تعد مدينة سدراته من المدن الإسلامية المبكرة بالقطر الجزائري التي لم تنل من الدراسات والأبحاث الجادة إلا الشيء القليل حتى يتمكن من إزاحة اللثام عمّا تحتفظ به من أسرار وكنوز مدفونة تحت الرمال.
شكّلت مدينة سدراته محور اهتمام عدد من الباحثين والرحّالة الأجانب منذ نهاية القرن 19م إلى يومنا هذا. وتمثل هذا الاهتمام في جوانب عدة منها البحث عن تاريخ نشأتها من خلال المصادر والروايات الشفوية المتداولة بالمنطقة, مثلما فعل هنري دفيري (H.DUVEYRIER) (1859-1861), وشارل فيرو (CH.FERAUD) (1871-1872) أو التركيز على معالمها الأثرية البارزة ووصفها وصفاً سطحياً مثلما فعل لو دفيك فيل (L.VILLE) وفكتور لارجو (V.LARGEAU) (1872-1879م), وأخيراً محاولة إجراء تنقيبات أثرية في أماكن مختلفة من أجزاء المدينة كما فعل هـ.طاري وب. بلانشي والمهندس فوشير ومارغريت ف.برشم.
وقد كان لهذه العمليات الأخيرة التي شهدتها سدراته دور كبير في إخراجها إلى النور, وإبراز أهميتها من الناحية الأثرية خاصة, لما أسفرت عنه من نتائج, رغم قلتها, فهي تعد جد مهمة مكنتنا من التزوّد والاطلاع على بعض الجوانب الخفية للمدينة, المعمارية منها والفنية.
والسبب في ندرة الدراسات حول مدينة سدراته يكمن في موقعها الصعب المنال من جهة, وما يتطلبه من إمكانات مادية وبشرية جد ضخمة من جهة أخرى. بالإضافة إلى ذلك, فإن الإهمال الذي عرفته المدينة طوال سنوات عدة أدى إلى إبقائها عرضة لمجموعة من العوامل تفعل بها ما تشاء, فالزوابع الرملية العنيفة التي غالباً ما تعرفها مناطق الجنوب خلال فصل الربيع, وما فتئت تزيد من زحف الرمال وعلو كثبانها وتغيير وضعيتها باستمرار. علاوة على ذلك, فإن الزيارات المكثفة التي كان ومازال يقوم بها فئات مختلفة من المجتمع إلى أطلال المدينة, عن قصد أو غير قصد, أضحت هي الأخرى خطراً يهدد معالمها.
كل هذه الأسباب أدت بطبيعة الحال إلى طمس جزء من منشآت المدينة أحياناً وكشف جزء آخر أحياناً, كما انجر عنها انهيار المباني المكتشفة بفعل التغيير الفجائي بين درجات الحرارة ووطأة المتجولين.
الموقع
تبعد أطلال مدينة سدراته عن مدينة ورقلة في اتجاه جنوب غرب ببضعة كيلومترات والتي تبعد بدورها عن الجزائر العاصمة بحوالي 800 كلم, وهي مدينة شيدت مبانيها بالقرب من مصب وادي مائة الممتد من جنوب غرب جبل العباد إلى قارة كريمة جنوبا وإلى حوالي 20 كلم شمال مدينة ورقلة, ويعتبر وادي مائة من الموارد المائية الرئيسية التي كانت تزوّد المنطقة آنذاك, وهو ما ساعد على استقرار مجموعات بشرية بها منذ أزمنة غابرة.
تتربع المدينة على مساحة تقدر بحوالي 2 كلم2 في اتجاه شمال غرب - جنوب شرق, تشغل مبانيها مجموعة من التلال يتراوح ارتفاعها ما بين 140,99م إلى 150,10م, يحيط بها من الجهة الجنوبية والجنوبية الغربية سلسلة من الجبال أو ما تعرف محليا باسم قارة أشهرها قارة كريمة وجبل العباد. وتعد هذه القارات والجبال بمنزلة شريط دفاعي يحيط بأغلب جهات المدينة, كما يعد بمنزلة ملاجئ يحتمي بها السكان من غارات الأعداء, نظراً لاستواء سطوحها وصعوبة مسالكها وارتفاعها الشامخ من جهة, واحتوائها على أهم عنصر للحياة وهو الماء مثلما كان بقارة كريمة.
