كتب هندي أحمر من قبيلة المايا يصف مأساة قومه "كان الخير عميما. بلا أمراض ولا خطايا ولا آثام. كنا جميعا نسير منتصبي القامة. ثم جاء الأسياد البيض إلى بلادنا فعلمونا الخوف وعوونا على الذل والنهب. ملوكهم مزيفون. طغاة على عروشهم. نهابون في النهار منتهكون في الليل، إنهم قتلة العالم. وهم بداية فقرنا. بداية الاتاوة والسلب والاستجداء والحرب التي لم تنته والعذاب السرمدي..". هذه المرثية الحزينة هي خير وصف لما أحدثته الكشوف الجغرافية التي قام بها الغرب ضد حضارات الآخرين.. فكيف كانت بداية المأساة؟..
دشنت مرحلة الكشوف الجغرافية التي تمت خلال القرن الخامس عشر فجر بزوغ النظام الرأسمالي وأفول شمس العصور الوسطى التي ساد فيها النظام الإقطاعي. ومنذ هذه المرحلة التي سجلت بداية التفوق الأوربي، سيلحق العالم الجديد الذي اكتشف في أمريكا وإفريقيا وآسيا بالنظام الرأسمالي العالمي ليكون ملحفا تابغا، وسيتم "تكييفه" من الآن فصاعدا لحاجة المراكز الرأسمالية الصناعية سواء في مجال التخصص وتقسيم العمل أو في مجال تصريف المنتجات واستثمار فوائض رءوس الأموال. ويعتقد عدد من الباحثين- وأنا من بينهم- أنه من الصعوبة بمكان أن نفهم الوضع الحالي المأزوم للبلاد النامية دون الرجوع إلى هذه كرحلة التي شكلت علامة فارقة في تاريخ هذه البلاد.
التخلف لم يكن قدرًا
فمن الثابت تاريخيا، أنه قبل بزوغ مرحلة الكشوف الجغرافية كان يوجد بالبلاد النامية مجتمعات على مستوى عال من المرونة والتنظيم والكفاية الاقتصادية، حيث عرفت هذه المجتمعات الزراعة المستقرة ذات المحاصيل المتنوعة والمعتمدة على نظم راقية في الري والصرف. وكان الكثير منها مكتفيا ذاتيا في مجال الغذاء، بل ويمتلك فوائض غذائية كانت تستخدم في تبادل منتجات المجتمعات المجاورة. وكان إنتاجها الصناعي أرقى بكثير من إنتاج الدول الأوربية. كما كانت بها أشكال متقدمة من التنظيم الاجتماعي لعلاقات الناس (التعاون، والتخصص وتقسيم العمل، وتنظيم التبادل وتوزيع الناتج، وتقاليد الحكم وفض المنازعات.. إلى أخره). أضف إلى ذلك، أن مجتمعات هذه البلاد قد عرفت الكثير من المكتشفات العلمية التي استخدمت في مجال التعدين وتشكيل المعادن والمصنوعات اليدوية. وما بالنا نذهب بعيدا والتاريخ ينهض شاهدا على أن عددا من هذه المجتمعات كان مهدا لحضارات إنسانية عظيمة.
