هل كانت مصادفة أن يحصل روائي عربي على جائزة نوبل ولا ينالها شاعر أو كاتب مسرحي؟ هل هي مصادفة أن الشعر لم يعد فن العربية الأول وأن يتعثر فن المسرح، وأن يتصاعد فن الرواية ويتصدر المشهد الإبداعي العالمي؟. هل أصبحنا حقا نعيش عصر الرواية؟
وصف أحد النقاد الكبار الرواية الأوربية بأنها ملحمة الطبقة الوسطى (البرجوازية) التي تكشف عن ضياع الإنسان وغربته في المجتمع الحديث، فقد نشأت الرواية الأوربية عندما تحطم التكامل بين الإنسان وعالمه، وظهرت الحاجة إلى قصة يبحث بطلها المغترب عن عالم أكثر تكاملا، عالم تتحقق فيه رغباته. هذه النشأة جعلت الرواية الأوربية شكلا من أشكال المفارقة التي تتجسد في توتر المسافة الفاصلة بين الواقع الملموس والمثال الغائب، فما بين توتر هذه المسافة تولدت الرواية، وفي المفارقة التي تنتج عن التقابل بين النقائض تجسد الشكل الروائي صراعا بين أضداد وتعارضا بين رغبات، ومواجهة مستمرة لكل ما يفصم التكامل بين الإنسان وعالمه.
البحث عن هوية
ويمكن لنا، في تفكير مواز لهذا التفكير، ومغاير له في الوظيفة، أن نؤكد أن الرواية العربية هي ملحمة الطبقة الوسطى، ولكن في البحث عن هوية لها، داخل مجتمع ينقسم على نفسه، فيتمزق حاضره بين تقاليد ماضيه وآفاق مستقبله بالقدر الذي تتمزق به هوية هذا المجتمع بين تراثه الذي يشده إلى حلم مثالي عن عهد ذهبي للماضي وبين حضارة الآخر الأجنبي الذي يشده إلى حلم مثالي مناقض في وعد المستقبل. هذا البحث عن الهوية هو الذي جعل الرواية العربية تنطلق من مفارقة التغير التي تفصل الماضي عن الحاضر من ناحية، والحاضر عن تطلعات المستقبل من ناحية ثانية. وفي هذه المفارقة المزدوجة تقاطعت علاقات الذات القومية بتراثها (العربي) مع علاقتها بحاضر الآخر (الغربي) داخل فضاء الرواية العربية. ولذلك غدا كل تمزق بين أطراف الحاضر المتجهة نحو المستقبل وأطرافه المتجهة نحو الماضي، في هذا الفضاء، وجها مقابلأ للتمزق القائم بين "الأنا" القومية و "الآخر" الغربي، أعني النقيض الذي يخايل الأنا القومية بتفوقه التقني وتقدمه العلمي، ويؤكد اغترابها في عالمها، عندما تغدو علاقة التبعية التي تربطها به وجها آخر من علاقة الاتباع التي تربطها بتراث الماضي. ولأن الرواية العربية تولدت من هذه المفارقة المتعددة الأوجه فإنها حملت ملامحها، وأبقت على لوازمها، وحفظت ما ترتب عليها من تداخل النقائض وتجاور المتعارضات داخل النوع الأدبي الوليد، فاحتوى الشكل الأوربب الوافد الأشكال التراثية الأصيلة للقص بالقدر الذي تجاوزت في فضائه هذه الأشكال، واقترنت تقاليد الوصف الجديدة بتقاليد السرد القديمة، فأصبح النوع الأدي الوليد مزيجا من "الرواية" و "المقامة"، في سياق أنتج فيه محمد المويلحي (1868-1930) كتابه "حديث عيسى ابن هشام" (1905- 1906) حيث انبعث بطل المقامة القديم في إهاب عيسى بن هشام الجديد الذي يرقب تحولات مجتمع، يتدافع إيقاع التغيير فيه إلى الدرجة التي تفصم علاقته بجوانب أساسية من هويته التقليدية، وذلك بعيني أحمد باشا المنيكلي المنبعث من قبره ليعكس صدمة التغير في كل شيء، وفي مجتمع أصبح شرقيا غربيا وعربيا أجنبيا، لا مكان فيه للمنتمين إلى الماضي من أمثال المنيكلي المحكوم عليه سلفا بالعودة إلى قبره الذي انبعث منه، ولكن بعد أن تجسد استجابته المتعارضة والمتضادة ما ينطوي عليه إيقاع التغير من تحويل لهوية الحركة البشرية لأبناء المجتمع المتدافع إلى عالم جديد، بالمعنى الذي قصد إليه عيسى بن هشام حين قال ملخصا دلالة عصره المتحول:
