كتب ماركيز الكثير عن الشخصيات التي قابلها, من رؤساء وملوك وكتاب وفنانين. كان قلمه الرهيف يرصد أدق ملامحهم وينفذ ببساطة إلى داخل ذواتهم الخفية وهذا مافعله مع الزعيم الكوبي فيدل كاسترو.
قال فيدل كاسترو في معرض الحديث عن زائر أجنبي كان قد اصطحبه في جولة في أرجاء كوبا استغرقت أسبوعاً: (ما أعظم قدرة هذا الرجل على الحديث. إنه يفوقني في ذلك)!
يكفي للمرء أن يكون على معرفة بسيطة فحسب بفيدل كاسترو لكي يدرك أن هذا القول يتضمن مبالغة, مبالغة كبرى, لأنه من المستحيل العثور على أي شخص أكثر إدماناً منه على عادة مد جسور الحديث.
يكاد إخلاص كاسترو للكلمة أن يكون سحرياً. ففي بداية الثورة, ولم يكن قد انقضى إلا بالكاد أسبوع على دخوله المظفر إلى هافانا, حتى تحدث عبر التلفزيون على امتداد سبع ساعات بلا توقف. ولابد أن ذلك كان تسجيلاً لرقم قياسي عالمي. وخلال الساعات القليلة الأولى جلس أبناء هافانا, الذين لم يكونوا قد ألفوا بعد قوة صوته الموحية بتأثير التنويم المغناطيسي, ليصغوا إليه بالطريقة التقليدية. ولكنهم مع مرور الوقت عادوا إلى روتينهم اليومي, مانحين أذناً لشئونهم وأخرى للخطاب.
فيدل كاسترو: هو ابن أحد ملاك مزارع قصب السكر الكوبيين. حاول, من دون أن يكلل بالنجاح, الإطاحة بحكم الجنرال فولجنسيو باتيستا في 26 يوليو 1953, الأمر الذي أسفر عن إيداعه السجن لمدة عامين. ولدى إطلاق سراحه توجه إلى المكسيك للتخطيط للقيام بغزو كوبا, وفي 2 ديسمبر 1956 بدأ حملة حرب عصابات أسقطت حكم باتيستا بالفعل.
شغل منصبي رئيس كوبا ورئيس وزرائها منذ 1959. لفت أمران نظر من استمعوا لفيدل كاسترو للمرة الأولى, الأمر الأول هو قدرته الرهيبة على استقطاب مستمعيه, والآخر هو هشاشة صوته, فهو صوت مبحوح, ينحسر في بعض الأوقات, ليغدو همساً لاهثاً. وقد خلص أحد الأطباء, لدى سماعه ذلك الصوت المبحوح, إلى أنه حتى من دون الخطب الماراثونية, التي بدا أنها تتدفق ممتدة مثل نهر الأمازون, فإن من المقدر لفيدل كاسترو أن يفقد صوته في غضون خمس سنوات.
وعقب فترة قصيرة, وعلى وجه التحديد في أغسطس 1962, بدا أن هذا التشخيص قد تلقى أول تأكيد مثير للانزعاج له عندما احتبس صوته بعد إلقائه لخطاب أعلن فيه تأميم الشركات الأمريكية. لكن تلك كانت نكسة مؤقتة لم تتكرر. وقد انقضى ستة وعشرون عاماً منذ ذلك الحين. وتجاوز فيدل كاسترو عامه الستين, ولايزال صوته يتردد كعهده بين القوة والضعف, ولكنه يظل أداته الأكثر نفعاً واستعصاء على المقاومة في المهنة الدقيقة المتمثلة في الكلمة المنطوقة..
قال كاسترو منذ وقت طويل: (تعلم الراحة أمر مهم تماماً كتعلم العمل). ولكن طرقه في نيل قسط من الراحة تبدو أصيلة للغاية, وهي فيما يبدو لا تستبعد الحوار. فذات مرة ترك جلسة عمل محتدمة قرابة منتصف الليل, بمؤشرات ظاهرة للعيان دالة على الانهاك, وعاد في ساعات ما قبل الفجر مستعيداً نشاطه تماماً بعد السباحة لمدة ساعتين.
لا تتفق الحفلات الخاصة مع شخصيته, حيث إنه واحد من الكوبيين النادرين الذين لا يغنون ولا يرقصون, والحفلات القليلة للغاية التي يشهدها تتغير طبيعتها لحظة وصوله إليها. وربما لا يدرك جلية الأمر, قد لا يعي القوة التي يفرضها حضوره, وهو حضور يبدو بصورة فورية أنه يملأ المجال كله, وذلك على الرغم من أنه ليس طويل القامة ولا ممتلئاً على نحو ما يبدو من النظرة الأولى. ولقد رأيت أكثر الناس ثقة بأنفسهم يفقدون رباطة جأشهم وهم بصحبته, وذلك من خلال استنباطهم الوسائل للظهور بمظهر متماسك أو اتخاذ مظهر مبالغ فيه يوحي بالثقة, من دون أن يتصوروا أنه على القدر نفسه من الخشية مثلهم تماما, وأنه مضطر لبذل الجهد الأولي حتى لا يلحظ أحد ذلك. وقد اعتقدت دائماً أن صيغة الجمع التي يستخدمها غالباً لدى الحديث عن أعماله ليست موحية بالتفخيم على نحو ما تبدو, وإنما هي بالأحرى وسيلة شعرية يستخدمها لإخفاء حيائه وخجله.