أمم مكتفية وتجارة نشطة
ومهما يكن من أمر، فقد عرفت دولة القارة الأوربية درجة الثراء والتنوع في المنتجات التي كانت تتميز بها هذه البلاد- وخصوصا بلاد الشرق- عن طريق ما كتبه الرحالة ماركو بولو في القرن الثالث عشر عن رحلته الشهيرة للصين وعن طريق حركة التجارة في البحر المتوسط، التي نشأت بين بعض المدن التجارية الإيطالية، مثل جنوة والبندقية، والعالم الإسلامي خلال الفترة ما بين القرن العاشر والقرن الرابع عشر. وهي التجارة التي كان يسيطر عليها العرب في تلك الفترة بسبب ما تهيأ لهم من اكتفاء ذاتي وتنوع كبير في منتجاتهم الزراعية والحرفية وبسبب العلاقات التجارية الوثيقة التي كانت تربطهم بالدول الإفريقية وبعض مناطق آسيا (كالهند والصين وإندونيسيا) نتيجة لتطور فنون الملاحة العربية وسيطرة البحارة العرب على الطرق المائية وأعالي البحار. فالتاريخ يشير لنا، أن السفن العربية كانت تنطلق من منطقة الخليج العربي إلى السواحل الإفريقية وإلى جزر القمر ومدغشقر وهي محملة بالمنتجات العربية، كالأقمشة والسجاجيد والسلع الزراعية. وقد أقام التجار العرب محطات تجارية لهم داخل بعض المناطق الإفريقية، وازدهرت نتيجة لذلك بعض المدن، مثل ممباسا ومقدشيو وزنجبار وبراوه. وكانوا يحملون في طريق عودتهم صنوفا عديدة من السلع الإفريقية، مثل العاج والعنبر والريش والمنتجات الاستوائية، فضلا عن الرقيق الأسود. كما أن السفن العربية كانت تنطلق أيضا من سواحل الخليج العربي إلى الهند والصين وسيلان وإندونيسيا، وتعود وهي محملة بالتوابل والكافور والمسك والبخور والمنسوجات الحريرية.
وكان جانب كبير من المنتجات الإفريقية والآسيوية التي يجلبها التجار العرب يذهب إلى البلاد الأوربية وكان الذهب الذي يتسرب من العالم الإسلامي لتمويل شراء الواردات من البلاد الإفريقية والآسيوية يعوض بأكثر منه من خلال الذهب الذي كانت تدفعه أوربا لتمويل مشترياتها من العالم الإسلامي. وآنذاك كانت هناك ثلاثة طرق تجارية تسير فيها قوافل التجار إلى أوربا. أولها هو الطريق الذي ينساب من الأسواق الكبرى في إيران والعراق وأرمينيا ويتجه إلى بحر قزوين والأنهار الروسية ثم ينحرف بعد ذلك إلى الغرب الجرماني عن طريق بولندة وبحر الشمال. والطريق الثاني هو انتقال السلع إلى مصر، وعن طريق برزخ السويس كانت تصل القوافل إلى البحر المتوسط ثم إلى دول أوربا. أما الطريق الثالث فقد كان يتجه إلى شمال إفريقيا وصقلية والأندلس، ثم إلى إيطاليا وشمال إسبانيا وجنوب فرنسا وضفاف الراين. وقد تمتعت الإسكندرية وعكا وطرابلس وأنطاكية وكريت وقبرص وجنوة والبندقية بمكانة مهمة باعتبارها مراكز الاتصال بين الشرق والغرب.
وعلى أي حال، لقد سيطر تجار جنوة والبندقية، تقريبا، على تجارة المنتجات الشرقية، وبالذات التوابل، داخل دول القارة الأوربية. وحققوا نتيجة لذلك أرباحا طائلة، وهو الأمر الذي كان مزعجا لتجار المدن التجارية الأخرى، وعلى الأخص في البرتغال وإسبانيا وهولندا وإنجلترا وفرنسا.
المنطقة العربية كانت القلب
ومهما يكن من أمر، فقد سيطر العرب على التجارة العالمية في العصور الوسطى وحتى القرن الرابع عشر. بل يمكن القول، إن المنطقة العربية آنذاك كانت بمثابة القلب أو المركز للاقتصاد العالمي. ولا عجب في هذا. فقد كان الشطر الأكبر من ذهب العالم يتركز فيها بفضل ما تهيأ لها من فائض اقتصادي كبير، ومن سيطرة على أعالي البحار، ومن أرباح وثروات ضخمة من التجارة مع البلاد الإفريقية والآسيوية والأوربية. ناهيك عن المكوس المرتفعة التي كان العرب يفرضونها على حركة التجارة العابرة في أراضيهم. بل استطاع العرب آنذاك- من خلال ازدهار تجارتهم- أن يستردوا الذهب الذي كان قد سلبه منهم الرومان من قبل.