إن هذه الميزات الطبيعية التي تتجلى بهذا الموقع فضلاً عن وجوده في مفترق طرق القوافل التجارية, كانت من بين الأسباب الرئيسية المساعدة على استقرار مجموعات بشرية وظهور حضارة راقية لاتزال آثارها ماثلة للعيان.
مدينة لها تاريخ
تزخر منطقة ورقلة بمواقع أثرية تعود إلى فترات ما قبل التاريخ كبرج ملالة وحاسي مويلح وغيرهما, كما تم الكشف عن أدوات حجرية بالمنطقة الممتدة جنوب سدراته, وهي بذلك تعد دليلاً مادياً على أن الموقع كان معروفاً خلال فترة ما بعد العصر الحجري والعصر الحجري الحديث غير أن هذا الموضوع لايزال بحاجة إلى أبحاث ودراسات معمّقة للكشف عن استقرار العنصر البشري بهذا المكان, وأهم الصناعات المنجزة من طرفه, أما بالنسبة للعهد الروماني, فإنه يجهل الكثير عن أوضاع المنطقة خلال هذه الفترة, على الرغم من أن هناك من يعتقد بوجود مخلفات رومانية شمال مدينة سدراته. والحقيقة أن هؤلاء لم يستقروا إطلاقاً بهذه المناطق, بل كانوا يجوبونها في شكل حملات قد يكون الهدف من ورائها جمع الضرائب من القبائل البربرية الموجودة هناك, والتي فضلت هجرة مواطنها الأصلية والاحتماء بهذه الأماكن هروباً من الغزو الروماني.
إن قلة الدراسات الأثرية والافتقار إلى المعطيات التاريخية حول مدينة سدراته, جعلت بعض الباحثين يرجعون تأسيسها إلى بداية الفتح الإسلامي, ونجد في طليعة هؤلاء الباحث جون ليتيو (Lethilleux), والذي يرى أن المدينة بنيت في مطلع القرن 1هـ/ 7 م. وفي هذا الصدد يذكر ج.ليتيو نقلاً عن باستشري أن سبعة من المسلمين استقروا بجبل نفوسة, ثم اتجه اثنان منهم إلى وادي مية ولا يعرف هل قدما إلى الوادي كزائرين فقط أم كانت رغبتهما في الاستقرار هناك, خاصة أن المنطقة كانت تعرف بنشاطها التجاري المزدهر. ويضيف قائلاً: مهما يكن من أمر فعن طريق القوافل القادمة من زنجبار والسودان وصل في 7 رجب 39 هـ (658م) عبدالرزاق بن عبدان بن عبدالحق المولود بحضرموت وأسس مدينة أطلق عليها اسم (تيميمون). وفي سنة 41 هـ (661-662م) ونتيجة لعدم الاستقرار بجبل نفوسة وصلت جماعات أخرى إلى وادي مية قاد إحداها أبو حفص عمروس بن فتح الغار, فقام هؤلاء الوافدون ببناء مسجد ثم شيّدت حوله الدور والمساكن, وبذلك ظهرت سدراته للوجود كمدينة. ويرى فريق آخر أن تأسيس المدينة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنهاية الدولة الرسمية بتيهرت سنة 296 هـ - 297هـ/908م/909م على أيدي الفاطميين, وهروب الناجين من بطش هؤلاء متجهين نحو الجنوب يقودهم الإمام يعقوب بن أفلح.
في هذا الموقع الحصين والمتميز بوفرة مياهه, وجدت تلك الجماعة المكان الملائم بها لتحمي نفسها ومذهبها ولو لفترة قصيرة من الزمن, إذ ما لبثت أن هاجرت عناصر منهم مدينة سدراته إلى مكان آخر يبدو أنه أشد مناعة وأكثر أمانا من الأول, وهو ما يعرف بوادي ميزاب أو مدن الشبكة, حيث تأسست كل من مدينة العطف (1011م) وبونورة (1048م) وبني يزقن وغرداية (1053م).