من المحتم أن تتم مقاطعة الرقص, وأن تتوقف الموسيقى, ويؤجل العشاء, ويلتف الجمع حوله للمشاركة في الحوار الذي يبدأ في التو, وبمقدوره أن يظل على ذلك النحو على امتداد أي وقت يخطر على البال, واقفاً من دون أن يشرب شيئاً أو يتناول أي طعام. وفي بعض الأحيان, قبل أن يأوي إلى فراشه, يطرق باب صديق مقرب, في وقت متأخر للغاية, حيث يطل من دون سابق إخطار, ويقول إنه سيمكث خمس دقائق فحسب. يقول ذلك بإخلاص بالغ بحيث إنه لا يجلس, وشيئاً فشيئاً يثيره الحوار الجديد, وبعد فترة يتهالك على مقعد مثير, ويمد ساقيه قائلاً: (إنني أحس بأنني إنسان جديد).
هكذا يمضي الأمر, فحينما يصيبه الإنهاك من الحديث يرتاح من خلال الحديث..
يمكن لهذا أن يفسر ثقته المطلقة بالاتصال المباشر, فحتى أكثر الخطب صعوبة يمكن أن تبدو كالأحاديث العابرة, كتلك الأحاديث التي أجراها مع الطلاب في أفنية الجامعة في بداية الثورة. وفي حقيقة الأمر, وبصفة خاصة خارج هافانا, ليس من غير المألوف أن يخاطبه أحدهم رافعاً عقيرته من قلب الجمع في اجتماع عام, ويبدأ حوار عبر الهتاف بصوت عال. ولديه أسلوب لكل مناسبة, وصيغة مختلفة للإقناع اعتماداً على محاوريه المختلفين, سواء أكانوا عمالاً, مزارعين, طلاباً, علماء, سياسيين, كتاباً أو زواراً أجانب. وبمقدوره الوصول إلى كل منهم ومخاطبته على مستواه بمعلومات غزيرة ومنوعة تتيح له التحرك في سهولة عبر أي وسيلة للخطاب. ولكن شخصيته من التركيب والاستعصاء على التنبؤ بحيث إن أي شخص من محاوريه يمكنه تكوين انطباع عنه مختلف عن غيره خلال اللقاء ذاته.
ثمة أمر واحد مؤكد, وهو أنه حيثما كان فيدل كاسترو, وعلى أي نحو كان, ومع أي شخص كان, فإنه هناك لكي ينعقد له لواء الفوز. ولست أحسب أن هناك أي شخص في هذا العالم يمكن أن يكون خاسراً أسوأ منه. فموقفه في مواجهة الهزيمة, حتى في أبسط وقائع الحياة اليومية, يبدو متمثلاً في إطاعة منطق خاص, وهذا المنطق قوامه أنه لن يسمح أبداً بالهزيمة, ولن يقر له قرار إلا بعد أن يقلب الأوضاع ويحوّل الهزيمة إلى انتصار, ولكن أياً كان الأمر, وحيثما كان, فإن كل شيء يقع في نطاق حديث لا ينفد.
يمكن لموضوع الحديث أن يكون أي شيء, بحسب اهتمام الجمهور, ولكن غالباً ما يحدث العكس, عندما يكون هو المبادر بطرح حديث واحد على جمهوره كله. ويميل هذا إلى الحدوث خلال الفترات التي يستكشف فيها آفاق فكرة تؤرقه, وما من أحد يمكن أن يكون أكثر استحواذاً وإصراراً منه عندما ينطلق نحو الوصول إلى غور شيء ما. وليس هناك مشروع لا يأخذه على عاتقه, مهما كان هائلاً أو متواضعاً, بحرص عارم خاصة إذا كان يواجه معارضة أو خصومة. هو لا يبدو في أي وقت آخر أفضل مما يبدو عليه في مثل هذه الأوقات, حيث يبدو في حالة مزاجية طيبة, وبروح معنوية عالية. وقد عقَّب شخص يعتقد أنه يعرفه ذات مرة بقوله: (لابد أن الأمور تجري على نحو سيئ للغاية لأنك تبدو متألقاً).