"الناس اليوم في حركة لا شرقية ولا غربية، فقد اشتغل بعضهم ببعض، واكتفوا من دهرهم بحوادث يومهم، فتعطلت بينهم مجالس العلم، واندرست مجامع الأدب، واقتصروا على مطالعة أخبارهم في الجرائد والصحف دون الدفاتر والكتب. وأنى يكون لهم الاستقرار في المجالس، وهم لا يستقرون في مكان، ولا يهدءون من حركة، ولا ينفكون عن غدو ورواح، ولا ينتهون عن نقلة وسفر؟... وإنك لترى مثل هذا بينا في حديثهم، فهم لاينصتون إلى قصة متصلة، ولا يتبعون في الكلام قضية مرتبة، ولا يعجبهم منه إلا ما كان متقطعا مبتورا، أو مقتضبا مجذوما".
هذا الإيقاع المتسارع من التحولات التي يلفتنا إليها "حديث عيسى بن هشام" يومئ إلى تركيبته السياقية التي غدت تركيبة المجتمع المتغير معها تركيبة "حركة لا شرقية ولا غربية"، أو حركة يختلط فيها الشرق بالغرب، بها ينأى بالخليط الناتج عن التجانس مع أي طرف من الطرفين المتقابلين على حدة، وإن كان يجمع بينهما في إهابه الذي جمع بين القص الأوربي (الفرنسي) والسجع المملوكي في الرواية التي ترجمها رفاعة الطهطاوي (1801- 1873) بعنوان "وقائع الأفلاك في أخبار تليماك" (1867) بعدما يربو على ثلاثين عاما من إصدار "تخليص الإبريز في تلخيص باريز".
المزج بين الشرق والغرب
إن الحركة في هذا النوع من القص كله "حركة لا شرقية ولا غربية" لأنها حركة تمزج بين الشرق والغرب بما يعكر على هوية كل منهما على حدة، في مجتمع يحاول أن يتجاوز الاستقطاب بين نقيضين، في بحثه عن هويته الخاصة. ولذلك تظل ثنائيات الأنا/ الآخر، والماضي/ الحاضر، والشرق/ الغرب، والقديم/ الجديد، والأصيل/ الوافد ثنائيات حاسمة، فاعلة، في هذا القص، من حيث هي ثنائيات تعكس تناقضات اللحظة المتغيرة التي تولدت منها الرواية، والتي ظلت ملازمة لها في ملحمة بحثها عن الهوية المنقسمة ما بين ثنائيات متداخلة متصارعة.
ولقد كان الحضور القاهر لنقيض "الأنا"، أو "الآخر" الأوربي، والإعجاب بتقدمه هو الذي دفع النوع الوليد لفن الرواية إلى معالجة حالات التضاد الشعوري إزاءه؟ منذ أن كتب علي مبارك ما كتب في "علم الدين"، ومنذ أن أقسم عيسى بن هشام بالله وملائكته على جهل "أكثر مشايخنا" بآلات العلوم، مؤكدا "أنهم لا يزالون كالعهد بهم في معزل عن... العلوم النافعة والمخترعات المفيدة". وكان هذا الحضور نفسه المسئول عن التركيز على التاريخ العربي الإسلامي، بوصفه أصلا من أصول الهوية التي تبحث لنفسها عن صفة جديدة، في مواجهة مركب هذه الحركة التي لاهي شرقية أو غربية خالصة. ولقد تجلى هذا التركيز فيما كتبه جرجي زيدان بوجه خاص، منذ أن أصدر رواية "المملوك الشارد" عام 1891 إلى أن أصدر "شجرة الدر" عام 1914.