في ضوء ذلك كله لم يكن مجرد مصادفة، أن كان الدينار الذهبي الإسلامي (المعروف باسم- المنقوش) متداولأ في أسواق إفريقيا وبلاد أوربا. وكانت الأسعار تقدر به في إيطاليا وشمال إسبانيا وإنجلترا وألمانيا، لأنه كان بمثابة العملة الدولية. من هنا أعتقد، أن العالم الإسلامي في تلك الآونة كان يعيش في مرحلة مبكرة من الميركانتيلية (الرأسمالية التجارية) قبل أن تدخلها دول القارة الأوربية في مرحلة تالية. وكانت هذه هي أكبر فرصة تاريخية امتلكها العرب، وكانت كفيلة بأن تجعل المنطقة العربية من أسبق مناطق العالم في ظهور الثورة الصناعية لولا أن تلك الميركانتيلية قد أجهضت ولم تتطور إلى رأسمالية صناعية بسبب النظم الشمولية التي تفشت في المنطقة وحاربت أي تقدم فكري وعلمي وصناعي بخلاف التجارة.
أما في دول القارة الأوربية التي بيرتها سلع ومنتجات الشرق، فإن تجارتها الخارجية لم تكن في الواقع سوى تجارة استيراد فحسب. إذ لم يكن يوجد لديها سلع غالية أو منتجات خاصة اشتهرت بها لكي تقايض بها ما تستورده. ولهذا كان يتعين عليها أن تدفع بالذهب في مقابل مشترياتها من سلع الشرق الغالية كالأقمشة والتوابل. ولهذ (يعتقد العلامة التاريخي لويس لومبار، أن دول القارة الأوربية كانت في الواقع " مجرد منجم للذهب يستغله أهل الشرق حتى ينضب ". وبالفعل، نجد أنة مع استمرار تجارة الاستيراد وجمود النشاط الاقتصادي في أوربا في العصور الوسطى تسرب الذهب الأوربى إلى العالم الإسلامي. ومع قلة الذهب وانعدام مصادر إنتاجه قلت تجارة الواردات وضعفت مع بلاد الشرق، وأصبح التعامل في أوربا يتم بالفضة وتشكل هذه الحقائق في الدراسات التاريخية ما عرف "بمشكلة الذهب في العصر الوسيط".
عطش أوربي للنقود
وتعاصر ظهور مشكلة الذهب في دول القارة الأوربية في القرن الخامس عشر بدخول النظام الإقطاعي في أوربا مرحلة تفسخه وانحلاله. وهنالك تبدأ بذور نظام اجتماعي جديد في الظهور، وهو نظام الرأسمالية التجارية الذي سيشكل منذ هذه اللحظة بداية التفوق الغربي لمراحل التطور التالية. فمع اشتداد الظلم الإقطاعي تفتتت الجماعات القروية، وانخفض عدد سكان الريف، وتفشت الأمراض بينهم، وتراجع حجم الإنتاج الزراعي، وتزايدت حاجة الأمراء والنبلاء والإقطاعيين للنقود لشراء المزيد من السلع الترفيهية والمنتجات الحرفية ولتمويل الحروب. وتحت ضغط الحاجة للنقود، اضطر رجال الإقطاع لتحرير الأقنان وتحويل الريع من شكله العيني (السخرة والتسليم الإجباري لفائض الإنتاج) إلى شكله النقدي (الإيجار).
وواكب ذلك، ضعف سلطة رجال الإقطاع والكنيسة أمام الدور المتعاظم الذي أصبح يلعبه أثرياء التجار الذين حققوا من تجارتهم ثروات هائلة. كما برزت ظاهرة إقراض المال مقابل الفائدة، وهي الظاهرة التي كانت تحاربها الكنيسة في العصور الوسطى باعتبارها أمرا منافيا للدين المسيحي. وتولى التجار والصيارفة اليهود في بادئ الأمر عمليات الاتجار في النقود لمواجهة ظاهرة "التعطش للنقود".