الهجرة
ويعتقد أن هجرة تلك الجماعات منذ وقت مبكر (أي خلال القرن الخامس الهجري/11م) كان سببها انتشار البدو وقطاع الطرق وانحراف سكانها عن تعاليم الدين الإسلامي الحنيف, خاصة بعد موت أبي صالح جنون, وكذا كثرة القلاقل والفتن التي أضحت تفتك بالمنطقة جلها وتهدد استقرارها. ويبدو أن هذه الفترة تزامنت ودخول المنصور الحمادي (481هـ - 498هـ) (1088م-1104م) إلى المنطقة وتخريبها أثناء حملته الموجهة لمعاقبة الزناتيين بوادي ريغ وورقلة. في حين يرى ابن خلدون أن المنطقة لم تتعرض إلى هجوم شنيع من قبل الحماديين بالشكل الذي يؤدي إلى انهيارها وهجرة سكانها, بل العكس, فلقد عيّن عليها حاكماً يدير شئونها, أما المخطوط الذي تحدث عنه هارولد طاري (H.Tarry), فيذكر أن المدينة اندثرت سنة 1274م من طرف قائد مجهول يدعى (منصور المشرق). هذا الأخير وصل رفقة جيشه إلى سدراته واستقر بها حوالي خمسة وثلاثين يوماً, قام أثناءها بهدم العين التي كانت تسقي المدينة ومزارعها, فرعب أهل المدينة وفروا إلى ناحية التلال الرملية, أي على بضع مراحل جنوبي سدراته. وعندما رجعوا إلى منازلهم وجدوها مهدومة, ويضيف صاحب كتاب العدواني, أن سدراته تم تخريبها من طرف الخليفة الموحدي المنصور مرتين على التوالي, ولم يغادرها في المرة الثانية إلا بعد أن حوّلها إلى صحراء قاحلة, ويذكر ابن خلدون أن تخريب المدينة كان على يد بني غانية ما بين (1224-1227م) لأن المنطقة - على حد قوله - كانت كلها من الموالين للدولة الموحدية, وكان عاملهم يقطن بالزاب آنذاك.
وحسبما يبدو فإن الأحداث التي مرت بها مدينة سدراته, لم تكن لتؤدي إلى زوال المدينة وهجرتها, فالمتمعن جيداً لأنقاضها وما أسفرت عنه نتائج الحفريات السابقة, يلاحظ أن آثار التخريب لا تظهر بالدرجة التي تناقلتها المصادر أو المراجع, بل نعتقد أنه وصف مبالغ فيه, لأن الحياة العلمية تواصلت بسدراته حتى بعد التواريخ سالفة الذكر, يشهد عليها أسماء الأعلام المنتسبين إليها, ولذلك فإننا نرى أن من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى هجر المدينة العوامل الطبيعية, فلقد قلت الموارد المائية والنباتية وحلت محلها العواصف الرملية, ولذا أصبح من الصعب على الإنسان العيش هناك.
أما بالنسبة لتسميتها, فإنه من المرجح جداً أن تكون قد اشتقت من قبيلة سدراته البربرية, وفي هذا الصدد, يذكر الشيخ أعزام أن بلاد سدراته منسوبة إلى شعب من شعوب البربر من بطون زناتة, وهي بلاد كثيرة يسكنها معتنقو المذهب الإباضي قديماً, ولم يترحلوا عنها إلا بعدما خرّبها يحيى بن اسحاق الميورقي المعروف بابن غانية سنة 624هـ عند ثورته على الأمير يعقوب بن المنصور أحد أمراء الموحدين كما كان بيان ذلك في محله, وبقيت البلاد إلى الآن خرابا.