ويلفت الانتباه، دائما، في القص الذي يمثل نشأة الرواية العربية، الملامح التكوينية التي استمرت واتصلت، بوصفها ملامح تشكيلية لم تنقطع في مجرى تغير الرواية العربية إلى الآن، وظلت علامات حائزة للتحول والخصوصية. ولذلك تلفت الرواية العربية انتباه قارئها بتعارضاتها الثنائية التي تتقابل بها الأصالة والمعاصرة، والتضاد العاطفي إزاء ماضي "الأنا" وحاضر "الآخر" على السواء. هذه الثنائيات هي التي أرهفت نسيج الرواية العربية إزاء وقع التغير، على نحو يمكن معه القول إن الرواية العربية هي الفن الذي قام على اقتناص التغير، وتجسيده، وتحليل عناصره المتوترة، والعوامل المتضادة في لحظاته، والامتداد الأفقي "في قافلة الزمان" التي تتبدل برحلتها هذه اللحظات.
وإذا كان الشعر- كالقصة القصيرة- ابن اللحظات الآنية التي تومض كالبرق، فتقتنصها الصورة الشعرية لتديم حضورها، وتبسطها أمام العين كي تتأملها، فتأسرها القصيدة كأنها تأسر بوارق الحدس ولمعة الكشف، في العمق الرأسي لحضورآني، ما بين المبدع والمتلقي، فإن الرواية ابنة اللحظات المتعاقبة، كالنهر، حيث الامتداد الأفقي للمنظور، والمتابعة المتعافية- حتى لوتقطعت وتذبذبت- للتحولات، والحركة الصاعدة مع قوافل الزمان لا الومضة الواحدة من اللحظة. وإذا كان الشعر ابن اللحظات الحدية من التاريخ، حيث تنطوي اللحظة على شعور حدي بالأشياء والكائنات، في مواجهة حدية اللحظة الزمنية، فإن الرواية ابنة اللحظات الرمادية من التحول، حيث تتولد "حركة لا شرقية ولا غربية" تمزج النقائض، وتجاور بين الأضداد.
فن الرواية وفلسفة التغير
ولذلك كانت الرواية فن الطبقة التي تولدت من التغير، وفي فضاء المكان الذي كان ساحة لهذا التغير. بعبارة أخرى، كانت الرواية فن المدينة الحديثة التي تدخل عالم التصنيع، والتي تبدأ علاقاتها البشرية وعناصرها المكانية في التعقد، والتي تغدو ساحة يتولد فيها التغير الذي تتحرك آلياته داخل شبكة متصالبة من أدوات الإنتاج وعلاقاته وقواه على السواء. إنها الفن الذي تتقابل فيه الطبقات في فضاء المكان المديني تقابل الأحياء، وفي تعين الزمان الحديث تعين المفارقة، وفي مواجهة التغير الذي ينتجه الزمان والمكان ويعيد إنتاج الزمان والمكان في الوقت نفسه. وهي- بعد ذلك كله- فن المدينة الحديثة الأول، بامتياز، وذلك من الزاوية التي نعد بها المدينة الحديثة المجال الحيوي للطبقة الوسطى الفاعلة في المدينة والمتشكلة في علاقاتها، ومن الزاوية التي نعد بها الطبقة الوسطى المنتجة الأساسية لهذا الفن والمستهلكة له.