ورويدا رويدا يبدأ شعاع فجر عصر النهضة والتنوير في البزوغ، وهو العصر الذي سيبدأ من الآن فصاعدا في الثورة على جمود العصور الوسطى والدعوة لتقديس العقل وحرية الفكر والإبداع واحترام حقوق الفرد الطبيعية، والإيمان بقدرته على التغيير. كان الواضح أن البورجوازية الجديدة وهي تشق طريقها صعدا تريد نوعا من المعرفة الجديدة عن أسرار المادة والكون لتمكين الإنسان من السيطرة على الطبيعة. فأخذت تميل لتشجيع حرية الفكر والبحث العلمي والاكتشافات الجديدة، وتتحمس لسلطة العقل والتجريب، خاصة أنها توقعت أن ذلك كله يمكن، في النهاية، أن يزيد من أرباحها. وعندئذ حدثت على المستوى التكنولوجي تطورات مهمة. فتقدمت صناعة المعادن وبناء السفن وأدوات الإنتاج المستخدمة في الصناعات الحرفية. وزادت المعرفة بأحوال الفلك وعلوم البحار، واكتشفت البوصلة والتلسكوب، وتقدم علم الجغرافيا، وزادت المعارف حول الطرق المائية. وقبل هذا وذاك حدث تقدم باهر في صناعة البارود والأسلحة، وهو الأمر الذي سيلعب دوراً مهما في السيطرة على العالم الجديد المكتشف ويثبت فيه الأوربي تفوقه، ويحقق فيه وسيلة قهرة للآخرين في عصر الكشوف الجغرافبة.
من أجل الذهب وسلع الشرق
كان الدافع وراء هذه الكشوف عاملين جوهريين. أولهما هو البحث عن الذهب ومنابع إنتاجه وراء البحار، وثانيهما هو الوصول مباشرة إلى مناطق سلع الشرق لكسر احتكار العرب لطرق التجارة.
وآنئذ انطلقت السفن البحرية المجهزة بالمدافع والبارود وهي تحمل جحافل التجار والقراصنة والملاحين والرجال الأشداء المتمرسين بالمعارك وبأمور البلطجة. وكانت إسبانيا أول دولة تدشن- عن جدارة - هذه المرحلة. ففي الثالث من أغسطس 1492 أبحر الملاح الشهير كريستوفر كولمبس بثلاث سفن تحمل أعلام إسبانيا، محاولا في ذلك الوصول إلى الهند والصين، ولكن عن طريق الغرب، بعد أن ساد الاعتقاد بأن الأرض كروية. وكان على ظهر هذه السفن 120 رجلا وقدر كبير من الزاد والمؤن. وقد حصل كولومبس على. هذه السفن وعلى تمويل رحلته من الملك فرديناندو ملك إسبانيا وزوجته الملكة إيزابيلا بعد أن فشل في إقناع ملوك البرتغال وفرنسا وبريطانيا بمشروع رحلته وتمويلها. واستغرقت الرحلة 33 يوما، خاض فيها كولومبس ورجاله بحاراً لم تكن قد عرفت بعد، ودون خبرة عملية سابقة، ومستعينا في ذلك بخرائط الرسام الطب توسكانيللي. وأخيراً لاحت أمام كولمبس اليابسة واعتقد في بادئ الأمر أنها الهند، ولكنها في الحقيقة كانت جزر الهند الغربية (جزر البهاما). ومنذ الأيام الأولى لهبوط كولمبس على أرض هذا العالم الجديد، لاحظ مدى ثراء هذه المنطقة وتنوع منتجاتها الاستوائية وجمال نباتاتها وغناها بالمعادن النفيسة (الذهب والفضة). كما لاحظ أن سكانها الهنود الحمر يعيشون في حالة طيبة وفي صحة جيدة وفي وئام مع الطبيعة الرغدة، حيث يزرعون ويأكلون دون صراعات، ويقضون أوقات فراغهم في الرقص والغناء وممارسة الحب. كما بهرته مدى دقة طرقاتهم ومنازلهم ومعابدهم.
