سنة صدورهما، فلا بد من المتابعة والملاحقة والتنقيح والتجديد، وإلا أصبحت الموسوعة والمعجم الموسوعي بلا قيمة في عالم يتزايد اندفاعه في التغير.
ويمكن للباحث المتخصص أن يقارن بين الطبعات المتعددة لأي معجم موسوعي، أو بين مجموعات المعاجم والموسوعات، فيجد أن التحولات المتتابعة في السنوات الأخيرة قد أخرجت الكثير من المعاجم والموسوعات إلى خارج مضمار السباق المعرفي، وألقت بها في زوايا المكتبات المهجورة، وفي الوقت نفسه فرضت موسوعات متخصصةً جديدةً. ولا شك أن موسوعة آداب ما بعد الكولونيالية التي صدرت العام الماضي هي آخر الموسوعات الجديدة التي فرضتها تحولات النقد الأدبي، ذلك النقد الذي أخذ يشهد في السنوات الماضية تصاعدًا في الاهتمام بما أصبح يطلق عليه خطاب ما بعد الكولونيالية أو خطاب ما بعد الاستعمار وهو الخطاب الذي يقوم بتفكيك أشكال الهيمنة الاستعمارية الجديدة ويعريها من أوهامها الأيديولوجية الملازمة. ومن أبرز أعلامه إدوارد سعيد الفلسطيني وهومي بابًا من جنوب إفريقيا، وجياترى سيبيهاك من الهند، وأعجاز أحمد من باكستان وغيرهم. وإلى جانب هذا الخطاب خطاب النقد النسائي الذي أخذ يفرض موضوعاته الجديدة ولغته الخاصة، ومن ثم معاجمه الموسوعية التي تركز على دراسات الهوية الجنسي والتحيز الذكري وخصوصية الكتابة النسائية المقموعة في غير حالة.
ونظرةً فاحصة أخيرةً إلى أحدث الموسوعات التي أصدرتها جامعة تورنتو الكندية بعنوان موسوعة " النظرية الأدبية المعاصرة المداخل، والدارسون، والمصطلحات " والموسوعة الشبيهة التي أصدرتها جامعة جونز هوبكنز الأمريكية بعنوان "دليل إلى النظرية الأدبية والنقد الأدبي" تؤكد التراكم المعرفي الهائل الذي أصبح يفرض نفسه على الناقد الأدبي الذي يبحث لنفسه عن موقع كريمٌ تحت شمس العالم المعاصر، وتؤكد التغير المتلاحق في المشهد الذي يفرض حتمية المتابعة المتجددة من الناقد، وحتمية الموسوعة المتجددة التي لا تكف المؤسسة القائمة عليها عن ملاحقتها بالتنقيح والإضافة والتعديل الجزئي والكلي على السواء.
تحولات النقد
ولقد دخلت موسوعة برنستون السباق المحموم لتحولات النقد الأدبي المذهلة، فأصدرت الطبعة المنقحة بعد الطبعة المنقحة، إلى أن تزايدت الملاحق والتنقيحات، وشعر القائمون عليها بتغير المشهد كله، فاضطروا إلى إعادة كتابة الموسوعة القديمة بأسرها، وإصدارها في صياغة جديدة تمامًا، مستعينين بأبرز الكتاب الجدد الذين أخذوا يلفتون اهتمام العالم النقدي، فتضخم عدد الصفحات ووصل إلى ضعف العدد القديم برغم استخدام حرف طباعي أصغر. وتضاعف عدد المساهمين في كتابة المواد، وبرز الكثير من أسماء العالم الثالث الذين أخذوا يفرضون أنفسهم على العالم الأول، وتجلت الإنجازات الأدبية للعالم الثالث وعلى رأسها الإنجازات العربية، وانضم إلى المحرر القديم (أليكس بريمنجر) ت. ف. بروجان الذي يمثل التيارات المعاصرة. وأضيف إلى المحررين المساعدين أقرانهم الأحدث الذين يعرفون عن السنوات الخمس عشرة الأخيرة ما لا يعرفه غيرهم. وصدرت هذه الطبعة الجديدة كل الجدة منذ عامين. ويستعد القائمون عليها لإضافة تعديلات جديدة في طبعة لاحقة.
والحق أنني شعرت بالدهشة الفرحة عندما رأيت هذه الطبعة الجديدة تمامًا من موسوعتي الأولى، وسعدت بها سعادتي بصديق قديم، تجدد شبابه، وانبعث من رماد ماضيه كطائر الفينيق، فأصبح ممتلئًا بالحياة المتوثبة والعافية الواعدة. وامتدت يدي إلى هذه الطبعة، وسارعت إلى شرائها دون تفكير، بعد أن تناولتها من أحد الأرفف في الركن المخصص للموسوعات، في أكبر مكتبةً لبيع الكتب في مدينة بوسطن الأمريكية. مستعيدًا خفق القلب الأول إزاء الطبعة الأولى التي أنفقت عليها كل ما أملك، حين اشتريتها منذ سنوات بعيدة في القاهرة. وجلست في كافيتريا قريبة، أقلب صفحات الموسوعة، وأتأمل الفارق بين الطبعة القديمة والطبعة الحالية، والفارق بين ثقافتي النقدية حين اشتريت الطبعة الأولى وثقافتي النقدية حاليا، فوجدت أن كل شيء تغير حولنا وداخلنا، ولا يزال يتغير في إيقاع نلهث كي نلاحقه، وحتى لا يفلت منا إيقاع العصر الذي يفرض علينا تغيير إدراكنا وطرائق تعرفنا ووسائل تعلمنا، وها نحن بعد كل هذه السنوات، ما زلنا نجري وراء المعرفة النقدية التي لا تكف عن التبدل، شأنها شأن العالم الذي نحياه، والذي تبدل فيه كل شيء وتحطمت فيه كل الحدود، وتحول إلى قرية كونية لا فاصل بين قاراتها، وإيقاع متسارع تصدق عليه عبارة ماركس التي تقول : " كل الأشياء الصلبة تذوب في الهواء".