إن ارتباط الرواية العربية الحديثة بالمدينة هو ارتباطها بالفضاء الذي تولدت منه، وتشكلت به وظلت تحمل بصمات تحولاته وصراعاته في رحلتها الطويلة، منذ أن كتب محمد المويلحي عن تحولات أحمد باشا المنيكلي إزاء تحولات مدينته (القاهرة) في مطلع العقد الأول من هذا القرن إلى أن كتب إبراهيم أصلان عن تحولات يوسف النجار إزاء تحولات حيه القديم (إمبابة) في القاهرة القديمة- الجديدة في مطلع العقد التاسع من هذا القرن. هذا الارتباط تحمله عناوين الرواية العربية: أسماء للمدن والأزقة والحواري والدروب والشوارع والميادين والأحياء؟ وأسماء للمقاهي والبنسيونات والحانات والمتاجر والمصانع؟ وأسماء لدور العبادة ومعاهد العلم والسجون والمعتقلات؟ وأسماء للمصنوعات والأدوات والمعاملات.. إلخ، فتدل الرواية بعناوينها على خصوصية فضائها من ناحية، وعلى تحول هذا الفضاء وتغيراته من ناحية ثانية، وذلك ابتداء من تحولات (القاهرة) المدينة النهرية الكبيرة ما بين الأجيال التي تقابل الأزمنة المتعاقبة، لكل من أحياء "بين القصرين" و "قصر الشوق" و "السكرية"، حيث تقتنص ثلاثية نجيب محفوظ اللحظات الدالة على تغيرات الفضاء المكاني- الزماني للمدينة، وتحولات سكانها على المستويات الاجتماعية والسياسية والفكرية والشعورية والإبداعية، وما يرتبط بهذه التحولات من انتقال المركز من القاهرة (القديمة) إلى "القاهرة الجديدة" الماضية في طريقها بعيدا عن القاهرة المعزية.
تحولات المدن
والرحلة ما بين ثلاثية نجيب محفوظ إلى خماسية عبد الرحمن منيف "مدن الملح" هي الرحلة ما بين تحولات المدينة النهرية الكبيرة التي بدأ تاريخها- في الرواية- بالتمرد على الاستعمار القديم (الإنجليز) في ثورة 1919 إلى ولادة المدينة النفطية الجديدة في الصحراء، إيماء إلى انتقال يلوح في مركز الثقل من مدينة النهر إلى مدينة النفط، حيث التحولات المتشابكة التي تبدأ من "وادي العيون" وتصل ما بين "حران" و "موران" في حركة جديدة، هي حركة البشر الذين ينسرب إليهم الإيقاع المتسارع للتغير، فتتحول حياتهم جذريا فإذا بالجميع: "يركضون.. لا يعرفون إلى أين ولماذا؟"، إلى ان ينتهي الجزء الأخير من الخماسية بعبارة: "وبدأت موران تتنصت وتتلفت وتترقب.. من جديد"، كما لوء كانت موران التي ولدها التغير ترقب تغيرا قادما بوعود أخرى.
وحتى عندما تتباعد الرواية عن المدينة، وتجعل القرية فضاءها الجغرافي، فإن المدينة تظل منسربة في القرية، تقتحمها كما تقتحم "النداهة" قرى يوسف إدريس، وتجاورها كما يجاور المصنع "دومة ود حامد" في قرى الطيب صالح، فمواسم الهجرة إلى الشمال لا تقتصر على أن تصل المدينة العربية بالمدن الأوربية أو الأمريكية، في علاقات الرواية العربية، بل تصل القرية بالمدينة العربية ابتداء، في نسيج الرواية التي يرتحل أبطالها من القرية إلى المدينة، أو يحملون المدينة إلى القرية فتتحول القرية، بدورها، كما تحولت القرى، ابتداء من قرية عبد الرحمن الشرقاوي في روايته "الأرض" وانتهاء بقرية فكري الخولي في روايته "الرحلة". إن الرواية العربية، في واقع الأمر، لا تتناول القرية إلا بوصفها المعبر إلى المدينة، أو امتدادها، أو مجلى الأصداء التي تتردد بها "أصوات" المدينة، أو المفعول الذي يتعدى إليه فاعل المدينة.
ولكن في كل الأحوال يظل هاجس التغير هو الهاجس المسيطر إلى حد التهوس على الرواية العربية، فهو منبعها الذي تتدافع منه، ومحرقها الذي تتوهج به، ومصبها الذي تنتهي إليه، وهو- فضلا عن ذلك - السبب الذي يجعل هذه الرواية تتحرك خارج العوالم الداخلية للشخصيات أكثر من تقلبها بين أقاليم "الشعور" الذاتي أو دهاليز اللاشعور الفردي، فروايات من مثل "رامة والتنين" و "الزمن الآخر" هي الاستثناء لا القاعدة في تهوس الرواية العربية بالتغير الواقع خارج الأفراد. هذا التهوس يظل مقترنا بملحمة البحث عن هوية، سواء في حركة هذا البحث من القرية إلى المدينة، أو من المدينة العربية إلى المدينة الأجنبية وبالعكس، أو من المدينة العربية الفقيرة إلى المدينة العربية الغنية، أو في داخل المدينة العربية الواحدة، حيث يرتحل الأبطال ما بين أحياء المدينة وشوارعها ارتحالهم ما بين أقبية المساجد وساحات العلم وزنازين السجون والمعتقلات.