كنوز للنهب
وقد تكررت رحلة كولمبس إلى هذا العالم الجديد ثلاث مرات، كان كل مرة يعود فيها إلى إسبانيا محملا بألوان عديدة من المنتجات الزراعية والتحف والذهب وبعض الهنود الحمر. وأهملت فكرة الذهاب إلى الهند، حيث اتضح أن بهذا العالم الجديد كنوزأ هائلة ومغانم ضخمة تغري على النهب والسلب. وسرعان ما دخلت البرتغال الساحة، فأرسل الملك جون الثاني بعثة بحرية، ووصلت إلى شواطئ البرازيل، وقررت تبعية هذا الجزء لملك البرتغال. كما أرسل فيما بعد أمريجو فسبوتشي (الذي تسمت أمريكا باسمه فيما بعد). وعندئذ نشأ صراع سياسي وخلاف حاد بين الإسبان والبرتغال، وهو الخلاف الذي سيحسم فيما بعد بإعلان أول تقسيم استعماري للعالم ويباركه البابا إسكندر السادس. حيث عقدت اتفاقية نوردسيلاس NORDESILLAS في شهر يونيو 1494 بين ملك البرتغال وملك إسبانيا. وفيها تم رسم خط وهمي بين القطبين على بعد 1110 أميال غربي جزائر آزورس، وبحيث يكون ما يقع شرقه للبرتغال وما يقع غربه لإسبانيا. ثم اشتد الصراع الضاري بعد ذلك بين المكتشفين، حيث ما لبثت بريطانيا وفرنسا أن أرسلت حملاتهما للاستئثار بجزء من مغانم هذا العالم الجديد، خاصة بعد أن لاحظ البريطانيون والفرنسيون السفن الإسبانية وهي تعود محملة بكنوز هائلة من منهوبات هذا العالم.
ونعود الآن إلى ما فعله الإسبان في أمريكا الجنوبية، وكيف أدت ممارساتهم الوحشية والمرعبة إلى تدمير حضارة الآزتيك والأنكا والمايا، وإلى إبادة سكان هذه الحضارات ونهب ما كانوا يملكونه من معادن نفيسة. على أنه تجدر الإشارة هنا، إلى أنه حينما تعامل كولومبس ورجاله، في بادئ الأمر، مع الهنود الحمر، وجدوا فيهم مسالمة وسماحة وطيبة لا عهد لهم بها في أوربا. وكتب يقول عنهم في يومياته بتاريخ 16/ 12/ 1492: "إنهم أفضل أناس في العالم، كما أنهم أكثر مسالمة". بل إنهم من فرط مودتهم "تخال أنهم سيسلمونك قلوبهم.. ". ويصور مدى سذاجتهم وطيبتهم حينما يذكر في يومياته بتاريخ 13 / 12 / 1492 : "أن كل ما لديهم يعطونه في مقابل أي شيء تافه تقدمه لهم، بحيث إنهم يأخذون في مقابل ما يعطون كسرا من الأواني وكسرا من الأقداح الزجاجية".
وداعة القدامى ووحشية المحدثين
وفي ضوء هذه الوداعة التي اتسم بها الهنود الحمر، مضى الإسبان بشكل وحشي في استغلالهم وإخضاعهم لسيطرتهم، خاصة أن الأسلحة التي كان بستخدمها الهنود الحمر لم تكن تتعدى مجرد السهام البسيطة، التي لم تصمد، بطبيعة الحال، أمام جبروت المدافع والبنادق التي أتى بها الإسبان. وعن مدى ضعفهم كتب كولومبس يقول لملك إسبانيا وزوجته (بتاريخ 14/ 10/ 1492): "عن طريق خمسين رجلاً، سوف يتسنى لسموكما إخضاعهم كلهم وعمل كل ما تريدانه منهم". وبالفعل تشير حقائق التاريخ، إلى أن الجنرال الإسبانى كورتس استطاع أن يكتسح إمبراطورية الآزتيك الضخمة في المكسيك في مارس 1519 بقوة لا تتعدى 600 رجل و 13 بندقية و 16 حصانا، وأن يهزم عشرات الملايين من مواطني هذه الإمبراطورية. والشيء نفسه نلاحظه أيضا في القضاء على إمبراطورية الأنكا التي تم إخضاعها (عن طريق فرانسيسكو بيزارو) بقوة لا تتعدى 180 رجلا ومدفعين و 27 حصانا لا غير.
