أمرت العجوز ريغباي شيطانها:
- ديكون. اشعل غليوني!
اشتعل فيه التبغ على الفور, فأطلقت من فمها موجة من الدخان.. قالت وهي تهز رأسها:
شكراً يا ديكون. ابق معي حتى لا أناديك كلما احتجت إليك. أريد أن أصنع ( فزاعة )!.
كانت قد نهضت باكراً كي تصنع فزاعة تنصبها في وسط حقلها الذي زرعته بالحبوب. لأن الغربان والطيور قد اكتشفت بوادر الحب الهندي التي بدأت بالظهور فوق سطح الأرض. فقررت أن تصنع فزاعة تشبه كثيراً رجلاً حقيقياً. فهي من أمهر الساحرات في نيو إنجلاند, ولن تبذل سوى جهد بسيط لصنع فزاعة تخيف أي مخلوق حتى ولو كان وزيراً. ولأنها كانت قد استيقظت بمزاج رائق على غير عادتها, وجلست تتمتع بتدخين غليونها, فقد قررت أن تصنع شيئاً جميلاً وحدثت نفسها:
-لا أحب أن أضع على عتبة بيتي شيئاً مرعباً, كما أنه لا داعي لأن أخيف الأطفال مع أنني ساحرة..قررت أن تصنع الفزاعة على هيئة رجل نبيل جميل, على قدر ما تمكنها المواد التي بين يديها من تحقيق ذلك. أهم تلك المستلزمات عصا المكنسة, لتكون بمنزلة العمود الفقري للفزاعة. كما تكفي بضعة عصي ومقابض لصنع اليدين والقدمين, مع كيس محشو بالقش ليكون جسم الفزاعة. وصنعت الرأس من يقطين جاف بعد أن حفرت فيها حفرتين على شكل العينين, وحفرة ثالثة كأنها فم. وثبتت كتلة زرقاء في وسط اليقطينة مكان الأنف. نظرت الساحرة إلى الوجه الذي صنعته. وتمتمت:
- لقد رأيت وجوها أسوأ من هذا الوجه على أكتاف أناس. وكثير من النبلاء رءوسهم مثل اليقطين أيضاً!. يجب أن تكون ملابس فزاعتي من صنع خياط ماهر.
وبعد أن كستها ألصقت على اليقطينة شعراً مستعاراً, ووضعت فوقها قبعة متسخة لها ريشة طويلة..ثم راحت تحشو الغليون وهي ترنو بنظرة الأمومة نحو اللعبة وتحدث نفسها:
- لها وجه إنساني رائع.. من السخف أن يقف في الحقل لمجرد أن يخيف الطيور والغربان.. إنه جدير بعمل أفضل.. لم لا أعطيه فرصة في هذا العالم الذي يعج بأمثاله من رجال القش والأصدقاء الفارغين?!
أبعدت الغليون عن فمها. ووضعته في فم الفزاعة, وخاطبتها:
- دخن يا عزيزي الرائع. إن حياتك تتوقف على أن تدخن. وسرعان ما بدأ الدخان يخرج من فم الفزاعة, ثم اشتد وتكاثف, وريغباي تردد:
- دخن يا عزيزي الجميل. إنه نفس الحياة بالنسبة لك.
لقد فعل السحر فعله, فوجه اللعبة الأصفر الجاف الذي لم يكن وجهاً على الإطلاق, بدأت تظهر عليه ملامح إنسانية.
ثم أشارت الساحرة إلى الفزاعة بأن تتقدم نحوها. أطاعت الفزاعة الساحرة. ومدت يدها كأنها تريد أن تمسك بالساحرة, ثم خطت خطوة متلكئة إلى الأمام, فكادت أن تسقط. فصرخت الساحرة بغضب:
- دخن أيها الشيء المصنوع من القش والفراغ والحماقة! دخن, لتستنشق حياتك مع الدخان. وإلا نزعت الغليون من فمك وأحرقتك بالشعلة الحمراء.
بعد هذا التهديد, لم يعد أمام الفزاعة إلا أن تتنفس من أجل الحياة العزيزة. فأثمرت جهودها كثيرًا, إذ كانت مع كل نفس من الغليون, تتفتح المزيد من السمات الإنسانية على وجهها, حتى ملابسها صارت تبدو جديدة. أخيراً رفعت العجوز سبابتها وهزتها أمام وجه الفزاعة وخاطبتها بحدة:
- لقد صار لك هيئة رجل.. إني آمرك أن تتكلم. بذلت الفزاعة جهدها فاستطاعت بصعوبة أن تصدر صوتاً منخفضاً:
- أمي لا تقس علي. لقد عزمت على أن أتكلم. ولكنني لا أجد ما أقوله وأنا لا أملك عقلاً.
