مختارات من:

عمر أبو ريشة شاعر العروبة... والعذوبة! شاعر العدد

سعدية مفرح

عمر أبو ريشة, أحد خمسة شعراء سوريين لونوا القرن العشرين بقصيدهم في سمته الخاص بكل واحد منهم, ليكونوا عنوانا عربيا رياديا في ذلك السمت, أما الأربعة الآخرون فهم بدوي الجبل, ونزار قباني, وأدونيس, ومحمد الماغوط, كل في فلكه الشعري الخاص يسبح منسجما مع ذاته الشاعرة, حيث الخصوصية مرجعية وأفق, دون أن يكونوا نشازًا في لوحة الشعراء العرب من مجايليهم مثلا.

ولد عمر أبو ريشة في بلدة منبج السورية, عام 1911م على أرجح الأقوال, وفيها ترعرع ودرج وتعلم مبادئ القراءة والكتابة على يد والده, قبل أن ينتقل منها إلى مدينة حلب, حيث دخل مدارسها الابتدائية الحديثة آنذاك, وأتم دراسته فيها, مما أهله لدخول الجامعة الأمريكية في بيروت, والتي ظل بها حتى حصل على شهادة البكالوريوس في العلوم عام 1930م. ثم سافر بطلب من والده إلى إنجلترا ليدرس في جامعاتها فنون صناعة النسيج, وهي الصناعة التي كانت تشتهر بها مدينة حلب آنذاك, فكان والده يريد لابنه أن يصبح متخصصا وفقا لأحدث الأساليب العلمية والصناعية, لكي يمارس تلك الصناعة الجميلة ذات الجذر التاريخي الضارب في عمق حلب, لكن نسيج القوافي كان الأقرب إلى نفس الفتى العربي في لندن, فترك صناعة النسيج لأهلها وانشغل عنها بصناعة القصيد, بالرغم من أن شعره ظل دائما الأبعد عن مفهوم الصناعة, فقد بدت قوافيه دائما من العفوية والسلاسة وكأنه يغرفها من بحر, بدلا من أن ينحتها من صخر. وفقا لتوصيف الفرزدق الشهير في مفاضلته الشخصية مع غريمه جرير.

ولأن عمر أبا ريشة قد اختار أن يكون شاعرا بدلا من أن يكون نساجا منذ تلك المرحلة المبكرة من عمره, فقد ترك لندن إلى باريس, متطلعا لأن يستفيد من أجوائها الثقافية العالمية ما يمكن أن يعزز ذلك الاختيار لديه, لكنه سرعان ما تركها أيضا عائدا إلى حلب عام 1932 ليجد البلاد السورية كلها مشتعلة تحت وطأة الاحتلال الفرنسي, فلم يجد بدا من المشاركة في الحركة الوطنية, التي أدت به إلى السجن أكثر من مرة, وفي كل مرة يخرج فيها من السجن, كان تصميمه على مقاومة المحتل يزداد وقوافيه تشتعل أكثر وأكثر. ولم تستكن قصيدة عمر أبي ريشة الوطنية, حتى بعد حصول سورية على استقلالها, فقد ثار على الأوضاع السياسية غير المستقرة, وتكالب الكثيرون على السلطة وكأنهم كانوا مجرد بدلاء للمحتل السابق. لكن أوضاع سوريا الداخلية وصراعاتها المحلية لم تكن لتلهي أبا ريشة عن أحداث رآها أهم وأكثر تأثيرا مما كان منشغلا به, فقد آمن بوحدة الوطن العربي وانفعل بأحداث الأمة كلها, فكانت تلك الأحداث محركا أساسيا من محركات قصيدته, وقلما تمر مناسبة وطنية عربية دون أن يكون لعمر أبى ريشة فيها شيء من قصيده الثوري, والذي كان يحاول فيه أن يكون لسان حال شباب الأمة العربية, الثائرين على تردي الأوضاع التي أودت بأمتهم في مهاوي ردى السياسة وألاعيبها على امتداد النصف الأول من القرن العشرين بالذات.

وكان لكارثة الاحتلال الصهيوني لفلسطين الأثر الأكبر في نفسية الشاعر, الذي كان يعتبر نفسه عروبيا حتى النخاع. وقد احتلت هذه الكارثة وتوابعها حيزا كبيرا من اهتمامه الشعري, دون أن يتخلى عن شعريته العالية لصالح المباشرة التي تتطلبها القصيدة الوطنية - كما كانت تسمى قصائده التي كتبها عن القضية الفلسطينية - فقد نجح دائما في المحافظة على إبداعه المتكئ على حس مرهف, وموهبة فطرية, وثقافة عالية ومتجددة, وبيان زادته الخبرة سحرا فوق سحره الأولي, فكان بحق شاعر العروبة..والعذوبة أيضا.

عمل أبو ريشة في بدايات حياته العملية مديراً لدار الكتب في حلب, ثم انتُخب في عضوية المجمع العلمي عام 1948م, وبدأ بعد ذلك عمله الدبلوماسي كملحق ثقافي لسوريا في الجامعة العربية, ثم عُيِّن سفيراً لبلاده في البرازيل, وتنقل في عمله الدبلوماسي بين الأرجنتين وتشيلي والهند والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية, إلى أن توفاه الله عام 1990م في مدينة الرياض,حيث حمل جثمانه إلى مسقط رأسه فدفن هناك, وانتصب على قبره شاهد كتب عليه بعض من أبياته التي لخصت فلسفته الحياتية, إجابة عن أسئلة متوقعة, وتوقعا لما قد يكون من مستقبلٍ للبشر في غياهب الموت:


إن يسألوا عني وقد راعهم --- أن أبصروا هيكلي الموصدا
لا تقلقي لا تطرقي خشعة --- لا تسمحي للحزن أن يولدا
قولي لهم: سافر, قولي لهم: --- إن له في كوكبٍ موعدا


من مؤلفاته المطبوعة: (مسرحية ذي قار) ومسرحية (الطوفان) وديوان بعنوان (شعر) و(من عمر أبو ريشة) و(منتخبات شعرية) و(غنيت في مأتمي) وديوان شعر بالإنجليزية.

أما آثاره غير المطبوعة فكثيرة, أهمها: (ملاحم البطولة في التاريخ العربي), وهي مجموعة تزيد على اثني عشر ألف بيت من الشعر, ومسرحيتا (سمير اميس) و(الحسين ابن علي).

سعدية مفرح مجلة العربي يونيو 2006

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016