ومنذ السنين الأولى، صمم الغزاة الإسبان والبرتغال على نهب كميات هائلة من الذهب والفضة التي كانت تزخر بها هذه البلاد الآمنة. ولجأوا في بادئ الأمر إلى خطف ونهب سائر أشكال الحلي التي كان يتزين بها الهنود الحمر. ثم لجأوا إلى الهجوم على معابدهم الجميلة وسرقة ما كان بها من كنوز وتحف ذهبية وتدميرها بعد ذلك بوحشية مرعبة. ونفذوا في ذلك مذابح همجية، تتواضع أمامها بخجل وسائل النازي حيث كان القتل والحرق وتقطيع أجساد الرجال وذبح الأطفال وتقطيع أثداء السيدات من المعالم الدامية لترويع الهنود الحمر عند نهبهم. ومع نشوة نهب الذهب بهذه الوسائل الوحشية كتب كولومبس في رسالة بعث بها من جاميكا عام 1503 يقول: "إن الذهب شيء ساحر.. ومن يمتلكه فقد امتلك كل شيء بل يستطيع المرء بالذهب إدخال الأرواح الجنة".
إلى الذهب فوق الجثث
وعندما جفت إمكانات نهب الذهب الموجود لدى الهنود الحمر وفي معابدهم، راح الغزاة يبحثون بشراهة عن منابع إنتاج الذهب. وعمدوا في ذلك إلى تسخير الهنود الحمر في تنقية الطمي الذهبي واستخراج ذرات الذهب الدقيقة منه. ولجأوا في ذلك إلى طرق جهنمية، منها، كما يقول المؤرخ ك. س. ستافريانوس: "إن كولومبس فرض على كل هندي في الرابعة عشرة من عمره أو أكثر أن يجلب إلى حصونه مرة كل ثلاثة أشهر مقدارا معينا من مسحوق الذهب. وصنع ميداليات نحاسية لتعطى إلى أي هندي أو هندية عندما يسلمون إتاواتهم لتعليقها حول رقابهم بعد دمغها باسم الشهر الذي جرى فيه تسليم الإتاوة. وبتلك الميداليات كانوا يصبحون في وضع أمين طيلة ثلاثة أشهر أخرى لجمع المزيد من الذهب. ومن كان يضبط منهم بدون هذه الميدالية فإن نصيبه الموت بقطع يديه ذكرا كان أم أنثى". وكان الهنود يعملون طوال اليوم في الجداول لتنظيف مسحوق الذهب في ظروف قاسية، دفعت بالكثير منهم إلى الانتحار، خلاصا من هذا العذاب.
وحينما نضبت الجداول من الطمي الذهبي، لم تكن شهية الغزاة للغنائم قد أشبعت بعد. فراحوا يبحثون عن المناطق التي توجد فيها مناجم الذهب والفضة وعثروا عليها في المكسيك وألبيرو والبرازيل وشيلي ونيوجرينادا. وقد تميزت الفترة ما بين 1600- 1800 بالنهب الوحشي لهذه المناجم وبأحط أساليب الاستغلال والقهر للهنود الحمر الذين سخروا للعمل في تلك المناجم. وكان استخدام تقنية الألغام من الوسائل الحديثة آنذاك للوصول إلى أعماق تلك المناجم. وقد مات عدد ضخم من الهنود الحمر في هذه المناجم في أسوأ ظروف يمكن أن يعرفها عنصر العمل البشري.
كانت مناجم الذهب والفضة تبعد عدة أميال عن أماكن معيشة الهنود الحمر. ولهذا كانوا يجبرون على السير في شكل قوافل بشرية تتراوح ما بين خمسة وسبعة آلاف نسمة للاتجاه نحو هذه المناجم. وكانت قوافل الهنود المكونة من الرجال والأطفال والنساء والمواشي المحملة بأغذيتهم تقطع هذه الأميال سيرا على الأقدام.