ابتسمت الأم ريغباي وخاطبت الفزاعة:
- إنك تستطيع أن تتكلم. ألا تقدر أن تتفوه بآلاف الكلمات وترددها آلاف المرات وأنت لا تعني بها أي معنى?!
أجابت الفزاعة:
- سأنفذ أمرك يا أمي
طلبت العجوز من الرجل أن يخرج ليقوم بدوره العظيم في العالم, الذي لا يوجد فيه رجل من كل مائة رجل, أفضل من فزاعتها. وطلبت منه أيضاً أن يعتبر نفسه من أفضل رجال المدينة. ثم زودته بمبلغ كبير من المال.وحتى لا تفشل هذه المغامرة, أعلمته العجوز أن عليه التعرف على رجل عظيم يعمل تاجراً ويعتبر من علية القوم, يسكن في المدينة القريبة. ومن أجل ذلك ما عليه إلا أن يهمس في أذن الرجل بكلمة.. ثم انحنت وهمست بتلك الكلمة في أذن رجلها.. وأعلمته الساحرة:
- هذا الزميل القديم,سوف يرحب بك بسبب ضعفه. وسوف يساعدك عندما تهمس له بتلك الكلمة.. لدى ذلك السيد الوجيه ابنة, ستصبح لك!.
راح الرجل يدخن غليونه بتلذذ ومن أجل الأنفاس التي تهبه الحياة. ويصغي للساحرة ويهز رأسه كلما وجد ذلك مناسبا لحديثها إليه, أو يقول كلمات تلائم الحالة مثل: حقا? في الواقع!.بالتأكيد!.
- ابق ملتصقاً بغليونك لأن حياتك منه. وإن سألك الناس لماذا تفعل ذلك. أعلمهم أن التدخين ضروري لصحتك, ولقد أمرك الطبيب أن تفعل ذلك. وعندما يخبو غليونك يا حبيبي. انفرد بنفسك بإحدى الزوايا. ثم نادي: ديكون تبغ جديد للغليون. ديكون اشعل غليوني. ثم ضعه في فمك بأسرع ما يمكنك. وإلا أصبحت كومة من العصي والملابس الرثة.. الآن ارحل يا عزيزي.
أجاب بصوت عال وهو ينفث الدخان:
- لا تخشين من شيء. سأتصرف مثل رجل شريف نبيل!.
أجابته العجوز وهي تضحك بكبرياء:
- إنك تتقن دورك جيداً. يالك من فتى ماهر. ستواجه بعض الصعوبات وأنت تقف على ساقيك. إذن خذ عكازي. إنها لك.
سوف تقودك الى باب الوجيه غوكين. اذهب يا عزيزي الجميل.وإذا ما سألك أحد عن اسمك, قل له أدعى بذي الريشة, لأنه ثمة ريشة فوق قبعتك.
عادة يصطخب الشارع الرئيسي في المدينة المجاورة كل صباح. ولأول مرة شاهد الناس في هذا الشارع رجلاً غريباً, بدا مثل النبلاء وهو يمشي على الرصيف بمعطفه الفاخر وعلى صدره تلمع نجمة, وبيده عكاز ذات مقبض ذهبي, ويمسك بيده اليسرى غليونا مزيناً بالنقوش, وكلما مشى بضع خطوات يضعه في فمه.
قال أحد المارة: لا شك أنه رجل نبيل عظيم. ألا ترون نجمة على صدره?!
أجابه أحدهم: لا بد أن يكون رجلاً نبيلاً!
علق رجل ثالث: لم أر في حياتي من يتمتع بعظمة مظهره
قال رجل رابع: أعتقد أنه عاش في البلاط الفرنسي. انظروا إليه كيف يمشي! إنه يخطو بثقة.
بين هذه الأصوات المعجبة المندهشة, ارتفع صوتان شاذان عنها: نباح كلب اقترب من الغريب وشم عقب قدمه, ثم هرع إلى فناء سيده وهو ينبح نباحاً غريباً. أما الصوت الثاني, فكان بكاء طفل, فزع عندما شاهد الغريب, فراح يتمتم بعبارات مبهمة عن اليقطين!.
تابع ذو الريشة طريقه وهو مستغرق في التدخين, يتبعه جمهور من أهل المدينة, إلى أن وصل الى المنزل الرائع الذي يقطنه الوجيه السيد غوكين. دخل من البوابة وصعد السلم. قرع الباب, ثم التفت نحو الجمهور وانحنى لهم مودعاً.