هل يمكن القول إن ذلك التهوس بالتغير، في علاقته بملحمة البحث عن الهوية، هو المسئول عن إيقاع التحول السريع (وليس التطور) في شكل الرواية العربية، سواء كنا نتحدث على مستوى الأفراد أو الجمع؟ إن الأمر يبدو كذلك، فملحمة البحث عن هوية الأبطال، وهوية الأمة، تشتبك ورحلة البحث عن هوية النوع الأدبي الذي يجسد هذا البحث ويتجسد به. ولذلك يبدو سؤال "الشكل" الخاص بالنوع، من حيث هويته، سؤالا لا يتوقف طرحه، ولا يتوقف تنوع الإجابة عنه واختلافها من مرحلة إلى أخرى، ومن كاتب إلى آخر، بل من رواية إلى رواية لاحقة داخل إنجاز الروائي الواحد. ويبدو الأمر كما لو كانت الرواية العربية التي هي الوسيلة الإبداعية لملحمة البحث عن هوية، هي- في الوقت نفسه- موضوعا لهذا البحث.
عناصر الرواية
هذا التهوس بالتغير في علاقته بالهوية، في النهاية، هو الذي يجعل الزمان والمكان عنصرين من أهم عناصر الرواية، لا من حيث هما الفضاء الذي تتحرك فيه الأحداث والشخصيات، ويتعقبه الوصف أو يتابعه السرد فحسب، بل من حيث هما المحمول والحامل، أو "الموضوع" الذي يتحول إلى عنصر بنائي، فالزمان والمكان هما "مفعول" الرواية الذي يتعدى إليه "فعلها" ليرصد تحولاته، وهما "الفاعل" الذي يمارس فعله في الرواية في الوقت نفسه. وذلك هو السبب الذي يجعلنا نتوقف- مثلا- إزاء "زقاق المدق" أو "ميرامار" أو "الكرنك"، كما نتوقف عند "مدن الملح" أو "البلدة الأخرى"، لنرقب بنية المكان من حيث هي موضوع للقص، ونرقبها وهي تتحول إلى فاعل في بناء القص نفسه، فنلاحظ الكيفية التي ينبني بها القص بهندسة المكان نفسه، فتتضام عناصره في علاقات موازية لعلاقات المكان، أو نلاحظ الكيفية التي ينغلق بها الفضاء الروائي كالسجن، أو التي يستدير معها كالدولاب أو التي يتذبذب بها كالبندول، أو التي يتقابل بها كما تتقابل الغرف المتقابلة، في بناء الرواية الذي يغدو بناء للمكان، فإذا هي هو، أو فإذا هو إياها.
ولكن المكان لا يقوم في فراغ، أو تجريد خالص، إنه مكان تتحدد تخومه بحركة الزمان، لأنه مكان يتغير دوما، متحول، حركة البشر فيه حركة يسقطها الزمان على المكان، ويتعامد بها المكان على الزمان في الوقت نفسه، ومن ثم يغدو الزمان لازمة للمكان، والعكس صحيح بالقدر نفسه. وبقدر ما تجمع ملحمة البحث عن هوية، ما بين قطبي المكان والزمان، في الرواية العربية، فإنها تؤكد زمانها الخاص الذي تسهم به في حركة الزمان الخارجي، من حيث هي أداة تلفت- العين التي تقرأ إلى اللحظات الدالة من تحولات المكان، وتستفز الوعي الخاص بالمتلقي كي يستجيب إلى التغير الذي تتجسد به وتجسده، فينتقل هذا الوعي من سلب الاستقبال إلى إيجاب الإسهام،، ويغدو القارئ فاعلا في تحولات الزمن الذي يعيشه.