والجدير بالذكر أن تسمية المدينة باسم سدراته غالباً ما كان مقروناً بكلمة ورجلان (سدراته ورجلان) ولم يرد منفرداً في المصادر الإباضية إلا في فترة متأخرة عن الفترة التي عاش فيها الشيخ أبو يعقوب يوسف بن النفاث (1048/1049م), وهذا دليل على التلاحم والترابط بين المدينتين ليس من الجانب العمراني فحسب, بل تعدّاه إلى أبعد من ذلك.
المسجد
شهدت مدينة سدراته عدة تنقيبات أثرية, إلا أن ما يؤخذ على البعض منها أنها لم تبلغ المستوى المطلوب من حيث التنظيم والمنهجية العلمية المتبعة في تقنيات الحفر.
إن جل الباحثين الذين تعاقبوا على مدينة سدراته لم يتعرضوا بطريقة علمية إلى مسجد المدينة, بل اكتفوا بالإشارة إليه بطريقة عرضية, ووصفوه وصفاً يكاد يكون سطحياً. وفي مقدمة هؤلاء الباحثين نذكر فكتور لارجو الذي زار المدينة سنة 1877م, وتعرف على أحد مساجدها وهو في حالة جيدة من الحفظ, ويقول لارجو بشأن هذا المبنى: يوجد بجنوب المدينة المندثرة بقايا لمسجد مستطيل الشكل تبلغ مقاساته 23م x18م وينقسم إلى قسمين من جهة العرض, تقدر مقاسات الجزء الأول حوالي 10م, أما القسم الثاني فيبلغ 13م, وقد كان هذا الأخير مبلطاً ومرتفعاً نوعا ما عن الأول, ونلاحظ به بقايا أحواض محفورة في الأرض يتم تزويدها بالمياه بواسطة قناة تخرج من إحدى زوايا الجدار وهي في حالة جيدة, كما عثر لارجو بهذا المبنى على جزء طنف من الجص تحليه زخارف نباتية تشبه الأرابيسك. أما هارولد طاري, الذي يعتبر أول باحث قام بحفرية حول أنقاض بعض المعالم من المدينة سنة1881م,فقد استطاع, حسب قوله, أن يزيل التراب عن كامل المحيط الداخلي للمسجد, كما يشير طاري إلى أن المسجد كان يحتوي على مدرسة قرآنية تحليها زخارف كتابية هي الأخرى, ويصف بول بلانشي (1898م) المسجد بأنه قاعة مربعة الشكل مغطاة بحوالي عشرين قبوا تقوم على ست عشرة دعامة, زينت جدرانه بأبواب وهمية ونوافذ تحلي أطرها زخارف هندسية بسيطة.
وتعتبر الحفرية التي قام بها المهندس فوشير, ما بين 1943م و 1944م, من أهم التنقيبات التي جرت حول المسجد, فلقد استطاع هذا الباحث إزاحة الرمال عن محيطه, باستثناء الزاوية الجنوبية للمبنى حيث تمكن من الوصول إلى أرضية قاعة صغيرة يبلغ ارتفاعها حوالي 4,43م ومغطاة بقبو, ولقد وضع فوشير مخططاً ورسوماً توضيحية لهذا المعلم, لكن هذه الوثائق لم تنشر بل بقيت حبيسة الأدراج.
أما بالنسبة للباحثة مارغريت فارشم, فقد وقفت هي الأخرى على أطلال هذا المنشأ, وحاولت أخذ المقاسات لبعض أجزائه.
وينطبق وصفها على مبنى تم اكتشافه سنة 1977م من قبل فرقة معهد الآثار (جامعة الجزائر) والذي يعتقد أنه هو المسجد الذي تحدث عنه الباحثون السالفو الذكر, فلقد تمكنت الفرقة آنذاك من إزالة الرمال من المحيط الداخلي لمنشأ يقع في الجهة الجنوبية الغربية وبعض العناصر المعمارية كالسلم والأقواس المطلة على الصحن والدعامات والغرفة المرفقة له. يحيط بهذا المعلم مجموعة من المباني لا يظهر منها سوى الأجزاء العلوية للجدران, أو حلت محلها أكوام من الحجارة.