عندما لمحت ( بولي غوكين ) الغريب المتألق واقفاً عند مدخل المنزل, أسرعت بارتداء ثياب جميلة.. عندما فتحت الباب, اضطرب التاجر. ثم قدم إلى الغريب ابنته. وقال لها:
- هذا النبيل هو اللورد ذو الريشة. حمل إلي رسالة من صديقة قديمة. أرجوك أن تقدمي له ما يستحق من الضيافة.
لقد فعلت تميمة الساحرة فعلها فأثارت مخاوف التاجر. كما أنه انتبه إلى الرسوم التي على الغليون.. لقد سبق أن قطع للساحرة وعداً ما في مرحلة من حياته القديمة. وما عليه الآن, إلا أن يقدم ابنته للرجل وفاءً للوعد.
بعد أن خرج التاجر من الغرفة. ظلت بولي الجميلة مع ضيفها الشاب في الغرفة.ومع مرور الوقت كانت تزداد انبهاراً بالرجل,فوقعت في حبه بعد مضي ربع ساعة على زيارته لهم. فقدكانت النجمة تتألق على صدره, والشياطين ترقص مبتهجة حول غليونه.. ثم راح ذو الريشة يفتر رويداً رويداً, وبدأت أشعة النجمة تخبو, وصارت ملابسه أقل جمالاً. نظرت الفتاة إلى الرجل, فصرخت وسقطت على الأرض مغمى عليها!?
نظر ذو الريشة إلى المرآة, فرأى حقيقته قبل أن يفعل السحر فعله. فأرخى ذراعيه على جانبيه تعبيراً عن يأسه, وغادر على الفور منزل الوجيه, واتجه نحو بيت الساحرة.
كانت الأم ريغباي جالسة أمام موقد مطبخها. حين سمعت وقع خطوات عند باب بيتها تشبه طقطقة العصي أو العظام الجافة. فتمتمت تحدث نفسها:
- عجيب, أي هيكل خرج من قبره?
دفع ذو الريشة رأسه الطويل من الباب.
- إنه ذو الريشة. غليونه ما زال مشتعلاً. والنجمة تشع فوق صدره. ولم تفقد ملابسه مظهرها الفخم. إذن, لا بد أنه قد حدث خطأ ما!. ثم سألت الساحرة رجلها:
- ماذا حدث? هل طردك المجنون العجوز من بيته? سأنزل به أشد العقاب, وأجبره على أن يقدم لك ابنته جاثية على ركبتيها. أما إذا كانت هي التي رفضتك. فسوف أدمر جمالها خلال أسبوع واحد.
- أماه. اتركيها لشأنها. كنت سأحظى بها, إضافة إلى قبلة من شفتيها الشهيتين. ولكنني يا أمي قد رأيت نفسي في المرآة. كم كنت فارغاً وتافهاً. وعرفت أنني لن أعيش بعد اليوم.
نزع من فمه الغليون وأطاح به إلى الجدار. وسرعان ما سقط فوق الأرض كومة من العصي والقش و الثياب الرثة. فراحت الأم ريغباي تندبه:
- يا صديقي المسكين. يا عزيزي البائس. يا ذا الريشة. ثمة ملايين من البلهاء والحمقى والفارغين في هذا العالم, ليسوا أفضل منك. ومع ذلك يعيشون محترمين!. ولم يروا أنفسهم إطلاقاً, ولا يعرفون حقيقتهم!.. ما الذي جعل هذا المسكين يرى نفسه, ليموت بسبب ذلك!?
حشت غليونها واحتارت في أين تضعه في فمها أم في فم ذي الريشة. وتابعت نعيها:
- يا ذا الريشة المسكين. سهل علي أن أمنحك فرصة ثانية. وأن أرسلك غداً. ولكن لن أفعل. لأن لك مشاعر رقيقة وصادقة جدا, وقلب أعظم من أن يحتمل الحياة في عالم فارغ لا قلب له. فلو أجاد إخوانك في هذا العالم أعمالهم مثلما تفعل الفزاعات, لأصبح العالم أفضل حالاً مما هو عليه الآن.. إذاً فأنا أشد حاجة منك إلى هذا الغليون.
وضعت الغليون في فمها وصاحت:
- ديكون. اشعل غليوني!.
-------------------------------
ناتانيل هوثورن كاتب أمريكي ولد في عام 1804. ومات عام 1864.تطرق في قصصه إلى جوانب عميقة في النفس الإنسانية.