قارئ نهم
هناك مصدر آخر مهم للمعلومات. وهو ـ بالطبع ـ الكتب. وربما كان الجانب الأقل اتساقاً في شخصية فيدل كاسترو مع الصورة التي يرسمها له خصومه هو كونه قارئاً شديد الشغف بالكتب حتى ليلتهمها التهاماً. وما من أحد بمقدوره أن يوضح الكيفية التي يمكنه بها أن يجد الوقت أو أي سبل يستخدمها ليقرأ كثيراً على هذا النحو أو بمثل هذه السرعة, على الرغم من أنه يشدِّد على أنه ليس هناك شيء مميز فيما يتعلق بهذا الجانب. في سياراته, ابتداء من الأولدزموبيل العتيقة للغاية, وصولاً إلى سيارات الزيل السوفييتية المتتابعة, حتى سيارات المرسيدس الحالية, هناك على الدوام ضوء للقراءة ليلاً. وعديدة هي المرات التي أخذ فيها كتاباً في ساعات ما قبل الفجر وعقَّب عليه في صباح اليوم التالي. وهو يقرأ بالإنجليزية, لكنه لا يتحدثها. وعلى أي حال فإنه يفضل القراءة بالإسبانية, وهو على أهبة الاستعداد في أي ساعة لقراءة قطعة من الورق تضم حروفاً قد تقع بين يديه. وعندما يحتاج إلى كتاب حديث جداً لم يترجم بعد, فإنه يأمر بترجمته. وقد بعث إليه طبيب من أصدقائه, على سبيل المجاملة, بأطروحته في تجبير الأعضاء وتقويمها, التي كانت قد نشرت لتوها, من دون أي مطالبة, بالطبع, بأن يقرأها, ولكن بعد أسبوع تلقى منه رسالة تضم قائمة طويلة من الملاحظات. وهو قاريء معتاد على قراءة الموضوعات الاقتصادية والتاريخية.
وعندما قرأ مذكرات لي أياكوكا اكتشف العديد من الأخطاء التي لا تصدق بحيث إنه بعث إلى نيويورك يطلب الحصول على النسخة الإنجليزية من الكتاب لمقارنتها بنظيرتها الإسبانية. وكان المترجم حقاً قد خلط بين المعنى المراد في اللغتين برقم البليون. وهو قاريء جيد للأدب ويتابعه عن كثب, ويثقل على ضميري أنني مهدت السبل أمامه إلى إدمان الاستهلاك السريع للكتب التي تضمها قوائم أفضل الكتب مبيعاً ومتابعته بما يستجد منها كجرعة مقاومة للوثائق الرسمية.
الدمية الروسية
مع ذلك فإن مصدر كاسترو المباشر والأكثر عطاء للمعلومات يظل الحديث, ولديه عادة القيام باستجوابات سريعة تشبه (ماتروشكا), تلك الدمية الروسية, التي تخرج من داخلها دمية أصغر, ومن هذه الأخيرة دمية أصغر إلى أن تبقى أصغر الدمى في نهاية المطاف. وهو يطرح أسئلة متتابعة, في انطلاقات فورية, إلى أن يكتشف السبب الكامن وراء لماذا الخاصة بلماذا النهائية. ومن الصعب على من يحاوره ألا يشعر بأنه قد تم إخضاعه لتمحيص بالغ الدقة. عديدة هي المرات التي رأيته فيها يصل إلى داري في وقت متأخر جداً من الليل, وهو لايزال مصطحباً معه البقايا الأخيرة من يوم بلا انتهاء. وسألته مرات كثيرة عن الكيفية التي تمضي بها الأمور. ورد عليَّ أكثر من مرة قائلاً: (على نحو طيب للغاية, فكل المستودعات لدينا مليئة). ورأيته يفتح الثلاجة ليتناول قطعة من الجبن, ربما كانت أول شيء يتناوله منذ طعام الإفطار. وشاهدته يحادث عبر الهاتف صديقته في المكسيك ليطلب منها وصفة, إعداد طبق يحبه, ورأيته ينسخ الوصفة, مستنداً إلى النضد وسط قدور ومقال استخدمت في إعداد العشاء, ولم تغسل بعد, بينما أحدهم يغني في التلفاز أغنية قديمة : (الحياة قطار سريع يقطع ألوف الفراسخ). وسمعته في لحظات حنينه القليلة يستحضر ساعات الفجر الرعوية المنتمية إلى طفولته الريفية, حبيبة ميعة صباه التي هجرته, الأمور التي كان بمقدوره اكتسابها من الحياة. وذات ليلة, بينما كان يأكل آيس كريم الفانيلا في تؤده بملعقة صغيرة, رأيته مثقلاً للغاية بوقر مصائر العديد من الناس, وقد نأى كثيراً عن ذاته, إلى حد أنه بدا للحظة مختلفاً عن الإنسان الذي كانه دوماً. عندئذ سألته عن أكثر شيء في العالم يحب القيام به, فرد على الفور قائلاً: (أريد أن أتسكع عند ركن أحد الشوارع فحسب).