والجدير بالملاحظة أن هذا المعلم رغم ما يحتويه من عناصر تنم عن انتمائها إلى العمارة الدينية مثل مخططه العام ووجود صحن فإن بعض الباحثين, وفي مقدمتهم مارغريت ف برشم, اعتبروه مسكناً!
ضريح
تم الكشف عن بعض أجزاء بناية أخرى خلال عملية الحفر التي أجريت سنة 1997م, تتكون من غرفتين ضيقتين وغرفة مستطيلة الشكل, يتم الدخول إلى إحدى الغرفتين مروراً برواق, لم يكتشف كله بعد, عبر مدخل ضيق يعلوه قوس نصف دائري متجاوز يقدر ارتفاعه بـ 1,30م وعرضه 57سم, تتصل هذه الأخيرة بقاعة ثانية أقل حجماً منها مغطاة مثل سابقتها بقبو منخفض جزؤه العلوي مندثر.
والجدير بالملاحظة أن وظيفة هذا المبنى رغم أنها لم تحدد بعد نظراً لعدم اكتمال الحفر بها فإننا نرى أنها تشبه - في تكوينها العام وما تحويه من بيوت ضيقة ومتشابكة - ضريح سيدي محمد بن يحيى بتقرت (8هـ/14م) (33), وهو ما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأنه ضريح أنشئ في وقت لاحق.
المباني المدنية
تنحصر المباني المدنية بمدينة سدراته في البيوت العامة والخاصة التي أشار إليها الرحالة أو المكتشفة أثناء عمليات التنقيب, وعلى الرغم من قلتها فإنها تعتبر مهمة, حيث تقدم لنا صورة تكاد تكون كافية عن العمارة المدنية بالمدينة, كما تقدم لنا نماذج حية من العناصر المعمارية التي استعملها البناء السدراتي في مبانيه.
ويعتبر فكتور لارجو أول من أشار إلى هذه البيوت دون تحديد مواقعها, ويذكر في هذا الصدد (أن البيوت الكبيرة لمدينة سدراته ذات شكل مربع وغير منتظمة التخطيط, وهي تتكون من قسمين متقابلين يفصلهما صحن, أحدهما عبارة عن رواق يتكون من بوائك ذات أقواس نصف دائرية وترتكز على دعامات مربعة الشكل. كما لاحظ لارجو بيتاً آخر مربعاً يبلغ طول أضلاعه في جميع الاتجاهات 9م, وبيوتاً أخرى يساوي طولها نفس المقاس السابق, وتتكون من غرفة واحدة يتقدمها صحن مغلق. أما بالنسبة للبيوت بصفة عامة فهي تتكون من غرفة واحدة تقدر مقاساتها ما بين 6 , و7 أمتار, ويلاحظ أن غالبية هذه البيوت كانت جدرانها مكسوّة بطبقة صلبة من الجص. كما عثر طاري على مجموعة من البيوت دون الإشارة إلى مكان وجودها.
القصر أو المحكمة
يقع هذا المبنى بالناحية الشمالية للمدينة, وهو يعد من أروع المباني المكتشفة إلى حد الساعة, لما احتواه من زخارف جصية متنوعة, كانت تكسو جدرانه الداخلية لايزال البعض منها في مكانه الأصلي, اكتشف هذا المعلم من طرف هـ. طاري سنة 1881م حيث يقول بشأنه: لقد اكتشفت قصراً بأتم معنى الكلمة, لأن جدرانه كانت مكسوة بزخارف وفي أسفل تلك الزخارف ترك المعماري توقيعه, ولقد حاولت إعادة نقله ولكنه زال كلية.
و(في الزاوية المقابلة للواجهة), يضيف طاري (عثرت على قاعة تزيّنها عناصر زخرفية يبلغ طولها 4,50م وعرضها 2,50م. أما الحفريات التي قام بها بول بلانشي سنة 1898م فقد أسفرت هي الأخرى عن اكتشاف حوالي أربع وثلاثين حجرة وحوالي 60م2 من الزخارف المختلفة العناصر. كما ترك لنا مخططاً أولياً لهذا المعلم.
