مختارات من:

كاد المعلم أن يكون قتيلا!

عبدالله الشيتي

مارست التدريس "الخصوصي" في العاصمة السورية "دمشق" سنوات قليلة. كنت في النهار معلما، وفي المساء إلى الصبح إلا قليلا، صحفيا ! وكان ذلك من ثلاثين عاما. وكانت تبدو علي المعاناة والنعاس، وفي إحدى الثانويات "الخاصة" تم تعييني. قال لي المدير : إنني بشق النفس أجد الطالب المطرود من مدارس الحكومة - وزارة المعارف وقتها - وأضاف المدير : لكنني أجد المعلمين والأساتذة مثل الهم على القلب منتشرين ! وكان يمنحني آخر كل شهر 200 ليرة سورية "يوم كانت الليرة ليرة" وأذكر في ذلك العهد أنهم أنزلوا أجرة المنازل، لمن لا يمتلك منهم، إلى النصف كنا ندفع 80 ليرة فصرنا ندفع 40، ولأن صاحب البناية عجوز متهدم فقد بكى ذات صباح وهو يقبض مني الأربعين ليرة، فرفعت الجعل الشهري إلى خمس وخمسين ليرة ومن تلقائي.. كنت أدرس مادة "العربي" يومئذ للثانوي، وكنت حديث السن وبعض الصفوف كنت أكبر طلبتها بثلاث سنوات أو أربع، وكان طلبة تلك المدرسة في معظمهم من الذين أمضوا سنتين أو ثلاثا في الفصل الواحد، لم نكن نعرف شيئا عن الكمبيوتر كما هو اليوم، ولا التعليم الطبيعي التخصصي، ولا الحسابات الحديثة ! وذات يوم رأيت طالبا "بشنب "- وكنت حليقه - يقتطع "لقمة" من رغيف الخبز، ويشرب جرعة من "القنينة" الكبيرة.. وكانت على ما بدا لي معبأة بالشربة ! وقلت للطالب في الفصل - قبل أن أحكي لهم عن المتنبي -: "عيب عليك يا فلان ضب رغيف الخبز والشوربة بالعدس" !

فقال ساخرا وكان طالبا كسولا مستجدا : تفضل يا أستاذ. بالهنا والشفا. وقضم لقمة ثانية، وتجرع من القنينة ما شاء ! فما كان مني إلا أن اقتربت منه، ورجوته أن يخفي هذه الأشياء "الممنوعة". فتعلل بأنه لم يتناول فطوره المعتاد.

فما كان مني إلا أن صفعته..!

فاغتاظ محنقا، وهجم علي يريد أن يضربني، فحال الطلبة بيني وبينه وحدث هرج ومرج، وقلت لهذا الطالب المستهتر بكل الأعراف والنواميس :

قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا!

وجاء المدير صاحب المدرسة الثانوية "الخاصة" ! وطيب خاطر الصبي المشاكس، واصطحبني إلى الإدارة حيث وجه لي إنذارا مع خصم ثلاثة أيام ! وقال لي : لولا معزتك عندي لكنت طردتك !. وآخر السنة توليت إصلاح الكراريس، وكان صاحبنا من الراسبين ! ولما قرأنا الأسماء "الناجحين والراسبين" في طابور الصباح، فرح الذين نجحوا وغضب الذين رسبوا ! وكمنوا لي في آخر الدوام.. الراسبون معظمهم يركضون في إثري وأنا أجري بأقصى سرعة ولم أكن كاليوم "ملظلظا"..كنت نحيفا ! وشج رأسي وتركت مهنة التعليم، وأنا أردد : كاد المعلم أن يكون قتيلا ! منذ أسابيع قليلة، دخل علي في مكتبي بمجلة "النهضة" الساعي، وقدم لي بطاقة مذهبة فيها : عبدالرءوف حسين دكتور في الأدب العربي !

وأمرت بدخول هذا الشخص.. قلت له بعد الترحيب.. الآن لا توجد مناصب شاغرة ! وضحك عبدالرءوف وهو يقول : إنني أعمل والحمد لله. عد بذاكرتك سنين طويلة.. أتذكر الطالب المشاغب في الفصل.. الذي لحق بك ورفاقه للثأر منك؟ إنه.. أنا.. وصفعتك تلك صنعتني !.

عبدالله الشيتي مجلة العربي مارس 1996

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016