ويتعرض الكثير منهم للموت قبل الوصول إلى المناجم. وهي رحلة كانت تستغرق في المتوسط شهرين. وفضلا عن ذلك فإنهم بعد عودتهم من العمل الشاق في المناجم كانوا يقطعون رحلة العودة في ظروف أسوأ، بسبب ما كان ينقصهم من طعام وشراب، وبسبب الإرهاق الشديد البادي على وجوههم وأجسامهم النحيلة من جراء العمل العبودي في تلك المناجم. ولهذا كان الكثير منهم يموتون وهم في طريق العودة لمنازلهم. ويصف الكاتب تزفيتان تودروف طريق العودة المأساوي قائلأ: ".. وعلى بعد نصف فرسخ (من هذه المناجم) وعلى امتداد جزء كبير من الطريق كان من العسير تجنب السير على الجثث أو الهياكل العظمية، وكانت أسراب الطيور والغربان التي كانت تجيء لنهش هذه الجثث من الكثرة بحيث إنها كانت تحجب الشمس، الأمر الذي أدى إلى إفقار الكثير من القرى من البشر، سواء أكان ذلك على طول الطريق أم في المناطق المجاورة ".
وحوش تعشق الذهب
أما عن ظروف العمل نفسها في المناجم السحيقة فكانت أشد رعبا ووحشية حيث استنزفت عمليات التعدين معظم الهنود الحمر، وأبادت الكثير منهم في المكسيك وألبيرو وغيرهما من المناطق. ويقول الكاتب ك. س. ستافريانوس، وهو يصف عذاب الهنود في أثناء العمل بتلك المناجم قاثلأ: ".. كان العمل مضنيا جدا طيلة ستة أشهر، أربعة منها داخل المناجم، حيث يدوم العمل اثنتي عشرة ساعة يوميا، وعلى عمق أربعمائة وعشرين قدما، وفي بعض الأحيان، سبعمائة، حيث الظلمة سرمدية والواجب يقضي بالعمل على نور الشموع، والهواء فاسد والرائحة نتنة، لأنهما محصوران في أعماق الأرض. وأما النزول والصعود فهما من أشد الأمور خطرا، لأن الهنود كانوا يصعدون وهم يحملون الأكياس الصغيرة المليئة بالمعدن مربوطة على ظهورهم. ورحلة الصعود تستغرق منهم 4- 5 ساعات كاملة، ويصعدونها درجة درجة، وأية زلة قدم منهم تجعلهم يسقطون إلى عمق سبعمائة قدم. ولدى وصولهم فوهة المنجم وهم يلهثون تعبا، يجدون بلاءهم في صاحب المنجم الذي يوبخهم لتباطئهم لقلة أعمالهم، ويجبرهم على النزول ثانية إلى المنجم لأتفه الأسباب".
عذابات الهنود الحمر
ولم يقتصر عذاب الهنود الحمر على العمل الشاق والمميت داخل الأغوار السحيقة لمناجم الذهب والفضة فحسب، بل رافق ذلك أيضا عذاب أقسى وأفظع، وهو العذاب النفسي، والنيل من كرامتهم واستباحة نسائهم بشكل حيواني. وإليك الآن صورة فظة لمدى وحشية ملاحظي عمال المناجم في معاملتهم للهنود، كما كتبها تزفيتان تودروف: "لقد اعتاد كل منهم (ملاحظي عمال المناجم) على مضاجعة الهنديات اللاتي يتبعنه إن رقن له، سواء كن متزوجات أم عذارى. وبينما كان ملاحظ العمال يمكث في الكوخ أو الخص مع الهندية، كان يرسل الزوج لاستخراج الذهب من المناجم. وفي المساء عندما كان المسكين يعود، لم يكن يوسعه ضربا أو يجلده فحسب، لأنه لم يحضر الكثير من الذهب، بل إنه كان، في أغلب الحالات، يقيده أيضا من رجليه ويديه ويلقيه تحت السرير ككلب، قبل أن يرقد، فوقه تماما، مع زوجته".