البيت المحصن
يقع هذا البيت في الناحية الشرقية للمدينة وسط بقايا الغابات, حيث تبدو جلياً آثار السواقي والفقارات المنطلقة من هذا المكان والمتجهة شمالاً نحو مدينة ورقلة, وشرقاً في اتجاه رويسات, وجنوب شرق في اتجاه قارة كريمة. ولقد كانت محل اهتمام الباحثة مارغريت ف. برشم, خلال سنتي 1951-1952م حيث أجرت بها حفرتين, دامت الأولى حوالي خمسة عشر يوما, أما الثانية فبلغت مدتها حوالي شهرين, ولقد أسفرت هذه الأعمال عن اكتشاف جزء معتبر من مكونات هذا البيت, بالإضافة إلى كمية هائلة من القطع الجصية المزخرفة وقطع فخارية تزيّنها زخارف بسيطة وجرتين مختلفتي الأحجام, صنعت إحداهما من الطين المحروق ويقدر ارتفاعها بـ1,70م وتحتوي على أربعة مقابض وغطاء, تحتوي بداخلها على بقايا عظام وقطع زجاجية. أما الثانية فكانت ذات لون تركوازي تنتهي في مؤخرة عنقها بضفيرة, وهي ذات مقبضين ينتهيان ببروز معقوف. كما تم العثور على حلية من الفضة وأحجار لعقد امرأة وقنوات لتصريف أو جلب المياه.
وما تجدر الإشارة إليه, أن الحفريات التي أجريت بهذا البيت لم تمس إلا الجهة الشرقية منه, ومع ذلك كانت حصيلة الزخرفة المكتشفة قد بلغت الثمانية صناديق تم نقلها إلى الجزائر العاصمة.
البيت ذو الجرار
يقع هذا البيت في الناحية الغربية للمدينة, تم اكتشافه أثناء عمليات التنقيب التي قام بها الباحث طاري سنة 1881م , ثم أعيد استخراجه من تحت الرمال من طرف مارغريت ف. برشم, سنة 1952م . يأخذ المبنى شكلاً مستطيلاً غير منتظم الأضلاع (لوحة 4), يتم الدخول إليه عبر باب محوري فتح في الجدار الشمالي الشرقي, ويؤدي مباشرة إلى ساحة فسيحة, يحيط بهذه الساحة من الجهتين الشرقية والغربية غرف وأروقة مستطيلة وضيقة. كما فتحت بالجدار الغربي وعلى ارتفاع 1,144م عن الأرضية حنيات مضلعة يعتقد أنها استخدمت كخزانات أو كأماكن لوضع وسائل الإنارة, وتتصل هذه القاعة بالغرفة التي تتقدمها بواسطة مدخل عرضه 1,19م, وتعتبر هذه الأخيرة بمنزلة ساباط (رواق) يطل على وسط الدار ببائكة من ثلاثة عقود حدوية ترتكز على دعامات وأعمدة مدمجة تقوم على قاعدة مربعة, ويعد الساباط من بين الأماكن الضرورية في البيت الصحراوي, فيه يجتمع أفراد الأسرة وقت الحر وبه تؤدى جميع الأغراض المنزلية.
الخاتمة
يتبين لنا من خلال المعطيات التاريخية والأثرية التي قدمت في هذه العجالة, أن اختيار موقع مدينة سدراته لم يكن عشوائياً بقدر ما كان مستمداً من شروط بناء المدن الإسلامية, كما يبدو من خلال ملاحظاتنا في عين المكان أن بناءها مر على مراحل عدة كان سببه النزوح المستمر للمجموعات البشرية.أما بالنسبة لعمارتها فقد امتزجت العناصر المحلية بعناصر أخرى (مغربية ومشرقية) لتشكل في النهاية عمارة موحدة ومنسجمة تندرج ضمن العمارة الإسلامية بصفة عامة وتزيدها ثراء وتنوعا. وهو دليل آخر على التسامح والتآخي الذي كان يعرفه المجتمع السدراتي برمته.