ويبدو أن تحولات الزمن الذي نعيشه، منذ أن انكسر المشروع القومي في العام السابع والستين، وتمزق هذه التحولات بين نقائضها المتعددة المتكثرة، وما تفرضه من بحث مجدد عن الهوية الفردية والاجتماعية والإبداعية على السواء، وما يتطلبه هذا البحث من مراقبة متأنية في تأملها لعناصر اللحظة الرمادية التي نعيشها، يبدو أن ذلك كله هو ما يجعلنا نعيش ما يمكن أن نطلق عليه "عصر الرواية". لقد تغير التراتب التقليدي بين الأنواع الأدبية، انسحب الشعر من عرشه الذي ظل متربعا عليه طويلا، بوصفه سيد الأنواع الأدبية وتعدل التراتب لتصعد الرواية هذا الفن الجديد الذي كان محمد حسين هيكل (ابن الذوات المتعلم) يخجل من الانتساب إليه في أوائل العقد الثاني من هذا القرن.
تقدم فن الرواية
هل مصادفة أن يتعثر فن المسرح، فن جماعية الأداء وجمعية التلقي، بتعثر الديمقراطية وأزماتها في الوطن العربي؟ هل مصادفة أن فن الرواية يتصاعد موجه في العالم كله، ويتصدر المشهد الإبداعي العالمي، على نحو لم يحدث من قبل؟ إن الأمر لا يخضع للمصادفة، فأن ينال روائي مثل نجيب محفوظ جائزة نوبل للأدب يعكس احتفاء عالميا بوضع الرواية في عصرنا من ناحية، فأغلب من نال هذه الجائزة في العقود الأخيرة من كتاب الرواية؟ ويعكس الدور الوظيفي الذي تقوم به الرواية في المشهد الإبداعي العربي من ناحية ثانية، بكل ما تنطوي عليه أو تمثله من ملحمة البحث عن هوية، وما تجسده من إشكاليات التغير المرتبطة بهذا البحث أو الدافعة إليه.
إن الرواية هي النوع الأدبي السائد في عصر المفارقات، حيث المدن التي تكتظ بالسكان ولكن دون علاقات حميمة، تربط أحدا بأحد، فتبدو المفارقة فاقعة بين الكتل البشرية المتراصة في زحام الميادين والمصانع ووسائل النقل وأماكن السكن، ولكن لا أحد يعرف أحدا في هذا الزحام والاكتظاظ. وعالم الرواية هو عالم تحولات هذه الكتل في الزمان والمكان، حيث التجاور في الزمان والمكان الماديين والتباعد في مكان الشعور وأزمانه الداخلية، وحيث البشر الذين لا يشتركون في جمعية الأداء والتلقي للإبداع بل الذين يمارسون فردية التعبير والتلقي، البشر الذين لا يتنسمون حرية التواصل والحوار، فلا يعرفون فنهما المتميز- المسرح- بل يعرفون فن الكتل المنفصلة العناصر، المتجاورة الأفراد، أي الرواية، الفن الذي يصور جماعية الحركة ولكن يقوم على فردية التلقي، الفن الذي يصور ملحمة بحث الجماعة عن هوية، في "حركة لا شرقية ولا غربية"، ولكن من منظور الفرد الذي يسعى إلى فهم عصره بتحولاته المركبة.
وإذا كانت هذه التحولات المركبة هي التي تؤكد "عصر الرواية" فإنها هي التي تبرر ما حدث من تغير لافت في القراءة، واستقبال الأدب. حين استبدل جمهور القراء بالشعر "ديوان العرب" الرواية ملحمة العصر المتغير الإيقاع. وبقدر تقلص دائرة قراء الشعر انسربت صفة "الشعرية" من القصيدة إلى الرواية، لتؤكد إمكان ما تولده لغتها من ثراء في الدلالة، وإسهام في تجسيد خصوصية الفضاء الزماني المكاني الذي تتحرك فيه الأحداث والشخصيات. واقترن "عصر الرواية" بعصر الآلة، في شبكة أكثر تعقيدا من أدوات المعرفة وعلاقات الاتصال وتقنيات الإبداع التي ترصد لحظات التحول المتداخلة، الممتدة، الرمادية، وتصوغ دلالاتها المكثفة، فالرواية هي نغمة عصرنا المائزة وعلامته الإبداعية البارزة.