أكبر عملية سرقة في التاريخ الإنساني
هذه هي بعض ملامح الإطار الدامي والوحشي الذي تمت فيه عملية نهب الذهب والفضة من أمريكا الجنوبية والوسطى بعد نجاح حركة الكشوف الجغرافية. وهي تمثل في الحقيقة أكبر عملية سرقة في التاريخ الإنساني. وكانت تمثل أحد المعالم الأساسية لبزوغ فجر النظام الرأسمالي. وقد حفلت كتب التاريخ بحقائق وأحداث أفظع مما أوردناه سابقا.
ومهما يكن من أمر، فقد استطاع الغزاة الأوربيون أن يحققوا حلم الوصول إلى منابع إنتاج الذهب والفضة وأن يعوضوا كميات الذهب التي انسابت منهم إلى بلاد الشرق في العصور الوسطى إبان حركة التجارة اللامتكافئة التي قامت بينهم وبين الوسطاء العرب. وتشير بعض التقديرات، إلى أن كميات الذهب التي نهبها الأوربيون خلال الفترة من. 1500- 1800 من الهند الغربية والمكسيك وألبيرو ونيوجرينادا وشيلي والبرازيل قد بلغت 6228 مليون مارك ذهبي حسب تقدير الاقتصادي الألماني أرنست كيمل، بالإضافة إلى 810 ملايين مارك ذهبي تمثل قيمة المنهوبات الذهبية من إفريقيا، فضلا عن 700 مليون مارك ذهبي نهبت من آسيا. بينما تذهب تقديرات أخرى إلى القول، بأنه خلال الفترة من 1500- 1800 كانت دول القارة الأوربية تملك رصيدا من الذهب يقدر بحوالي 10,4 بليون مارك ذهبي، بينما كانت كمية الذهب الموجودة في أوربا أصلاً في نهاية القرن الخامس عشر تساوي تقريبا بليون مارك ذهبي. وهذا يعني أن حوالي 90% من ذهب أوربا قد انساب إليها من المستعمرات الجديدة وراء البحار من خلال عمليات النهب الشديدة لهذا المعدن النفيس (انظر الجدول رقم 1).
أما فيما يتعلق بالفضة المنهوبة، وخاصة من دول أمريكا الجنوبية، بعد نجاح حركة الكشوف الجغرافية، فيقدرها البعض بحوالي 8272,24 مليون مارك ذهبي خلال الفترة 1522- 1800.
وسرعان ما انسابت كميات الذهب والفضة المنهوبة إلى دول القارة الأوربية، وهي الكميات التي سيؤسس عليها نظام قاعدة الذهب GOLD STANDARD في مرحلة الثورة الصناعية والتوسع الرأسمالي العالمي في القرن التاسع عشر. فقد استخدم الشطر الأعظم من تلك المعادن في سك العملات، ليدخل دائرة التداول النقدي وليشكل فيما بعد أحد المصادر المهمة للتراكم البدائي لرأس المال الصناعي إبان الثورة الصناعية. وهي الثورة التي ستغير وجه أوربا وتزيدها قوة إزاء العالم الآخر الذي أصبح يخضع من الآن فصاعدا لمطالب تراكم رأس المال في المراكز الصناعية.
وخلاصة القول أنه بينما كانت الكشوف الجغرافية هي بداية التفوق الأوربي، فإنها في الوقت نفسه كانت نهاية لحضارات ومجتمعات مستقرة ومنعزلة. وقد انطوت هذه الكشوف على تصادم حضاري، لعبت فيه القوة والتوحش والقرصنة وأعمال السلب والنهب أدواراً بارزة في القضاء على هذه الحضارات وإضعاف شعوبها، وإفساد أنماط حياتهم، وإخضاعهم بالقسر لعمليات استغلال لا رحمة فيها، مما أدى إلى فناء وتدمير كثير من سكانها.